الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 188الرجوع إلى "الثقافة"

من النافذة :، لقد آن لنا

Share

لم تشغل هذه الحرب الطاحنة أمم أوربا وأمريكا عن التفكير في أحوالها الداخلية في الوقت الحاضر ، وفيما يأتي من السنوات بعد انتهاء الحرب . وذلك مع أنها تخوض معمعة نضال قاس لم يشهد العالم نضالا مثله من قبل ، ونرجو للعالم الا يشهد نضالا مثله فيما يقبل من العصور . فالأمم تبذل في سبيل النصر جهدا لا يكاد العقل يصوره ، فتضحي بدمائها سخية ، وتضحي بأموالها سخية ، وهي لا تفكر إلا في شيء واحد ، وهو ان تخرج من القتال موفورة الكرامة ، محتفظة بكل ما هو عزيز عليها من حريات ، ومحافظة على كل ما هو مقدس عندها من تقاليد وآثار ونظم في الحياة .

ولكنها مع كل ذلك المجهود ، ومع خطورة النضال الذي يخوضه ، لم تنس أن تفكر في نظمها الاقتصادية والاجتماعية ، وان تضع الخطط للتعمير الشامل بعد أن

تضع الحرب أوزارها ، وأن ترسم للحياة المقبلة صورة تتمثل فيها السعادة والإنسانية تمثيلا أوضح وأقوي مما كان إلي الآن.

ونحن كذلك هنا في مصر قد شغلتنا الحرب بظروفها وضروراتها ، وكلفتنا جهدا كبيرا في تدبير أمورنا وتوجيه سياستنا ، حتى ليخيل إلى الانسان ان شئون الحرب قد شغلت كل حيز تفكيرنا ، ولم تدع لنا شيئا سواها تهتم به .

ولكن الواقع يخالف هذا في كثير من الأمور ، فلقد دلت الحوادث المختلفة على أن الذهن الصري لا يختلف عن ذهن امم العالم الاخري ؛ فهناك تحت سطح هذا الاهتمام العام بأمور الحرب وظروفها وضروراتها ، يجري تيار قوي من الاهتمام بشئون الحياة في الوقت الحاضر وفيما بعد الحرب ؛ يظهر ذلك من احاديث المنتديات الخاصة

ومن اقوال الصحف ، ومن المناقشات التي تثور في مجلسي النواب والشيوخ ، ومن تقارير لجان هذين المجلسين ، ومن قرارات الوزارة بين حين وحين .

فما يدعو إلي عظيم الارتياح أن الناس قد أدركوا أن الحياة المصرية محتاجة إلي الاصلاح في كثير من نواحيها ، وان ذلك الاصلاح ضروري ، بل هو حيوي إذا نحن اردنا ان يكون لمصر مستقبل بين امم العالم . لقد علم الناس جميعا ان الاستقلال السياسي يستلزم ان تدعمه قوة الشعب نفسه ، وان هذه القوة إنما تستمد من قوة اجسام الأفراد ، ومن ذكاء الأفراد ، ومن عمل الأفراد ، ومن ثروة الأفراد ؛ فالاستقلال السياسي في حاجة إلي مشروعات صحية ، ومشروعات تعليمية ، ومشروعات اقتصادية وصناعية

وقد ظهرت بواكير هذه المشروعات الاصلاحية ؛ فان المرسوم الذي صدر لتنظيم القرية في الأيام الأخيرة يكفل - إذا ما تحقق - خيرا كثيرا لأهل الريف في رفع مستوي معيشتهم وسلامة أبدانهم ؛ وفي هذا ربح كبير لمجموع الامة ، لأن أهل الريف هم الكثرة الكبرى من أهل البلاد .

وهناك على الأفق مشروعات اخري لوزارة الشئون الاجتماعية ووزارة الدفاع الوطني ووزارة المعارف ، ترجو أن تتم وأن تنفذ ، وأن تؤتى ثمارها بعد حين .

