في " ثقافة " الأسبوع الأول من ديسمبر ، مقال لحضرة الأستاذ الكريم محمد فريد أبي حديد ، جعل عنوانه " لم لا نستدين ؟ " وصمم غايته فكانت دعوة حارة ملحة إلي أن تستدين مصر ؛ وأطلق القول فلم يحدد باللفظ نوع القروض : اتكون داخلية فقط أم تكون داخلية وخارجية ؛ ولكن مقاله في جملته وتفصيله لا يدع محلا الشك في أنه يدعو بالذات إلي القروض الخارجية ولا يأبي بداهة ان تضاف إليها قروض داخلية
الاقتراض الخارجي ، بالنسبة لمصر ، خطأ وخيط . وكذلك الاقتراض الداخلي إلا أن يقصر على المصريين . هذا هو المبدأ الذي يعز على أن يعتاز إلي دفاع . وعلي الان ان ارد على الحجج التي حاج بها الباحث الجليل وفق الترتيب التي وردت به .
١ - بدأ الأستاذ فحاول ان يعيد الاعتبار إلى فكرة الدين بوجه عام ، اكان في دائرة الأفراد أم في محيط الدول ، فقال : " ما احرانا ان ننظر إلي دول اوربا التي تحسب ديونها بآلاف الملايين من الجنيهات ، والتي تعتبر الاستدانة وسيلة طبيعية في الأزمات الحربية ، أو في اوقات الحاجة الملحة إلي الإصلاح السريع " .
هنا نجد قياسا مع الفارق : فإن الدولة القوية بنفسها ، او بالإضافة إلى دولة أو دول تنطوي تحت " محسوبيتها " ، تقترض باللفظ وتستوهب بالحقيقة ، اي انها تقترض ثم لا توفي ، وإن وفت فبالجزء ، دون الكل ؛ أما نحن فقد اقترضنا فدفعنا القرش الواحد قروشا ، ثم دفعنا في اعقاب القروش كرامتنا واستقلالنا وكراسي وزارتنا فاقتعدها وزيران اوربيان ، وفرض علينا صندوق الدين فكان دولة فوق الدولة لا مجرد دولة داخل الدولة .
لقد استدانت مصر فرأينا كيف عاملتها الدول ، واستدانت فرنسا وغيرها فلم يقف الامر عند الامتناع عن الوفاء والرضوخ لهذا الامتناع ، بل نشأت إلي جوارهما نظريات فقهية تجعل الانتواء بالدين الدولي شيئا مباحا
لاشية فيه ، وقد ينمو الفقه فيجعله فضيلة مندوبا إليها ثم واجبا يلام على التقصير فيه . إنني اقتبس عن مؤلف مصري العبارة الأتية . " يتعين على الدول الكبري إقراض حلفائها حتى يستطمن موالاة القتال : إقراض في النقود وإقراض في الذخائر . ولكن عقبات كثيرة واعتبارات وجيهة تحول بين الدول التجارية وبين استرداد إحداهن ما اقرضته للآخري . ولعل اوجه الاعتبارات ان هذا يتعارض مع روح العدالة . ففي حرب عالمية كالحرب الأخيرة تقوم كل دولة من الدول المتحالفة بدفع حصتها من دماء بنيها وذخائرهم وأموالهم في سبيل إحراز النصر للقضية المشتركة ،
فإذا كانت الدولة التي جادت بما ملكت من دماء بنيها قد رقت حالها وأعوزها المال فاقترضته من حليفاتها ، فإنه ليس من العدل ان يطالبنها فيما بعد برد هذا القرض الذي أعان على نصرهن جميعا . هذا رأي الأستاذ ؟ وهو ما صرح به كثير من الماليين في إنجلترا وأمريكا وصرحت الحكومة البريطانية أنها لا تنتظر من حليفاتها إلا سداد نصف ديونهن . فهل تستطيع مصر أن تطمئن إلي مثل هذا الفقه وإلى مثل ذلك الرأي العام ؟
