- ١ -
كلمة الفكاهة - برغم تداولها - من الكلمات التى يصعب تعريفها ، ومن الممكن أن نقول إنها الحالة العقلية التى تجعل صاحبها يثير الضحك والسرور . وقد كثرت الفكاهة فى الآداب العالمية كلها ، وأصبحت تحتل اليوم مكانا رفيعا وسط الفنون الأدبية ، بل الفنون العامة ، فاستخدمها الرسامون فى تصويرهم الكاريكاتورى ، واستخدمها السياسيون والصحفيون فى نكتهم التى لا تنفد ، وامتد ذلك إلى صحافتنا الحديثة ، حتى خصصت لها بعض المجلات الهزلية .
ومن يرجع إلى الأدب العربى يجده زاخرا بصنوف الفكاهة وألوانها المختلفة ، فكتبة العامة تعرض علينا دائما دعابات ومدحا ونوادر ونكتا . وإذا كانت الصحافة الحديثة قد تخصصت بعض مجلاتها بالفكاهة ، فكذلك تخصصت بعض كتب الأدب العربى بها ، وامتلأت بلعبها ومضحكاتها . فالفكاهة عند العرب فرع مهم من فروع أدبهم ، وقد بدأ هذا الفرع فى الخروج من الشجرة الكبيرة لهذا الأدب منذ أن تكامل المجتمع العربى وأخذ شكل المدينة ، أى منذ أن مصر العرب الأمصار ووجدت الجماعة العربية بالمعنى الكامل .
وطبيعى أن لا تكون فكاهة فى الأدب الجاهلى إلا فكاهة قليلة باهتة ، لأن حياة البدو حياة فردية ، والفكاهة تحتاج دائما جماعة حتى يوجد الضحك والضاحكون ، فالرجل الذى يعيش وحده أو فى شبه انعزال لا يستطيع أن يكون فكها . واستمع إلى نكتة بين جماعة يجلسون بالقرب منك ، فإنها لا تضحكك كما أضحكتهم ، لأنك لست من الجماعة ، ولو كنت منهم لأغرقت فى الضحك مثلهم ، فالفكاهة لا تتم ، ولا تصبح فنا بالمعنى الصحيح إلا فى إطار الجماعة ومجتمع المدينة بنوع خاص .
وأول فنان اشتهر بالفكاهة فى عصور العرب الأولى (( أشعب )) مضحك أهل المدينة ، وكانت له قدرة على إضحاك الناس بإشاراته وحركاته وبكلامه وعباراته ، فيروى أن فكاهيا جديدا نبت فى المدينة يسمى الغاضرى ، وعلم أشعب أن الناس يعجبون بنوادره ، فراقبه ، حتى عرف أنه فى أحد مجالسهم ، فصار إليه ، ثم قال له : بلغنى أنك نحوت نحوى ، وشغلت عنى من كان يألفنى ، فإن كنت مثلى فافعل كما أفعل ، ثم غضن وجهه ، وعرضه وشجه ، حتى صار عرضه أكثر من طوله ، وصار فى هيئة لم يعرفه أحد بها ، ثم أرسل وجهه ، وقال له : افعل هكذا ، وطول وجهه ، حتى كاد ذقنه يجوز صدره ، ثم نزع ثيابه وتحادب ، فصار فى ظهره حدبة كسنام البعير ، وصار طوله مقدار شبر أو أكثر ، ثم قام فتطاول وتمدد ، حتى صار أطول ما يكون من الرجال . فضحك الناس حتى أغمى عليهم . ومن حقهم أن يضحكوا ويفرقوا فى الضحك ، فأمامهم أشعب يتحول إلى ما يشبه الآلة المطاوعة بما يعطى عرضه وما يعطى طوله ، وما يسدل على وجهه من غضون ، ثم هذا التحادب الذى يتصلب جسمه فيه ، والذى يجعل الناس يظنون أن الحدب شىء يمكن صنعه ، أو تقليده ، وإن كل تقليد على هذا النحو لقبح فى الإنسان ليستخرج منا الضحك ، إذ يجعلنا فى شبه ذهول نفقد فيه منطقنا القديم للشخص دون وحى أو شعور . وأى فارق الآن بين أشعب والصور الكاريكاتورية التى تضحكنا بما نرى فيها من تشوه واعوجاج فى الخلق ؟ !
