الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 39الرجوع إلى "الثقافة"

من الأدب الفرنسى :, اعترافات امرأة، للقصصى الفرنسى موباسان

Share

يا صديقى . . . لقد طلبت إلى أن أقص عليك أغرب حوادث حياتى ، وأعلقها بذهنى ، وأكبرها أثرا فى نفسى . وإنى الآن وحيدة فى هذه الحياة ، فلا قريب لى ولا ولد ، ولذلك أرى نفسى فى حل من الاعتراف لك بما تريد ، وأن أقص عليك ما تحب ، ولكن بشرط واحد . . . هو أن تبقى اسمى فى ظل الكتمان ، وتسدل عليه ستارا من النسيان ، فلا تذيعه بين الناس ، ولا تنشره بين صفحات كتبك .

لقد كنت محبوبة من الكثيرين ، وكنت ذات جمال رائع ، وحسن بارع ؛ ولكن مما يؤسف له أنك لا تكاد تتبين آثار ذلك الجمال الذاهب ، والحسن الدابر ، لأن يد الشيخوخة القاسية امتدت على صفحة وجهى فمسحت منها ذلك الجمال الرائع ، ولم تبق منه أثرا يستدل به .

الحب يا صديقى  هو حياة الروح ، كما أن الهواء حياة الجسد ، ولا يحيا جسم إلا به ، وكان بودى أن أموت ، وكنت أفضل أن أورارى فى الثرى ، ويهال على التراب وأغيب في رمسى ، دون أن أبقى فى الحياة من غير أن أعلم أن هناك قلبا يميل إلى ، وفؤادا يهيم بى ، ونفسا تعشقنى ، وإنسانا يمنحنى الحب والغرام .

يا صديقى سأروى لك قصة من قصص هذا الحب الذى

كان له تأثير كبير فى مجرى حياتى ، ولم يكن قد مضى على زواجى بالكونت هرفيه دى كير غير سنة واحدة ، وكان زوجى رجلا طويل القامة ، عريض المنكبين ، بادى القوة ، وكان صاحب ثروة طائلة ؛ ولكن كان إلى جانب هذا كله أقل ذكاء من أمثاله ، وكان جافى اللسان . معوج المنطق ، ولم يكن زواجى بالكونت واقعا عن حب وغرام ، ولكنه كان زواجا هيأته الظروف ، كما تهيىء للإنسان أن يربح على المائدة الخضراء مبلغا وفيرا من المال .

وكان لنا قصر نسكنه ونأوى إليه ، وكان ذلك القصر شامخ البنيان ، عالى الأركان ، قديم البناء ، كأنه أحد القلاع أو الحصون ، وكان قائما فى منعزل عن الأرض ، تحيط به حديقة مترامية الأطراف ، كثيرة الأشجار ، ملتفة الأغصان ، وكان حارس الحديقة رجلا كثير الاخلاص لزوجى ، يجود فى سبيله بكل غال لديه ونفيس عنده ، وكانت لى أنا الأخرى خادمة حسناء ، وهى فتاة اسبانية ، وكانت تخلص لى الحب ، وتكن لى التقدير والاجلال . . .

وابتدأ فصل الخريف ، وبدأ معه فصل الصيد ، وكان الصيد ملهاتنا الوحيدة ، ورياضتنا المحبوبة فى عزلتنا ، فكنا ندعو جيراننا للصيد معنا فى أرضنا ، كما كانوا هم يدعوننا

للصيد فى أرضهم ؛ وفى يوم من الأيام رأيت بين من دعاهم زوجى للصيد شابا اسمه البارون دي جيز ، كان يطيل إلى النظر ، ويحدق بي كثيرا ، وبدأ بعد ذلك يتردد علينا . ولكنه انقطع فجأة ، فلم تساورنى ريبة ، ولم يأخذنى شك ؛ ولكنى لحظت بعد ذلك أن زوجى قد تغير خلقه ، وبدا عليه أنه مهموم النفس منقبض الصدر مؤرق الليل قلق النهار كثير الصمت قليل الكلام طويل التفكير ؛ وكف عن تقبيلى كما كان يفعل ذلك كل مساء ، وحتى أصبحت من عاداته . وصرت أسمعه كل ليلة يمشى محاذرا فى خطواته حتى يلصق أذنه على باب غرفتى ينصت إلى ، ويتسمع لى ، ثم يبتعد فى احتراس وحذر ، فشكوت له ذلك ، فأجابنى وهو مسبد عدم اكتراثه وقلة اهتمامه :

- هو الحارس يطوف . ولحظت ذات ليلة أن صدره انشرح ، ووجهه أضاء ، ونفسه انشبطت ، وقرت عينه ، وأثلج فؤاده ، واطمأن خاطره ، على غير ما كان عليه أخيرا . وقال لى فى تلك الليلة بعد أن فرغنا من طعام العشاء :

هل لك يا عزيزتى أن تأتى معى فنترقب ثعلبا يجىء حديقتنا كل ليلة فيبعث فيها فسادا فنصطاده ؟

فدهشت لطلبه هذا ، وهممت بالرفض ، ولكنى رأيته يحدمنى بنظرة غريبة لم أعهدها منه ولم آلفها ، فلم أجرؤ معها على الرفض ، بل أجبته قائلة :

- يسرنى يا عزيزى أن أجىء معك : وما وافت الساعة العاشرة حتى هب زوجى واقفا وقال : - أمستعدة أنت للمسير الآن ؟

فأومأت إليه بالإيجاب . فتقدم وجاءنى ببندقيتى ، فسألته هل أحشوها بالرش أم بالرصاص ؟ فأجابنى وهو ينظر إلى نفس تلك النظرة الغربية الموحشة :

بل احشيها بالرصاص ، فإنى أخشى ألا يقتل

الرش الثعلب . وسكت هنيهة ثم قال : - لك يا عزيزتى أن تفخرى وأن تتيهى على أترابك بما أنت عليه من سكون ، وما أنت عليه من رباطة جأش وتملك لأعصابك ، إزاء هذا الحادث . . .

