كنت قد نشرت في كلمة سابقة تحت عنوان : "مكاتبات رسمية" صورة من تلك الصور التى عنى لورد إدوارد سيسل بستجيلها ، وأشرت إلى أن هذا السيد كان وكيلًا لوزارة المالية المصرية ، ثم مستشارًا ماليًا للحكومة المصرية ، وأنه قد سجل عدة صور في كتاباته عن الحياة المصرية . ووعدت بالعودة إلى نشر بعض هذه الصور لنرى أنفسنا بالعين التى يرانا بها غيرنا . ولكنى لما آنسته في هذه الصور من مبالغات - هي في الواقع من مقومات الصور المجونية - كتبت في كلمتي السابقة أنه ينبغي أن لا ننسى أن هذه الصور إنما وضعت في زمان غير زماننا الراهن ، وظروف غير ظروفنا الحالية ، وأنه ليس يجوز أن يتحرج القارئ لما قد يجده فيها من الإشارات اللاذعة . . .
وها أنا أعود اليوم لنشر صورة جديدة من تلك الصور ، وصف فيها الكاتب يومية من يومياته منذ قيامه من النوم في الصباح لغاية وصوله إلى مكتبه ، وهي فترة قصيرة هادئة ليس يتوقع المرء فيها من الأحداث الجسام ما يستحق التسجيل أو التعليق . ولكن القارئ سوف يرى فيما دونه الكاتب أن العين البصيرة أوسع آفاقًا من العين المبصرة . . .
قال لورد سيسل : إن أول ما أحس به في الصباح هو إحساس غامض بضوضاء تحيط بي ، وإن هذا الإحساس ليختلط أحيانًا بأحلامي ، فأتخيل في رؤياي أن هناك زلزالًا , وأن منزلي (يتطربق)(1) ويتداعى ، أو أن هناك موقعة حربية ، وأن
العدو يضرب داري بالقنابل . ولكني لا أثوب إلى رشدي وأدخل في عالم اليقظة شيئًا فشيئًا حتى أرى تأويل أحلامي في شخص خادمي الأمين . . . سليمان !
إن قامته لا تزيد على أربع أقدام ، ووزنه لا يربو كثيرًا على وزن كلب من كلاب الصيد ، ولكن الضوضاء التي يحدثها هذا القزم يعجز عن إحداثها مارد جبار ، فلست أذكر أنه دخل مرة واحدة إلى غرفتي في الصباح من غير أن يشتبك في شيء من أثاثها فيحطمه . فهو أحيانًا يشتبك بالمائدة . وأحيانًا بالكرسي ، ولكنه أحيانًا يأتي فعلته الكبرى . . . وهي أن تزل قدمه فيصطدم بالمائدة ، ويقلب الشاي و (يرزع) الباب - كل ذلك في حركة واحدة . ولقد توصل هذا الجني بعد ممارسة السنين الطويلة إلى طريقة يلقي بها ثوبًا من الصوف الناعم على الطنفسة الوثيرة فيستحدث من ذلك صوتًا كصوت لوح من الخشب يلقى على حزن من الأرض ! .
إنه ينتمي إلى قوم لا تخلو أخلاقهم من فضيلة تحليها إذا هم لم يتطرق إليهم شيء من الفساد . ولكن الواقع أن أحدًا منهم لا يسلم من تطرق هذا الفساد إليه ، وخادمي يقف في رأس ( القائمة ) فوق خدم الأغلبية من أصدقائي . وإني كلما فكرت في إخواني جونس وسميث وروبنسن ، وفي أنهم احتملوا طول مدة إقامتهم في هذه الديار أولئك البرابرة الذين يخدمونهم في منازلهم ، أجد نفسي أمام لغز من الألغاز . . . حقًا أني سمعت جونس منذ أيام وهو يتحدث عن خادمي في لغة لم تكن تنقصها عناصر التحقير والزراية . ولكني عند مقارنة خادمي بخادمه أجد أن
" سليماني " بالقياس إلى " أحمده " ملاك يرفرف بجناحين من نور !
ولا يكاد ينسحب هذا ( الملاك ) من غرفتي بعد تنظيفها حتى ( يهبد ) الباب من جديد فأسلم أمري إلى الله وأرى أن ساعة قيامي قد جائت ، وأنه لم يبق من ترك الفراش بد . فأتسلل من سريري وأدلف إلى شرفتي كما هي عادتي كل صباح . وإنه لما يستدعي الانتباء أن الإنسان الذي يعيش بمفرده يتتبع في حياته خطوات محدودة معينة يظل يكررها يومًا بعد يوم دون أن يحيد عن طريقها قيد شعرة . وإني لأعتقد أنه لا يبدل من عادات الإنسان إلا تدخل الآخرين في شئون حياته .
