قرأت بين الرسائل التى جاءتنى فى موضوع نشر اللغة العربية بين الأجانب رسالة لم أر بداً من إثباتها هنا، لأنها قد عرضت فى فقرات سبع، مسائل ينبغى أن توضع موضع التفكير. قال صاحب هذه الرسالة: كى ننجح فى اجتذاب الأجانب إلى (حانوتنا) الفكرى يجب أن نتبع ما يأتى:
أولاً - أن يتكلم المصريون جميعاً اللغة العربية في كل المناسبات، وألا يسمحوا لأنفسهم ما داموا يعيشون في مصر بالتكلم بأية لغة أخرى مهما ترتب على ذلك من نتائج
ثانياً - أن تكون جميع مكاتباتنا باللغة العربية، وأن نضطر الأجانب إلى قبول الكتابة إليهم بلغتنا
ثالثاً - أن يكون التعليم فى جميع المدارس الأجنبية فى مصر باللغة العربية
رابعاً - أن يوطد الكاتب المصرى عزمه على أن يكتب للعالم كله. إذ على الرغم من أن ما يكتبه لن يخرج عن حدود الأمم الشرقية الناطقة بالضاد، إلا أن مصر بالذات هى شبه عالم صغير فيها من كل الأمم وكل الجنسيات
خامساً - العناية بأسلوب الكتابة، والارتقاء به إلى السلاسة مع السهولة، وأن يجتهد كل كاتب فى الكشف عن نفسه وغرضه فى وضوح وصفاء
سادساً - أن تعرض المطبوعات بأثمان معتدلة لإغراء الأجانب بقراءتها
سابعاً - أن تكون هناك رقابة على المؤلفات جميعاً فلا ينشر منها إلا ما يستحق النشر، حتى لا نكلف الأجانب قراءة سخافاتنا المزرية
تلك مقترحات صاحب الرسالة. وهى من غير شك كفيلة بتحقيق الغرض. لكن المعضلة فى التنفيذ، وأن بعضها لا يمكن أن يقوم به غير حكومة قوية الشوكة مرهوبة الجانب، وبعضها يقع حمله على كواهل الأدباء.
وأعجبنى قول هذا الأديب: إن الكاتب المصرى ينبغى أولاً أن يوطن عزمه على أن يكتب للعالم كله. ولعل هنا مفتاح القضية كلها، فهل فى مصر الآن أدباء يكتبون للعالم كله؟ ذاك موضوع يحتاج فى بحثه إلى صفحات طوال. توفيق الحكيم
الأدباء القريبى العهد كرامة وصيانة؛ وأما من عداهم من المتدينين وغير المتدينين فما على الأستاذ إلا أن يخالطهم وأن يدرسهم من غير أن يشعرهم أنه يدرسهم إلا إذا كانوا يهابونه كل الهيبة فلا يظهرون أمامه حقيقة نفوسهم. والخطأ الثانى الذى وقع فيه الأستاذ هو ظنه أن الشكوك الدينية تمنع الاعتقاد. والخطأ الثالث حسبانه أن عجز الكاتب عن منع إذاعة هواجس نفسه يدل على أنها أكثر تمكناً من نفسه؛ ومثل الأستاذ كمثل الذى يرى صنبور ماء لا يقفل تماماً فيحسب أن ماءه أغزر من ماء غيره لأنه لا يستطاع إحكام حبس الماء من التسرب منه. وهذه الهفوات الفكرية هى التى وطدت السبيل لأن يفهم الأستاذ فى النزعة إلى التجديد ما ليس فيها، ففهم أنها حركة التفاف يراد بها التعاون مع الحاقدين على الدين الإسلامى من الأوربيين. وقد أوضحنا للأستاذ بالشواهد التاريخية والأدلة المنطقية أن كل ما فى هذه النزعة من محاسن ومفاسد كان من الممكن استنباطه من الآداب والعلوم العربية حتى ولو لم تتأثر النفوس بأدب اللغات الأوربية، وإنما كانت تحتاج إلى زمن أطول لاستخراج كل هذه الأمور لو لم تتأثر بأدب اللغات الأوربية. ولا أدرى لماذا لم يتهم الأستاذ الغمراوى أبا العلاء المعرى بأنه كان يريد أن يقوم بحركة التفاف وتطويق معاونة لأعداء الإسلام من الأوربيين
ومن رأيى أن الأستاذ الغمراوى يؤدى خدمة كبيرة للدين والفضيلة لو أنه ترك نزعة التجديد وحاول بغيرته الصادقة أن يطهر الشعور الدينى من شوائب الأثرة والمجون فى نفوس الناس الذين يعتقدون أن تدينهم صك يعفيهم من ضرورة تطهير أنفسهم من المجون ومن تهالك الأثرة وجشعها ووسائلها الخبيثة وأحقادها. وإذا كان شيخ الأدب القديم محمود باشا سامى البارودى لم يعصمه أخذه بالمذهب القديم من اختيار شعر أبى تمام فى الغلام. فإن من الظلم يا أستاذ أن تلوم الدكتور طه وهيكل بعد ذلك على نشر قصص منقولة عن الفرنسية، وهى مهما كانت لا يبلغ بها المجون هذا المبلغ، وبعضها كان دراسات نفسية (سيكولوجية)، وإذا كان شيخ المعرة أبو العلاء المعرى لم يرد أن يقوم (بحركة التفاف) لمعاونة أعداء الإسلام من الأوربيين عندما قال: (قالوا لنا خالق حكيم) إلى أن قال:
هذا كلام له خبئ ... معناه ليست لنا عقول
وعندما قال: (الموت نوم طويل لا انتهاء له)، وانظر إلى قوله لا انتهاء له، وعندما قال فى إنكار البعث:
لو كان جسمك متروكاً بهيئته ... بعد التلاف طمعنا فى تلافيه
ومثل قوله فى فناء الروح:
وجسمى شمعة والروح نار ... إذا حان الردى خمدت بأفِّ
أقول بعد هذه الأقوال وأشباهها التى يتخللها أقوال أخرى تختلف عنها: إذا كان شيخ المعرة جديراً بإحياء المسلمين ذكراه، وطبع أقواله فمن الظلم أن يعد الأستاذ الغمراوى دراسة فولتير جريرة وحركة التفاف.
إن للدكتور طه آراء نخالفها كل المخالفة، ولكنها ليست حركة التفاف؛ إنما هى نتيجة التفكير الذى قد يخطئ وقد يصيب. وكذلك ليست القصص التى نقلتها السياسة الأسبوعية حركة التفاف وإنما يصح أن ينتقد الناقد نشر بعضها، وما دامت مكتبات مدارس البنين والبنات الدينية وغير الدينية مملوءة بمثل المجون وأشد من الفحش والمجون الذى سمع عمر بن الخطاب رضى الله عنه(1) سحيم عبد بنى الحسحاس ينشده في بنت سيده ويقول: ولقد تحدَّر من كريمة بعضهم ... عرق على جنب الفراش وطيب فمن العبث لوم السياسة الأسبوعية على تلك القصص (قارئ)