ولم يكن أشعب يضحك أهل المدينة بإشاراته وحركاته وتجسداته الكاريكاتورية فحسب ، بل كان يضحكهم أيضا بعباراته ونكته التى أحصت كتب الأدب العربى منها طرفا ؛ فمن ذلك أن عائشة بنت عثمان بن عفان مولاته دفعته فى أول حياته إلى البزازين وهم تجار الأقمشة ، ليحسن صنعتهم ،
فمكث عندهم حولا ، فسألته بعد الحول عما تعلم ، فقال لها : تعلمت نصف العمل وبقى النصف، قالت : وما تعلمت ؟ فقال : تعلمت النشر وبقى الطى . وقال له جماعة : ألا تحفظ أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تتحدث بها ؟ فقال : أنا أعلم الناس بالحديث . فقالوا : حدثنا ، فقال : حدثنى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما ، قال خلتان لا يجتمعان فى مؤمن إلا دخل الجنة ، ثم سكت ، فقالوا له : هات ما الخلتان ؟ قال : نسى عكرمة إحداهما ، ونسيت أنا الأخرى . وقيل له : ويلك يا أشعب ! أبوك صاحب لحية كبيرة وأنت صاحب لحية قصيرة ، فإلى من خرجت تشبه ؟ قال : إلى أمى . ودعا حلاقا يحلق له لحيته فقال له : أنفخ شدقيك حتى أتمكن منك ، فقال له : أأمرتك أن تحلق لحيتى أو تعلمنى الزمر ؟
وهكذا كان أشعب يطرف أهل المدينة بنكته ونوادره ، فهو أراجوزهم ، بل هو أراجوز الأدب العربى الأول لذى كان أهل المدينة يحركون خيوطه حسب رغباتهم . وكان قلما يعقد مجلس من مجالسهم إلا وحضره أشعب ، وكذلك فلما تصنع مائدة إلا ويدعى إليها ليفكه المدعوين . ويروى أنه أكل يوما على مائدة نوعا من الحلوى فسأله رب الدار : كيف تجده ؟ فقال : أنا برىء من الله ورسوله إن لم يكن عمل قبل أن يوحى الله عز وجل إلى النحل ، أى ليس فيه من الحلاوة شىء . ويروى أن بعض ولاة المدينة وكان بخيلا قدم على مائدته يوما جديا ، فلم يمسسه أحد ، إلا أشعب ، فإنه تعرض له من بينهم ، وسرعان ما تساءل الوالى : أليس لأهل السجن إمام يصلى بهم ؟ قالوا : لا . قال : فليصل بهم أشعب . فقال أشعب : أو غير ذلك أصلح الله الأمير ؟ قال : وما هو ؟ قال : أحلف أن لا آكل لحم جدى أبدا .
ولم يكن يتولى المدينة وال إلا ويطلب أشعب ، فهو اللعبة اللطيفة التى يروح بها الوالى عن نفسه . وارتفع اسمه إلى الوليد بن يزيد الخليفة الأموى ، فطلبه ، وحمل إليه ، فلما حضر عنده كان يلبسه لبسة قرد لها ذنب ، وكانت تشد فى رجليه أجراس وفى عنقه جلاجل . ولم يزل فى ندماء الوليد وخاصته حتى قتل . وعلى هذا النحو كان أشعب محترف الضحك والإضحاك فى عصره بحركاته وصوره الكاريكاتورية ، وبنوادره ونكته ودعاباته . وبملابسه وأزيائه وما يمثل من قرود وغير قرود ، فهو أراجوز كامل يقدر على إثارة
الضحك بكل الصور المختلفة من وجهه وجسمه ولسانه . وقد أخذت تخلفه فى العصور التالية جماعات من المضحكين ، واشتهر منهم من طلبه الخلفاء والوزراء ونادموهم . ومنهم من كان يسقط حتى يصبح سخرية ، أو كما يقال مسخرة ، ومنهم من كان يظل متماسكا له شخصيته ، مهما تظرف وتملح . ومن أشهر هؤلاء أبو دلامة نديم السفاح والمنصور والمهدى . ويروى الرواة أن السفاح قال له : اسأل . قال : كلبا ، فقال له : ويلك ! ما تصنع بالكلب ؟ قال : أصيد به ، قال : فلك كلب ، قال : ودابة ، فقال السفاح : ودابة ، قال : وغلاما يركب الدابة ويصيد ، فقال السفاح : وغلام ، قال : وجارية ، قال : وجارية ، فقال : يا أمير المؤمنين كلب وغلام وجارية ودابة ، هؤلاء عيال ولا بد من دار ، قال :
ودار ، قال : ولا بد لهؤلاء من غلة ضيعة ، قال : أقطعناك مائة فدان عامرة ومائة فدان غامرة ، قال : وأى شىء الغامرة ؟ قال : غير الزارعة ، فقال : أنا أقطعك خمسمائة فدان غامرة من فيافى بنى أسد ، قال : قد جعلنا لك المائتين عامرتين كلها ، ثم قال : أبقى لك شىء ؟ قال : نعم يديك ، قال : أما هذه فدعها . قال : ما منعت عيالى شيئا أهون فقدا على منه . وفى هذه القصة ما يدل على مدى حيلة أبى دلامة وتأدبه فى السؤال وما كان يطبع به من ميل للفكاهة . وتروى له نوادر مع الخيزران زوجة المهدى لا نستطيع أن نقصها لطولها . ويقال إنه دخل على أم سلمة زوجة السفاح بعد وفاته فعزاها فيه ، وبكى وبكت معه ، فقالت أم سلمة : لم أر أحدا أصيب به غيرى وغيرك يا أبا دلامة ، فقال : ولسنا سواء يرحمك الله ، لك منه ولد ، وما ولدت أنا منه . فضحكت ، ولم تكن منذ مات السفاح ضحكت إلا ذلك الوقت ، وقالت له : لو حدثت الشيطان لأضحكته .
