الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 621الرجوع إلى "الثقافة"

من بطون ، الكتب, روسو وحياؤه

Share

لاينتهى إعجاب الناس بتراجم العظماء سواء كانت بأقلامهم أو بأقلام مؤرخى حياتهم . إنها للذة أن يعرف القارئ حياتهم الخاصة : ظروف نشأتهم ، بيئاتهم ، تفاعلهم مع هذه البيئات ؛ كيف كانوا يعيشون ، كيف كانوا يفكرون ؛ العوامل التى تدخلت فى تكوين شخصياتهم . . الخ واعترافات روسو أعظم ترجمة كتبها رجل لنفسه . إنه فريد بين من دونوا قصص حياتهم ، ذلك لأنه قال كل شئ ولم يخف عنا شيئا ، ذكر التافه من الحوادث بمثل الصراحة التى ذكر بها الهام ؛ ذكر سيئاته بمثل الإخلاص الذى ذكر به حسناته . فعرض بذلك حياته كما كانت دون مواربة أو تزويق ، وهو جد فخور بما انتهى إليه . " لقد كشفت عن دخيلة نفسى كما رأيتها أنت نفسك ( يا الله ) أيها الكائن الخالد ، اجمع حولى من اشباهى جمعا لا يحصى ، وليستمعوا إلى اعترافاتى ، وليكشف كل منهم بدوره عن قلبه عند أقدام عرشك بنفس الإخلاص ؛ وليقل لك واحد فقط ، إن جرؤ لقد كنت أحسن من هذا الرجل " (1)

شئ واحد في سلوك روسو العام قد يجذب انتباه القارئ كلما توغل فى اعترافاته ؛ شئ واحد قد كان يستبعده فى رجل له هذه الشهرة وهذا الصيت ، وما كان ليرضاه قط فيمن أعلن ما أعلن من أفكار وكتب ما كتب من أدب ،

ألا وهو : الحياء . الحياء بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى . فنحن نراه يحمر خجلا عند محادثته رجلا آخر . ويتلجلج ويتعلثم إذا , اضطر إلى إجابة سؤال شخص فى مجتمع ما ، ويهرب خائفا من هذا ، ويختلق المعاذير عن لقاء ذاك . وما أكثر ما كان يعتكف فى داره تاركا صخب المجتمعات وما تضطره من الأحاديث والمناقشات ! وما أكثر ما كان يخفض ناظريه أمام امرأة أو فتاة !

ما أصل هذا السلوك وما أساسه ؟ أمنشؤه شعوره المتأصل بالذنب ، كما يقول روسو نفسه ، أم شعوره المتأصل بالذنب مضافا إليه شعور متأصل بالنقص ، كما يمكن أن نقول ؛ ذلك ما سنوضحه فى هذه الكلمة ، أو ما سنحاول توضيحه .

ولد جان جاك بجنيف فى الثامن والعشرين من يونيو عام ١٧١٢ من إسحاق روسو وسوزان برنار . وكان والده فقيرا ليس له من دخل غير ما يكسبه من إصلاح الساعات فى جنيف ، بينما كانت والدته إلى جانب حكمتها وجمالها من عائلة غنية معروفة . وقد تحابا منذ كانا طفلين ونما معهما الحب وترعرع ، فتزوجا ، وكان روسو ثانى ثمرات هذا الرباط ( ١ ) ... وآخرها ، فقد دفعت والدته حياتها ثمنا له .

" و لم أعرف كيف تحمل أبى هذه الخسارة ، ولكنى أعرف أنه لم يتعز عنها أبدا . فقد كان يعتقد أنه يراها فى دون أن يتمكن من نسيان أنى الذى انتزعتها منه ؛ لم يكن يضمنى إلى صدره قط دون أن أشعر فى تنهداته وفى ضماته القوية بأن أسفا مريرا يمتزج بمداعباته ... وعندما كان يقول لى : جان جاك ، لنتكلم عن أمك ، كنت أقول له : إيه . حسنا يا أبى ، سنشرع فى البكاء إذا , فكانت هذه الكلمة وحدها كفيلة باستدرار الدمع من مآقيه . آه ، هكذا كان يقول منتفضا ، ردها إلى . عزني عنها ، املأ الفراغ الذى تركته فى نفسى . ومات بعد أربعين سنة من فقدها بين ذراعى زوجة ثانية ، واسم الأولى على شفتيه وصورتها في أعماق قلبه " (١) .