فضحكت وقلت له : - رباطة جأش ؟ وهل تريدنى أن أضطرب ويأخذنى الفزع ، وأن أفقد السيطرة على أعصابى لذهابى لاصطياد ثعلب ؟

وخرجنا من القصر والسكون يحف بنا ، والظلام يخيم علينا ، وسرنا خلال الحديقة حتى انتهينا إلى ناحية بعيدة منها ، وأخذنا مكاننا تحت شجرة كبيرة مائلة الأغصان متشابكة الفروع ، حيث حجبتنا عن الأنظار وأخفتنا عن العيون ، ومكثنا هنالك صامتين ، وكنت أمتع نفسى بجلال الليل ، وسكونه الرهيب ، فتمتلىء نفسى خشية ورهبة ، وكان زوجى قد أرهف أذنيه لكل حركة خفيفة كأنه يخشى عدوا ويترقب مجيئه ، وقال لى زوجى على حين غرة :

- أتخافين شيئا ؟ وهل أنت مسيطرة على أعصابك ؟ فأجبته والدهشة آخذة منى :

- ومم أخاف ؟ إن أمرك لعمر الحق عجيب فى هذا المساء !

فلم يجب ، وطال بنا الصمت حتى أثقلنى . فقلت : - أأنت على ثقة من أن الثعلب يمر من هذه الناحية ؟ فانتقض زوجى ، واهتز كأنما أصابته طعنة فى صدره ،

وأجابنى بصوت بطىء ملؤه السخرية الأليمة : - كل الثقة ، فلتطمئن نفسك ، وليثلج فؤادك ، وليهدأ قلبك .

وعدنا مرة أخرى إلى الصمت ، وأخيرا بدأ التعاس يغالبنى ، ويداعب أجفانى بأنامله اللطيفة ، وإذا بى أجد

زوجى يهزنى بشدة وهو يقول : انظرى وأشار إلى مكان غير بعيد تحت الأشجار .

فحددت البصر وأنعمت النظر قليلا ، ولكنى لم أتبين شيئا لشدة الظلام ، وحلوكة الليل ، وهنا بدا القمر وأرسل بصيصا من ضوئه الفضى ، ولكنه كان حائل اللون ، لأنه كان فى أواخر الشهر . ورأيت زوجى قد أمسك بيندقيته وسددها واستعد لإطلاقها ، وهو ينظر إلى نفس تلك النظرات الغريبة ، فنظرت أمامى حيث سدد قوهة البندقية فوجدت رجلا يمشى بخطى سريعة وهو يحاول الاختفاء فى ظل الشجر ، فاستولى على الذعر ، وأفلتت من فمى صرخة عالية ، وقبل أن أتمكن من تحويل ذراع زوجى ، دوى فى أذنى صوت انطلاق الرصاصة ، ورأيت الرجل يسقط على الأرض متخبطا فى دمائه ؛ فملكنى الخوف وغشيتنى قشعريرة من هذه المجزرة البشرية ، واستولى على رعب شديد ، فأخذت أصرخ وأصرخ صرخات حادة بعضها إثر بعض كمن به مس ؟ .

وبعد ذلك وجدت زوجى قد أمسكنى بشدة وحملنى بين ذراعيه كما لو كان يحمل طفلة صغيرة ، وأخذ يعدو بى ناحية القتيل وألقانى فوق الجثة . . .

فى هذه اللحظة أحسست بالموت ، وببرودته تسرى فى أعضائى ، ورأيته يصوب نحوى بندقيته ، فملكنى رعب عقل لسانى ، وجف منه حلقى ، ولكنى رأيت يدا تدفعه من الخلف دفعة قوية ، فسقط منها على الأرض ، إذ لم يستطع أن يحتفظ بتوازنه ، فهممت واقفة ، وقد ملكنتنى دهشة وأنا لا أعى مما حولى شيئا ولا أدرك أمرا ، فنظرت وإذا بخادمتى الأسبانية هائجة كاللبؤة تدافع عن أشبالها ، ثائرة كالفهد ، وهى تلطم زوجى على وجهه ، وتركله بقدمها وتكاد تمزق وجهه بأظافرها . .

وتركت زوجى فجأة وانحنت على القتيل وارتمت عليه ،

وأخذت تضم ذلك الجسد الملقى الأرض إلى صدرها ، وتقبله قبلات حارة ، وهى تنشج نشيجا محزنا ، وتبكى بدمع هتون ، والدموع تنزل بغزارة من عينها النجلاوين وهي كحبات اللؤلؤ .

ورأيت زوجى بعد ذلك قد قام من سقطته ، وقد أدرك خطأه وقصر نظره ، وعلم ما جنت يداه ، فارتمى على قدمى وهو يقول :

- عفوك يا عزيزتى فلقد اتهمتك ظلما ، وظننت بك الظنون ، وإذا أنت بريئة من كل تهمة ، ولكنه حارس الحديقة هو الذى خدعنى هذه الخدعة . . .

فنظرت إليه نظرة باردة قاسية ، حوت كل معانى الازدراء والاحتقار البالغ ، وأدرت له ظهرى ، ويممت وجهى نحو القصر . (سيدي بشر)

اشترك في نشرتنا البريدية