) ٢ ( ومالي أذهب بعيدا وها نحن أولاء ندين غيرنا بملايين من الجنيهات ، فهل استطعنا ان نحصل على مجرد وعد بالوفاء ولو عينا ؟ وهل يستطيع مثلنا ان يهضم حقوق غيره وهو عاجز عن استيفاء حقوقه
) ٣ ( واستطرد الباحث يقول : " فليست شركات التأمين إلا قائمة على نوع من الاستدانة والأسهم والسندات في كل شركات الإنتاج ليست سوى أنواع من الاستدانة واقتصاد العالم كله قائم على جهود مثل هذه الشركات بغير نزاع "
وأنا ألاحظ على هذا القول أمرين : الأول أن الدول شئ والشركات شئ اخر ، فلو نادى الباحث بتأسيس شركات مساهمة مصرية تبيح أسهمها كل راغب من كل جنس ، لكنا أمام قضية اخرى غير اقتراض الدولة وهي قضية خارجة عن هذه المناقشة ؛ والثاني ان هذا التكييف لشركات المساهمة محل نظر والأقرب إلي الواقع وإلى القانون
اعتبار المساهمين كما يدل اسمهم شركات في رأس المال لا دائنين ، فإن الشركة المساهمة لو أفلست لما استرد المساهم ما دفع فيها ، أما الدائن فيستوفي الدين والفوائد او بعضهما مقدما على أولئك المساهمين الخ .
ولعلي لا أبعد عن الموضوع حين اشير إلي أن الاقتصاديين إذ أثنوا على فكرة الشركات المساهمة قد جعلوا في طليعة مزاياها انها تشجع على الادخار وتتيح لصغار المدخرين فرصة طيبة لتوظيف نقودهم الضئيلة ، فهنا نري مؤسسات تقوم على الادخار وتشجع عليه لا مؤسسات تقوم على الاستدانة وتغري بالتبذير والإنفاق
) ٣ ( ثم يقول الأستاذ المحترم في تبرير الدين إنه ) استعرض في نفسه ميادين الإصلاح التي تحتاج إلى ان نقطعها بغير تردد فوجد تلك الميادن متعددة وكل منها مترامي الاطراف يتسع لجولان اسرع الطائرات الإصلاحية فكلما خطونا خطوة تبين أن هناك إصلاحا ضروريا لا بد منه في الخطوة التالية "
حسن ؛ فما معنى هذا ؟ معناه ان القرض المقترح ليس مليونا ولا عشرة ولامائة ولكنه مئات ، ويكفى أن نتذكر الرقم المخيف الذي قدره المغفور له وزير الصحة السابق لتحقيق مشروع الوحدات الصحية في القري . فأين نقف إذن في سياسة الاقتراض ونحن " كلما خطونا خطوة تبين ان هناك إصلاحا ضروريا لا بد منه في الخطوة التالية " ؟
إن تيار القرض سيجرفنا إذن خصوصا ان كثرة المشروعات المطلوبة ليست من النوع المغل ، والمغل منها لن يؤتى ثمرته إلا هونا ما وبعد آجال واسعة ؛ لن نقف إذن إلا حين يصيح الدائنون : قفوا لنستصفي دماءكم بعد اموالكم . ) ٤ ( اليس أفضل من هذا الطوفان أن " تجرد " مشروعاتنا كما يفعل القضاة في الجلسات فلا نستبقي إلا الصالح للمرافعة ونؤجل سائر القضايا ؟ اليس الأولى ان نقدم الاهم والمستعجل على المهم وغير المهم والمبتسر ؟ إنني أزعم انا بهذه الطريقة نستطيع أن نعيش في حدودنا ونستدفيء بلحافنا ونجني الثمار منجمة ولكنها ناضجة غير فجة .