أما المنظر الذي تطل عليه شرفتي في الصباح الباكر , فهو ولا شك باعث من البواعث الشرعية على الزهو والاعتداد بالنفس . وذلك على الرغم من أنى لا أدري لماذا هو كذلك ، وقد يكون الأمر كذلك لأن رؤية أي شيء في الصباح الباكر - أو لعل مجرد الاستيقاظ في ذلك الوقت - هو من الأمور التي يسلم الجميع بأنها شيء جميل يستحق الإنسان من أجله أن يتلقى تهاني الناس . وقد يكون السبب أيضًا أنه من دلائل براعتي وحسن تفطني أن أهتدي إلى مثل هذا المسكن الذي يطل على مثل هذا المنظر عندما كنت أبحث لي عن مسكن ، وهو أمر أشهد الله على أني لم أنتبه إليه قط .
ومع ذلك فإني إذا ما ألقيت نظرتي الأولى على ما أمامي لا أكاد أرى شيئًا إلا أكداس الضباب التي يحركها في رفق نسيم الصباح . فإذا ما انقضت على ذلك دقيقة أو دقيقتان ، وسطعت أشعة الشمس الأولى من فوق التلال التي تقع خلف مسكني ، تورد هذا الضباب ، وبدت في الأفق الغربي أشباح التلال الزرقاء . ونهدت الأهرام على صدر
الأفق بعد أن تكون قد شقت عن نفسها غلائل تلك الغمامات الوردية الرقيقة . وتظل تتعاقب الصور أمامي ، واحدة بعد واحدة في سرعة لا يكاد يصدقها العقل ، فتستحيل الغمائم إلى شقوق ذهبية تبدو من خلالها أشباح النخيل الباسقة ، وأشرعة السفن الرشيقة التي توشي صفحة النيل ، ولا تكاد تمر لحظة أخرى حتى يكون النسيم قد اختطف على جناحيه ما بقى من سحب ، وفر بها في أطباق الفضاء ، وحتي تكون قد أسفرت من حولي وجوه البيوت المجاورة ، تلك الوجوه التي طالت ألفتي لها ، وطال صبري على قبح منظرها . . . وهكذا ينقشع سحر الصباح . . . وعلى الرغم من أني شاهدت هذه الصور تمر تترى أمام ناظري مرات يخطئها عدي فإنها لا تولي مرة إلا وتترك في نفسي حسرة على أن مثل هذا الجمال ينقضي بمثل هذه السرعة ! .
وترتفع من الطريق تحتي ضوضاء مألوفة هي حركة " ترام الصباح " - فإني أقيم فوق خط من خطوط الترام ، وينحني هذا الخط أمام منزلي في دوران لابد أن يكون قد وضع تصميمه أحد زعماء المتفائلين في العالم ، فإن السائق ما لم يهدئ سرعته إلى مستوي السلحفاة فوق هذا المنحنى ، فلا مفر لقاطرته من الخروج عن خطها . ولما كان المصري لا ينتفع قط من التجارب ، وكان إذا أدركه برد الشتاء يتجمد تفكيره تجمدًا ، فإن ترام الصباح هذا اعتاد أن يخرج من يد سائقه خمس مرات في كل سبعة أيام !
وإني لأرقب مقدم الترام من بعيد ، وأنا واثق من النتيجة المحتومة . فإذا ما اقترب خرج عن الخط ولم يخيب أملي فيه . وهنا يقف السائق ويمد ذراعيه أمامه على نحو ما يفعل قومه عند شكوى الزمان ، ويستشهد بالسماء على أنه رجل سيء الطالع وأن ( الكبانية ) - شركة الترام - تعامله معاملة الكلاب . . . .
وعند ذلك يكون ( الكمساري ) قد نزل وانضم إليه . ولا يزال الرجلان يندبان سوء حظهما حتى يلاحظ ( الكمساري ) أن الخطأ كان في جانب السائق وهنا ينفعل عليه السائق مؤكدًا أنه لم يخطئ . وأن مثل هذه الملاحظة لا يوحيها إلى ذهن ( الكمساري ) إلا وضاعة في أصله وانحطاط في تفكيره . . .
