للأدب الشعبي تأثير بالغ في حياة الشعوب العربية ، وخاصة في الأقطار الصغيرة ، وعدن من بلادنا العربية التي تتأثر بالأدب الشعبي كل التأثر وبنتشر فيها انتشار السكر في الماء القراح . وأظهر ما يتمثل هذا التأثر في الوسط الشعبي بين النساء والأطفال الصغار ، فالمرأة حين تنهمك في عملها المنزلي لا ينفك فمها ينشد الأشعار الشعبية ، كذلك الطفل يحفظ الزجل ثم يأخذ في ترديده ومشاركة سواء من الأطفال في هذا الترديد ، في الأسواق المكتظة وفي الدروب الحافلة . وفي ساعات اللهو وأوقات اللعب . ونري الشاعر الشعبي إذا ما قال شعرا سرعان ما يتلقفه الناس ، وسرعان ما يدب ديب الحياة في الوسط الشعبي ، كما يصدح المطربون بهذه الأزجال وتلك الأشعار في ( مبارز القات والمخادر )
والبيئة العدنية توجه الأدب الشعبي حسب مواضعائها واتجاهاتها ، وهو على هذا الوضع يتجه اتجاهين : الاتجاه الأول هو فيما تتقي به النساء في دورهن وفيما ينشده المطربون في مجالسهم ، وهو رقيق عذب ، يهتم بالوصف ويعن فيه ، ويأتي بأساليب الحياة الشعبية والحكم المستعذبة والأمثال المقبولة . أما الاتجاه الثاني فهو ما يسري على ألسنة الأطفال والشباب وما تقبض له أفئدتهم وتزخر صدورهم . وهو قوي عنيف ، فيه التبكيت وفيه الحياة ، وفيه الاندفاع والسخرية ، وفيه الحرارة والحماس ، وفيه النمم والتلميح
والاتجاه الثاني قد ولدته البيئة الحديثة وشكلته الطفرة السريعة التي طفرتها عدن في الاتجاه الفكري والمنحي الادبي والتحرر من القيود والثورة على القديم والتخلص من الرجعية والتقاليد ، وكل تلك العناصر ممثلة في الشباب الحديث ، وهذا الشباب في عدن اليوم هو الحياة والحبوبة مجسمة . لذا لا غرو أن تلقي اندفاعا من الأدب الشعبي العدني تجاء تلك العناصر ، كما أننا نلحظ أن علة هذا الاندفاع
وتلك الإجادة التي تحوطه بعنايتها هي حداثة تلك العناصر وحداثة خالقها ومثلها ، فلو فارنا بين حيوية الحاضر وطفرته ورجعية الماضي وحموله ، رأينا يونا شاسعا بين هذه وتلك ، وأدركنا عندئذ علة الانداع الزجلي الحديث في هذا البلد العربي الصغير .
وهناك اتصال وثبق بين اللهجة والأدب الشعبي . واللهجة المدنية تدو من اللهجة المصرية ، وهي أسهل من اللهجات العربية الأخرى كاللهجة الكويتية والبحرينية والعمانية .
. ومما أدى إلي الاندفاع والاتجاه الجديد في الأدب الشعبي المدني أن البيئة المدنية تستحوذ عليها جدة الحياة الأدبية وطرافتها ، وأنها قد وجهت نظرها تجاه عنصر الأدب دون الدفاع طارق في سواء من العناصر الاقتصادية والسياسية
وعدن تعيش في جو ملائم للنقد دافع له حافز إباء فثمة احاطة بالمحمات وحماية من البريطانيين ، وانقباض من رجعية البيئات المحيطة بها . إلى غير ذلك من الغبار والبخار اللذين بشكلان هذا الجو ويوجهان تلك البيئة التوجيه الاندفاعي في الأدب الشعبي ، تؤازرهما عداوة التقاليد ورقي الأدب وسلاسة اللهجة ومواجهة الضغط ووازع التحفز وجدة الاتجاهات والمواصفات .