لقد ضرب سيدي الأستاذ مثلا للطرق الزراعية ، فهل ثمت مانع ان نركز الإصلاح في طريق واحد حتى يتم فعلا
فنأخذ في غيره ؟ إنني أقول بهذا ولا أقول وصف الثلث وترك الثلثين " فلا نكاد نبلغ نهاية الإصلاح حتى يفسد الجزء الأول منه فيكون علينا أن نبدأ من جديد " كما يخشى الأستاذ . بل إني أفضل إنشاء طريق واحد على إنشاء طريقين في عين الوقت ؛ وذلك لأن إنشاء الطريق قد ينقلب مضرة إذا لم نقرنه بإصلاحات واحتياطات اخري فقد ثبت فعلا أن عصابات المجرمين في بعض الريف قد انتفعت بطرق حديثة ممهدة فواجب للمصلح إذن حين يفكر في انشاء سكة أن يدرس ملابساتها وموضعها الجغرافي فإذا رأي أنها تسهل مهمة الإجرام وتهريب الماشية مثلا إلي البراري وجب عليه أن يقوي آلة الأمن العام في هذا الموطن تقوية تقابل التسهيل المشار إليه ؛ ولو استطاع أن يلتمس وسيلة لإنارة السكة فأنارها وزاد قوات ووسائل الشرط فيها لكان هذا خيرا من إنشاء عشرة طرق مع بقاء قوات الأمن في حدودها الأولى واستمرار الظلام وفاء للمجرمين . لقد أصبنا - وأنا لا أتوجه بكلامي هذا إلى سيدي الباحث - بمرض التكاثر والإحصاء فنحن مظهريون لاطلاب حقيقة ، نريد أن نفتخر بالعدد في كل شئ حتى قيل إنه وجد في كلياتنا من يحرص على أن يناقش في عهده أكبر عدد من الرسائل فهو يتسهل ويترخص في إجازتها لأن المهم عندنا هو الكم لا الكيف ، ولو استطعنا أن نقاوم هذه الحالة النفسية لحققنا إصلاحا لا يقل خطرا عن اصلاح الطرق الزراعية .
إن سياسة " توسيع الجرن " التي استولت على الملاك والفلاحين المصريين ردحا من الزمان يجب ان تستبعد وتقاوم ؛ كان صاحب الفدادين العشرة يشتري عشرين بالقسط ثم تضله الكثرة عن حقيقته فيسير سيرة البذخ ثم يعجز عن الوفاء فيخسر الجديد والقديم ؛ فمن الخير لنا أن نكون مقلين نعالج قليلنا ونستغله خير المعالجة وأحسن الاستغلال بدلا من أن نكون مكثرين مكاثرين فلا تغني عنا الكثرة ولا التكاثر إلا إلى حين .
) ٥ ( ويشير الباحث الفاضل إلي إصلاحات العاهل العظيم إسماعيل ؛ وللخديوي إسماعيل إصلاحات خالدة لا يجوز
إنكارها ولا يخفي علي أحد لأنها تعلن عن نفسها ، ولكني لم استطع أن امنع نفسى من هذا السؤال : هل استدان محمد علي حين اسس القناطر الخيرية وحين انشأ الجيش والبحرية وحين جعل مصر دولة صناعية قادرة على الا كتفاء الذاتي بدرجة محسوسة ؟ وهل استدان فراعنة مصر حين كانوا فراعنة مصر وكفي بهذا الوصف بيانا ؟ وهل استدانت روسيا الشيوعية إلا القروض الداخلية أي الوطنية ؟ بل هل استدان بنك مصر وشركاته وقد كان بندها المقدس أن أسهمها مصرية للمصريين ابتداء وانتهاء ؟ هذه هي حجج الأستاذ معروضة ومردودة فلأزد على ما تقدم الاعتبارات الأتية