لم تمح هذه الصورة وصور أخرى من مخيلة جان جاك روسو ، بل جعلته حتى أخريات أيام حياته واقعا تحت ما نمته من الشعور بالذنب ، وقد تأصل فيه منذ الطفولة منذ أن قصت عليه هذه الحادثة ، فتولد عنده مركب الذنب كما يتولد عند الآخرين مركب النقص أو أى من هذه المركبات الأخرى ؛ فنجده يقول : " كان ( والده ) يعتقد أنه يراها فى ، دون أن يتمكن من نسيان " أنى " الذى انتزعتها منه ". فهو يرى نفسه مذنبا ؛ وهو لا يرى فيما اقترفه ذنبا واحدا ، بل ذنبين ترتب أحدهما على الآخر . فلئن دفعت والدته حياتها ثمنا لحياته . فقد حرم أباه منها وقد كان يحبها بل يعبدها .

ولكن روسو ، بعد هذا كله ، أو قبل هذا كله ، لم يأت هذا العالم صحيح البدن موفور الصحة ؛ فإنه على العكس جاء ضعيفا عليلا ، بل جاء وهو بين الحياة والموت ، وكان الأمل ضئيلا فى بقائه . ولولا اعتناء عمته به عناية فائقة لما عاش . وقد لازمه الضعف وصحبته العلة حتى آخر أيامه على هذه الأرض . وكان من أثر ضعفه وعلته أن صار موضع اهتمام المحيطين ، ورعايتهم ، فلم يكن يلقى منهم غير كل تدليل وعطف : كان لعبة الدار ، وكان معزرا محبوبا من كل إنسان ، ولم يكن ، حتى خروجه من البيت الأبوى ، يسمح له باللهو مع أترابه في الشارع ، ولم يكن

ترفض طلباته أو تحد من رغباته إذا دعاه هواه أو إذا لحت عليه نوازع الطبيعة أن يرضى إحداها ، كانت تربيته ناعمة فصار رخوا رقيقا لينا ؛ ولا ريب أن العطف الزائد من شأنه أن يركز انتباه الطفل على مرضه خاصة وإن كان مستديما . ولهذا أصبح روسو شخصا منكمشا راكدا متباعدا منزويا ... وهذا هو الشعور بالنقص المتكون من الضعف الجسمى . ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل تحول إلى ضعف الثقة بالنفس ؛ ومن مظاهره ، عند روسو ، التشدد والمبالغة فى الرغبة فى الإتقان للوصول إلى درجة الكمال فنراه يقول : " ليس فيها [ فى مخطوطاتى ] ما لم تلزمنى نسخها أربع أو خمس مرات قبل دفعها لمطبعة (١). فهو لا يرضى عن عمله ، فيعيد كتابته محاولا التحسين ، ثم يعيد نسخه ... وهكذا ، حتى يرضى ، وهيهات أن يرضى تماما ، ذلك أنه يبحث عن الكمال ... وأين الكمال فى أعمال البشر ! .

ولا يدرى روسو متى تعلم القراءة ، ولكنه يذكر أنه كان يقرأ مع أبيه القصص والروايات التى خلفتها أمه ، وأنهما تحولا عنها ، بعد أن فر منها ، إلى مكتبة جده لأمه ، وقد تجاوز السابعة بقليل ، وكانت تحوى لحسن الحظ أسفارا لأعلام الكتاب والمؤرخين ، كان أوقعها فى نفسه : " رجال بلونارخ " فى هذه القراءات اللذيذة كان يناقش أباه مناقشة الند للند ، ومن ثم تكونت عنده هذه الروح الحرة ، وهذا الطابع الشامخ غير القابل للخضوع . " فى شغل دائم بروما وأثينا ، عائشا مع رجالهما العظام ، إن أمكن القول ، مولودا أنا نفسى مواطن لجمهورية ، وابن اب كان حبه للوطن العاطفة الكبرى ، كنت ألتهب بها على غراره ؛ كنت أتوهم أنى إغريقى أو رومانى ، وقد أصبحت الشخصية التى كنت أقرأ عنها : كانت قصص ثباتهم وجسارتهم تؤثر فى نفسى بحيث تبعث الشرر فى عينى والقوة فى صوتى ( ٢ ) " . وحتى في أيامه الأخيرة نجده يقول : " بين العدد الصغير من الكتب التى

ما زلت أقرؤها ، بلونارخ أكثر ملازمة لى وإفادة . لقد كان أول قراءة لى فى طفولتى . وستكون الأخيرة فى شيخوختى (1).