والأدب الشعبي المدني لم يصل بعد إلى الشأو البعيد للرجو ، فهو يهب في اتجاه ويهمل آخر ، ويندفع في سبيل دون وعي ولا ترو . وتلهب الأحداث بعض السبل فيه ، وتخمد فيه جمرة سبل أخري ، وتبدد من حوله جهود ومؤازورات عدة توهن من حدته وتذره لتدمج في الانهماك القصصي أو الشعر العربي أو التفكير الاجتماعي أو الاطلاع
على الثقافات أو التزام الجدة في الاتجاه أو النظر إلى رياضة البدن .
ومع هذا فهو في درب النجاح وفي نهايته مستقبل عظيم ، وما يحتاج إلا إلى انتباء إلى أهميته واعتراف بمشته ومعن في تأثيره وحسين في أوضاعه وتثبيت لأغراضه وتغذية لروحه بعث المواضع التي تفهمها أوساط الشعب كلها ، وحد القوة الاندفاعية التي تجنح إلي الارتفاع عن مستوي الفهم الشعبي ، كيلا تغيب صغيرة ولا كبيرة عن سامعيه ومرددية ، وكيلا يرتفع إلى ثمة جبل يراء أفراد الشعب منيرا وضاء فيه النور وفيه الجذب ، ولكن أنثى لهم بالصعود إليه وأبى لهم بلمس ذرات الدقيقة التى تقلل الثقافة الحديثة بنيتها وترفع من معاناها ، وهذه الثقافة موقوفة على البعض دون البعض الآخر .
والحقيقة أن الأدب الشعبى العدني يمتاز بالمرمي البعد والوشي البديع والحذب العنيف والمعنى الفائن والأسلوب الأخادوالوقع الحنون ، ومن كل هذا ندرك قدر هذا الأدب ونرفعه في أنظارنا إلي مقام هو حقيق به جدير برفعته .
الجو صحو يطغي الحماس على صحوه . ويفيض في فتوره نبض الحياة في الفؤاد ، وأضواء الضحى تشع في النفس حبوبة ودفئا ، ونسمات عدن تمنح كل جسم يقظة وانتعاشا واهتز الشاعر الشعبي العدني ثم قال :
يرحمك ياعتيق إلى جنة الفردوس
قتل جميع النجوس من فتي صار محبوس
يرحمك ياعتيق بابو الصلاة والدين
اللي كلامك حسين قاريء تبارك وباسين
ياسين عليك ياعدن معك سلطان
حقات منك ملآن لا تحد غسله ولا أكفان
عتيق لما اقتتل لابس شميز أخضر
وابو نوى السفر وأمخ كما الطير بالبر
عتيق يز العصا يقول بادينا
ولا افتجع من رصاص ولا من مكينه
عتيق لما أقتتل بيده ثلاث آناث
جباليه حق الطمع زيود حق الديانه
ليتك تري يا فلسطين مؤمن منكر
أربع مناظر حجر والدم بالأرض مطعفر
عدن تقول للمعلا ارفعي بhهلك
والشيخ تضحك عليك كم من يهود لعب بك
سالم إبراهيم يقول البيت جنب البيت
جدلونا مجاد وعاد فا ما تغديت
وعتيق في هذه القصيدة الشعبية جندي مجهول يتذرع بالإيمان متخذا إياه سلاحا له ونصيرا ، قاد مظاهرات عدة وجمع جموعا حبة وارتمي على اليهود فبدد شملهم ومزق جمعهم وأشعل النار في دورهم وبعث الرعب في قلوبهم والفزع في أفئدتهم ، يحفزه حماس قلبه ويؤيده فرط إيمانه وبينا هو كذلك يجرر هؤلاء المناكيد إذ رماه جندي إنكليزي بطلقة نار في صدره فأن ومال على ظهره وخر على الأرض يطلب النفس الأخير ، فواتاه في نفحات ملائكية وقضي . وقد أضحى من الشهداء.
وسالم إبراهيم اسم تاجر يهودي ، ويراد بالشيخ (الشيخ عثمان) وهي بلدة تبعد عن عدن بثمانية أميال ، كما أن المعلا بلدة بعدن أيضا .