) ٦ ( إن كثيرا من الإصلاحات الهامة المؤثرة يمكن تحقيقها بمال تافه ؛ وقد ضرب الأستاذ مثلا من الطرق الزراعية وأنا ارتفع امتارا قليلة فوق هذه الطرق لتأخذ عيني أ كوام الدريس والحطب التي تغطي سطوح البيوت في القري ؛ ليس منا من ينكر ان وجودها مصدر خطر على الانفس والثمرات ، ومع ذلك فإن هذا الخطر جاثم لا يزال فهل نحن مضطرون إلى عقد قروض خارجية للتخلص منه ؟ إن شيئا من حزم العمد ورجال الإدارة ، وشيئا من نصح الناصحين المثقفين ، وبعض خطب من خطب الجمعة وكمية من احاديث الراديو وتدبير امكنة تحل محل هذه الاسطح ، كل هذا متضامنا بعضه مع بعض كفيل ان يخفف من هذا الخطر إن لم يستأصله . ) ٧ ( ثبت ان ضخامة الأموال في خزائن الحكومة تغري بالتبذير وتضعف إحساس الرقابة وتشيع التنافس في اختلاق وجوه الصرف دون سبق درس وتمحيص
وتشفع لتنافس الجهات الحكومية المختلفة في التكبير الذاتي والنفخة الكاذبة ، بل قيل إن ازدياد إيراد الدولة عما ربطته لكفاية مصر وفائها يغري اولى الامر بتبذير هذه الحصيلة الجزلة كما حصل في الولايات المتحدة في خلال القرن التاسع عشر حيث ربا الدخل الجمركى عن كل ما قدر له فاندفع البرلمان إلي السفه في الإسراف وافتن في أساليب إفناء هذا الفيض في الدخل " ) 1 ( .
وإذا كان البرلمان هو الذي يسقط في السفه فأي عاصم لنا ؟ ومن عجب ان الضعف الإنساني يعمينا فنتصور أن ثمت فائضا عما يطلب لكفاية المصروفات في حين أن مرافق الدولة المختلفة لن تعجز عن تقبل آية زيادة في الإيراد وهضمها ! ) ٨ ( إن اللجوء إلي الاستدانة بغير تحصين الأخلاق السياسية بالنزاهة يجعل الضرر ضررين ؛ وإن " مبلغ الأخلاق السياسية من النزاهة أو التلوث له أثر كبير في تبذير الأموال العامة او القصد فيها ، فإذا استوت دولتان في كل شئ إلا اخلاق ساستها ، فالتي سعدت بساسة هم فوق كل دنية وبمعصم من كل فتنة تنفق أقل مما تنفقه الأخرى التي رزقت بساسة نقميين " ) ١ ( .
فهذا الإصلاح الخلقي إذن ليس مجرد ربح أدنى ولكنه فوق ذلك ربح ماري يقدم لنا مصدرا جديدا من المصادر التي تغنينا عن الاقتراض ، في حين أن اهمال هذا الإصلاح سيجعلنا دائمي الاحتياج ودائمي التفكير فيما يسده من وسائل بعضها القروض الخارجية
) ٩ ( إن سد حاجاتنا بالقروض يضعف اهتمامنا بتنمية ثروتنا الخاصة من زراعية وصناعية وتجارية وسياحية ومعدنية وغيرها ، ويقلل اهتمام الأداة الحكومية بتحصيل الضرائب المقررة ويلهينا عن المطالبة بديوننا .
) ١٠ ( وهذه القروض إذا التمسناها عند المصارف وحملة الأسهم والسندات على الخزانة فإنما نلتمس أكثرها أو جزءا هاما منها عند طائفة معلومة ليس من صالحنا ولاصالح جيراننا بفلسطين أن تزداد تغلغلا في شئوننا وتمكنا من أعناقنا في سنة ١٩٣٦ اثيرت في مجلس الأمة العراقى قضية القرض الخارجي فنهض احد النواب يحذر قومه ويطالبهم بان يتعظوا بمصر ، واضطر رئيس الوزراء أنذاك المغفور له السيد يس الهاشمي ان يعترضه قائلا إنه لا يسمح بالتعريض بدولة صديقة .
فهل يريد غيرنا أن يتعظ بنا ، ونأبي نحن حتى أن نتعظ بأنفسنا ؟ هذا نوع من الشقاوة لم يخطر ببال الحكيم