ويكون الركاب قد نزلوا بدورهم ، وتحلقوا حول الرجلين ، ووقفوا يستمعون إلى النبذة التاريخية التي شرع ( الكمساري ) يلقيها عن أسلاف السائق . والفذلكة الأخرى التي يرد بها هذا على ( الكمساري ) . ثم يبدأون في التشيع للفريقين . وهنا تعم النكبة ويشترك الجميع في المشاحنة ثم يحتد الجدل ، ويعلو الصخب ، ويتطور النزاع إلى درجة يتوهم معها الإنسان أنها ستؤدي حتمًا إلى إراقة الدماء . ومع ذلك فإن كل هذا الحماس يسفر دائمًا عن عاقبة سليمة ولم يحدث قط أن لكمة واحدة دارت بخلد واحد من المتشاحنين ، أو أن ركلة قد مرت بخاطره . وفي النهاية يقبل شرطي لا يزال النوم يرنق جفنيه . فيتوجه إليه الجميع بشكواهم . ويقف هو في وسطهم حيث توحي إليه روح الحياد المطلق أن يصب شتائمه فوق رءوس الجميع أيضًا بالقسطاس المستقيم . . . .
على أنه لا يفوته على كل حال أن يلاحظ أن هذا الترام ينبغي له أن يسير . ويسلم السائق والكمساري بألمعية هذه الملاحظة وهما لا يزالان في جدلهما ونقاشهما . ويستعينان بالجمهور المحتشد على أن يرجعوا بالترام مرة أخرى إلى مجراه . متبعين في ذلك تلك الخطة التعسة البعيدة عن كل أصول الفن ، والتي تنجح على الرغم من ذلك نجاحًا باهرًا في أيدي المصريين كلما من لهم حمل ثقيل أرادوا أن يرفعوه . . . ويعود السائق والكمساري كل إلى مكانه . ويبادر الركاب إلى مقاعدهم فيتراصون فيها .
و ( يبرطع ) بهم الترام من جديد
وأرى أني قد تأخر بي الوقت . وأذكر أني في هذا اليوم بالذات كنت أود أن أبكر إلى مكتبي لأحد تلك التذكرة التي طلبها ( المستشار ) عن بيع الأراضي العامة على أساس التقسيط . ولأنظر في طلب تسوية معاش ح . ي . باشا الذي تكرر سؤال دار الوكالة عنه . وأعود إلى نفسي لآخذ حمامي ولألبس ثيابي . . .
ولا أكاد أدخل الحمام حتى أجد الماء باردًا . فأجأر في طلب سليمان . . . ولكنه يصر على أن الماء ساخن وليس ببارد . فأذهب معه إلى المطبخ ، وأضع يدي على ( الغلاية ) نفسها ؛ فلا أكاد أحس سخونتها . فيقول إنها غلاية من صنف رديء جدًا . لأن النار كانت تتأجج تحتها طوال ساعتين . ولأن كمية الفحم التي أستعملها أنا على كل حال في بيتي كمية تافهة لا تصلح لشيء . فلا أرى مندوحة من موافقته على ذلك . ولكني أفسر له هذه الحقيقة بأني لا أورد الفحم لمسكني وحده ، ولكني أورده أيضًا لأسرته , ولأصحابه الذين يديرون على حسابي ولا شك فرنًا مسعورًا في جهة ما من أرض الله واسعة .
وأمد يدي إلى الفرن فأفتح بابه ، وأشير إلى الأحطاب التي في جوفه ، والتي لم يتم احتراقها بعد . فيصعق الرجل لهذه المفاجأة . ويأخذ في إلقاء مسئولية هذا العمل على عاتق الخادم الآخر . ولكني لا أرى مفرًا من اختصار الطريق ، ووضع حد لهذا الجدل العقيم . فأعود إلى حمامي ، وقد وطنت نفسي على الاكتفاء بحمام فاتر في هذا الصباح .
وإذا ما انتهيت من وضع ملابسي ، أرسلت في طلب عربة أذهب بها إلى النادي . لأني لا أتناول الفطور في منزلي . فإن سليمان يعتبر نفسه طاهيًا بارعًا ، ولكنه جد مخطئ في هذا الاعتبار . فإنه - مهما تكن مواهبه
في هذا الميدان - جشع إلى حد لا يدع سبيلا لظهور شيء من هذه المواهب .