ونستطيع أن نستخلص من هذه القصيدة بعض الكلمات التى تستعملها اللغة الدارجة المصرية ، ومنها ( بابو - اللي - مطخر ) وغيرها . وثمة كلمات تقرب من هذه اللغة الدارجة مثل : (افتجع وتستعمل في اللغة المصرية العامية في الوسط الريف اتفجع أي خاف ) ويقمن أن تنتبه إلى كلمة ( أبو ) في أول الشطر الثاني من البيت الرابع فهي تعنى أباه ، وهكذا الواو عندهم في مثل هذه الأحوال . كما يجدر أن نلحظ كلة ( مومن) دون همزة وكلة (حسين ) وهي كلمة ذات وقع عذب ، يجتح إلي استعمالها بعض المغنيين الشعبين في بعض أرياف القطر المصري .
وبعد ذلك أضع أمام القارئ العزيز نموذجا ثانيا لهذا الأدب الشعبي ، وهو قصيدة نظمت تحت عنوان " طيطو " :
أين ( البليس ) (١) فرأس اليوم مخبوط
مد حمل حاضة بالشاش مربوط
يا غادة الله ما للائمين بنا
من غاية ؟ ما يري فينا الزباليط
يا خبطة الإثم كم أدميت من كبد
حتي الجياع يكونا . . والمراطيط
اسفت شعب بني قحطان من عدن
فكلهم خده في الكف محطوط
يfكي (الفضول ) وبكي جرح جبهته
وكل خد لهم بالدمع منقوط
وكلها خبطة صغري بدت عجبا
في حاجب العين زانتها البلاطيط
عمائم وطرابيش تطوف بنا
والكوفيات أتتنا . والبرانيط
وزارنا كل طفران وذي سعة
وشرفونا التعابا والمباسيط
وآنستنا طوابير العجائز من
أدنى القطيع إلي أقصي الخسا ( قبط )
والحول والعور والعميان عندنا
وكلهم قلبه بالقهر مشطوط
يبكي الزفيل الذي لم يكف جبهته
وسم الجدار . فوقه المخابيط
وناظر هذه القصيدة الشعبية الفذة الأستاذ عبد الله عبد الوهاب ، وقد دعاء إلى نظمها أن رجلا ضرب في جهته واعتدي عليه ؛ لأنه يكتب في صحيفته (الفضول ) مقالات سارة ضد اليمن وحكاميا ، والأستاذ عبد الله شاعر يمانى رصين العبارة قوي الشعر . كما أنه من الأحرار اليمانيين . وهو يجنح الى السخرية والاستمساك بعقدة التهكم المر المجدي .
وللحظ أن نظمه الشعر العربي قد أثر في شعره الشعبي إلى حد كبير ، وكذلك نلحظ الروح التي تفيض على هذا الشعر الشعبي رونقا جذابا وطرافة مستحبة وتلقيحا بديعا متقنا . ويعتبر هذا النموذج وسابقه من عيون الأدب الشعبي في عدن ، وسأكتفي الآن بهما ، على فيهما
ما يشبع لهم الباحث المدقق والفاحص التمعن والناقد الجهبذ القدير . .
ولا أنس أن أقول : إن الأدب الشعبي في عدن يمتاز بالتسلسل ، وهذا التسلسل يكون أشبه بالتسلسل الخطابي إن كان موضوع الشعر من الاتجاه الثاني ، ويكون تسلسلا تحوطه الطرافة وترقرق العباره وانهمار المعنى وسيك الأداة إذا ما كان دون ذلك . .
وهكذا نري أن الأدب الشعبي العدني ثمين بالبحث جدير بلفت الأنظار واجتجان الأذهبان . وجدير أن يلقي مكانته بين الأداب الشعبية في العالم العربي ؛ لأنه عربي قالبا وموضوعا قبل كل شئ ، وإن كان هنالك تأثير هندي أو صومالي أو إنكليزي على مناحي الحياة في عدن ، إلا أن الأدب الشعبي يحتفظ بمكانته العربية في الحياة الأدبية التي ربما تطرق إليها هذا التأثير الأجنبي . .