ولكنا لا تزال نطمع فيما هو أكثر من كل ذلك . تطمع في ان تكون فكرة الاصلاح والتعمير شاملة غير مقتصرة على جهود بعض الوزارات دون الأخرى ، ولا مقتصرة على بعض نواحي الحياة دون سواها ، تطمع في ان ترسم صورة جديدة لمصر المستقلة يكون فيها كل شئ على ما يحب المصري لبلاده من الكمال ، وان تقوم على رسم هذه الصورة مجموعة من ابناء مصر الذين تملؤهم الحماسة في سبيل الاصلاح ، ثم توضع بعد

ذلك كل مشروعات الاصلاح وتسير جنبا إلي جنب ، وتنفذ شيئا فشيئا في نظام متناسق ، فان الاصلاح يساعد بعضه بعضا ، ويسهل جريان التيار إلي الإمام بتعاون مشروعاته فيما بينها .

ولسنا في حاجة إلي بيان حاجة البلاد إلي هذه الجهود الاصلاحية المتناسقة ، فاننا حيث توجهنا ببصرنا تري الضرورة الكبرى للأسراع بهذه الجهود .

لقد تبينت الأمة والدولة أن قري الريف في حاجة إلي الاصلاح ؛ وها هي ذي وزارة الصحة تتقدم مشكورة بمشروعها العظيم الذي نرجو أن يعود على البلاد بأعظم الخير ، ولكن اصلاح القرية من الوجهة الصحية لا يمكن أن يسير وحده ، بل لا بد أن يسايره إصلاح وإصلاح من نواح متعددة ، فلا بد مثلا أن يصلح التعليم في القرية إصلاحا أساسيا ليساير مشروع إصلاح القرية ، ولا بد أن يبذل جهد عظيم في ترقية الصناعة الريفية والزراعية ، ليكون الشعب أقدر على الانتفاع بنتائج جهود وزارتي الصحة والمعارف

ولتوجه ابصارنا مثلا إلى الطرق الودية إلي قري الريف وإلى المدن الصغيرة ، فان هذه الطرق كانت تكفى حاجة البلاد عند ما كانت الدواب هي وسائل الانتقال في القرون الخالية ؛ والأجدر بنا في هذا العصر ان تبذل جهدا عظيما في إصلاح هذه الطرق حتى لا تكون في مصر قرية لا يستطاع الوصول إليها بوسائل الانتقال الحديثة من سيارات كبيرة وسيارات صغيرة .

وهذا الجهد في إنشاء الطرق وتمهيدها يساعد بغير شك في ترقية الحال الصحية والحال الاجتماعية والحال العلمية والحال الاقتصادية ، لان الحركة هي الوسيلة لقضاء كل الحاجات ، والسرعة في الحركة هي مميزة العصر الحاضر الذي نعيش فيه ، ولا يمكن ان نصل إلي إصلاح قرية إلا إذا كان الوصول إليها متيسرا والانتقال منها سهلا .

لقد آن لنا إذا أن نضع خطة شاملة للتعمير والإصلاح تتناول كل مرافقنا وكل نواحي حياتنا ، ثم تقوم على تنفيذ هذه الخطة شيئا فشيئا حتى تتم جميعها في مدة مرسومة

ولا شك أن مثل هذا الاصلاح الشامل يكلف البلاد نفقات طائلة يلوح عند أول نظرة اننا لنا قبل لنا بها ، ولكن هذا ينبغي الا يخيفنا ولا يحملنا على التردد ؛ فهناك وسائل كثيرة لتدبير المال الذي يلزم لكل هذا ، وليس المال الذي يبذل في هذا السبيل ضائعا ، بل إنه سيعود حتما بفوائد تكون هي مساعدة على الاستمرار وبلوغ المدي

المطلوب . وإنما نعتقد أن الضرائب في مصر لم تبلغ بعد قصاراها ولا قريبا من ذلك ، وفي استطاعة مصر ان تجد موارد تكفي لشكل ما تحتاج إليه من التعمير إذا اتخذت من الوسائل ما تتخذه البلاد الأخرى في جباية ضرائبها .

بل إننا نبعد وراء هذا المقدار ونقول إننا إذا احتجنا إلي الاستدانة من أجل تحقيق هذه الآمال لم يكن مسلكنا إلا طبيعيا ، فلمثل هذه الأغراض قد استدانت الأمم في كل العصور ، وليس مثل هذه الديون التي تخصص للاصلاح مما ينفر منه الشعب ولا مما يعارض فيه علماء الاقتصاد .

اشترك في نشرتنا البريدية