وماذا يستطيع الفن أن يصنع في لحم أو بيض يرجع عهدهما إلى الأسرة السادسة من أسر أجداده الفراعنة ، حتى ولو دفعت ثمنهما أضعاف ما يحاسبني عليه أغلى المطاعم ؟
وتقف العربة التي استحضرها لي سليمان أمام الباب ، فأنزل إليها فإذا هي عربة عتيقة تنتسب إلى عصور ما قبل التاريخ . وقد جلس من فوقها حوذي يلف رأسه شال عظيم يقيه لفحات البرد . فلا أكاد أستقر في جوفها حتى ينطلق الرجل في اتجاه خاطئ دون أن يعنى بسؤالي إلى أين أريد الذهاب . فإذا ما نفذ صياحي بعد ذلك في أطباق شاله وبلغ مسمعيه شرع يدير الجوادين نحو الاتجاه الآخر ، وهو ينهال عليهما بسوطه كما لو كان يرجع إليهما أمر هذا الخطأ في التوجيه . ثم نأخذ في طريقنا صوب النادي . . .
ويلوح لي أن عربتي - كما هي العادة - لا بد أن تكون أسوأ عربة يمكن الحصول عليها ويرجع السبب في ذلك إلى أني كلفت سليمان باستحضارها وإلى أن " العمولة " التى يتقاضاها سيدنا سليمان هذا باهظة فاحشة .
أما نظام " العمولة " فيخيل إليَّ أنه نظام اكتسب صفة العرف المحترم في هذه البلاد ، وأنه متأصل في كل المصالح وتعرفه جميع الطبقات . . . . . . . . ( في الأصل إشارة إلى بعض طوائف الموظفين وأصحاب الأراضي الزراعية لا نرى حاجة إلى التزام الدقة في نقلها حتى لايساء فهمها ، على الرغم من كل ما أسلفنا من تلطيف وتبرير لمثل هذه الإشارات ) . . . . . . وسليمان - على عادة قومه - يتبع هذا النظام في إصرار يشبه التعصب الديني ، ويتقاضى هذه العمولة عن كل ما يشتريه لحسابي . بل إنه ليتقاضاها حتى من الحوذي الذي يستحضره بناءً على طلبي . ونظرًا لارتفاع سعر عمولته فإنه لا يقبل
التعامل معه بهذا السعر إلا من لا يجد عميلا آخر أفضل منه . وتكون النتيجة أن أقع أنا في مثل هذه العربة التي ظفرت بها في هذا الصباح . . . . .
فالخيول ( هياكل ) تسعى . والسائق أغبى وأقذر من كل أفراد طائفته . و ( طقم ) الخيل أشتات من النسع والمزق . وكسوة المقعد كلها ثقوب . و " باياته " مقعية على قواعدها ، وحتى دواليب العربة نفسها لا تخلو من نقص في بعض ( يرامقها ) !
ويظل الحوذي يمخضني في عربته إلى أن تعترضنا مركبة أخرى . فيجذب العنان في يديه فتنقطع أوصاله ، فينزل ليصلحه بما يستخرجه من جرابه من قطع من الخيط الواهي ، وبما يلوح بين أصابعه كأنه رباط رقبة قديم . فإذا ما تمت عملية الترقيع عاد يهدهدني في أرجوحته ، ولا يطول بنا ذلك حتى تقع الواقعة الكبرى ، وهي أن ينطلق محور العربة من مكانه فينهار كل شئ . . وأجد نفسي لحسن الحظ على بعد مائة متر من النادي ، فأسعى إليه راجلا ، وأترك الحوذي وفي يده " رباط حذاء" يصلح به ما فسد من أمر مركبته الأثرية !
وإني لأحمد الله على سلامتي كلما حدث لي مثل ذلك . فإن هذه المركبات قد تخون راكبها في أي مكان . ومن حسن حظ الراكب أن يقع له ذلك في شارع جانبي بعيد عن طريق السيارات التي يتولى قيادتها " فتيان العصر " من أفندية هذا الزمان . وليس شيء بمستكثر على حوذية هذه المركبات . فقد وقع لي مرة أن شد الحوذي عنان جواديه شدة قوية انقطعت على أثرها خيوطهما فجأة في يديه ، فلم ألبث أن رأيت الرجل - في حركة عكسية واحدة - يهوي من مقعده بظهره ، ثم يستوي جالسًا فوق أكتافي . . . . وفي مرة أخرى انحل رباط الجوادين معًا فانطلقا من عقالهما يعدوان ، وخلفانا من ورائهما نجلس في مقاعدنا الثابتة ، وعلينا كل مظاهر الوقار والاعتبار ! ( للحديث صلة )