ومن هؤلاء الندماء المضحكين أبو العيناء نديم المتوكل وغيره من خلفاء القرن الثالث للهجرة ، وكان من ظرفاء العالم ، آية فى الذكاء واللسن وسرعة الجواب ، وله نوادر وطرف كثيرة ، وهى كلها تدخل فى باب الأجوبة المسكتة ، وكان فى أول أمره بصيرا ، ثم فقد بصره . ومما يروى عنه أنه قيل له : فلان يضحك منك ، فقال : ((إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون)) . وقال له شخص : يا فاسق . فقال : ((وضرب لنا مثلا ونسى خلقه)) . وسئل عن مالك بن طوق ،
أحد معاصريه ، فقال : لو كان فى بنى إسرائيل حين نزلت آية البقرة ما ذبحوا غيره . وتخاصم مع هاشمى ، فقال له : تخاصمنى وقد أمرت أن تقول اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد ؟ فقال : ولكنى أقول وعلى آل محمد الطيبين الطاهرين ، فتخرج أنت ، وقيل له : ما تقول فى ابن مكرم وابن رستم ؟ قال : هما الخمر والميسر إثمهما أكبر من نفعهما . ومر يوما على دار عدو له . فقال : ما خبر أبى محمد ؟ فقالوا : كما تحب ، قال : فما لى لا أسمع الصياح والعويل ؟ ! ووقف عليه شخص فلما أحس به قال : من هذا ؟ قال : رجل من بنى آدم ، قال : مرحبا بك ، أطال الله بقاءك ، لقد كنت أظن أن هذا النسل قد انقرض .
وتتقدم بعد أبى العيناء ، فتلتقى بابن الجصاص ، نديم وزراء الخليفة المقتدر فى أوائل القرن الرابع للهجرة ، ويقال إنه كون ثروة كبيرة من نوادره وفكاهاته ، وكان يعمد فيها إلى التباله وإظهار الحمق والغباء ؛ فمن ذلك أن عالما كبيرا من علماء بغداد ماتت أمه ، فذهب إليه الكبراء والرؤساء يعزونه ، وبينما هم عنده والجو كله خشوع وصمت ، إذا ابن الجصاص يدخل ضاحكا وهو يقول : الحمد لله ، لقد سرنى
والله ، فدهش العالم ومن حضروا عنده ، فقالوا له : كيف سرك ما غمه وغمنا ؟ فقال : ويحكم ! بلغنى أنه هو الذي مات ، فلما صح عندى أنها هى التى ماتت سرنى ذلك فضحك الناس جميعا ، ومن نوادره أنه كان يأكل لوزا يوما فطارت لوزة فقال : لا إله إلا الله ، كل شىء يهرب من الموت حتى البهائم . وأعجب بفرخ فى يد غلام له فقال : أنظروا إلى هذا الفرخ ما أشبهه بأمه ! ثم سأل الغلام هل أمه ذكر أو أنثى ؟ ودخل على مريض فشكا المريض إليه وجعا فى كتفه ، فقال : والله ما أنام من وجع كتفى ، وضرب بيديه على ركبتيه .
وهكذا كان هؤلاء المضحكون يطرفون الناس بمثل هذه النوادر التى تروى عنهم . وكان الواحد منهم لا يلم بمجلس من مجالس الخلفاء والوزراء حتى يصبح أراجوزا ، وكأنما شدت فيه أسلاك وخيوط ، فلا يهز هذه الخيوط والأسلاك أحد حتى تنهال عليه الفكاهات . وما زال هؤلاء المضحكون والمندرون يقومون بهذه الوظيفة حتى شاعت لعبة الأراجوز فانتقلت إلى مسارحها هذه الشخوص المضحكة .