" هكذا كانت أولى انعطافاتى عند مواجهتى الحياة , هكذا بدأ يتكون أو يظهر منى هذا القلب الشامخ والرقيق فى نفس الوقت ، هذا الطابع النسوى والجموح فى نفسى الآن ، والذى - متأرجحا بين الضعف والشجاعة . بين الرخاوة والفضيلة - وضعنى حتى النهاية في تناقض مع نفسى (٢).

أثرت في حياة جان جاك روسو إذا منذ طفولته ، ثلاثة عوامل : الشعور بالذنب وقد وضعه فى موقف اتهام دائم لذاته ؛ والضعف والعلة وقد جعلاه دائم التقليل من قيمة نفسه والتصغير من قدراته ... أما هذان العاملان فقد صنعا من روسو اعتكافيا ، " ابتعاديا " ، إن أمكن القول ، فى نفس الوقت الذى كان فيه متشبعا بروح الإقدام والطموح ، وقد بذرتهما فى قلبه المتقد المشتعل أبطال روما وأثينا ، وهو العامل الثالث ؛ ومن ثم كان التناقض التام الظاهر بين قلمه ولسانه . بين قلبه وفكره ، بين مظهره ومخبره ! وهو من أجل هذا مبتئس حزين . فهو إذ يكون وحده , فى عزلته ، يفكر ويكتب ويقول كل ما يمكن أن توحيه الجرأة والحرارة من فكر أو كتابة أو قول وهو إذ يكون وحده ، فى غرفته أو فى نزهته ، فهو الخطيب المفوه والمحدث الذى لا يبذ والمناظر الذى لا يعلى عليه ، فإذا خرج إلى الناس فقد ترك في غرفته أو ودع فى نزهته كل شئ إلا حياءه وانطواءه وانكماشه . القلب والفكر عند روسو لا يستجيبب أحدهما للاخر ؛ فبينما نرى مزاجه مشتعلا وأهواءه حية فائرة ، نرى تفكيره بطيئا وبديهته غائبة ، وإن حضرت فبعد أن تكون قد فات أوانها . " قد يقال أن قلبى وروحى

لا ينتميان إلى نفس الشخص (1) " . فهو يشعر ، فيمتلئ قلبه بشتى العواطف ، فإذا أراد ترجمة ما يصطخب فيه من الأحاسيس كلاما خذله فكره وعصاه لسانه فامتنع عليه القول . إنه يود لو يقول كثيرا ، ولكنه لا يقول حتى القليل . فإذا تحدث ففى تخبط وارتباك . فى الجماعة : لأتكلم كلاما مناسبا ، يجب أن أفكر جملة وللتو فى ألف شئ ... إنى لا أفهم كيف يتجرؤون على الحديث في جماعة : لأنه يجب استعراض الحضور عند كل كلمة ؛ يجب معرفة كل طبائعهم وتواريخهم للتيقن من عدم قول ما يمكن أن يغضب أحدهم ... هناك فى الحديث مواجهة صعوبة أخرى تفوق سابقتها ، هى ضرورة التكلم دائما : فهم عندما يتحدثون إليك عليك أن تجيبهم . وإن لم يتفوهوا بكلمة فيجب أن تبدأ أنت الحديث . إن هذا الإجبار غير المحتمل كان كفيلا بأن يكرهنى فى المجتمع ، فلست أجد شيئا اكثر مدعاة للضيق غير ضرورة الحديث للتو ودائما (٢) " .

ألا يجعلنا هذا أن نتساءل : أكان روسو يكره المجتمعات لما كانت تحتمه من " ضرورة الحديث للتو ودائما " ؟! أم كان ، وقد عهد فى نفسه بطء التفكير وغياب البديهة ، يدعي هذه الكراهية ويظهر هذا الزهد ؟! أفإن لم يكن حيياً خجولا أكان موقفه من المجتمع هو هو لا يتغير ؟! لم يجب روسو عن هذا السؤال فى اعترافاته إجابة صريحة سافرة . ولكنه قال صارا على أسنانه ، كما يلوح : " أى ظرف سعيد ، وأى نصر لى إن كنت عرفت أساليب الكلام ، وأن تكون ، إن أمكن القول ، ريشتى في فمى " ( ٣ ) ولا يتمنى معرفة أساليب الكلام إلا الذى يريد الاندماج فى المجتمع والأخذ فى الحياة الاجتماعية بنصيب ، أما كاره المجتمع الزاهد فيه ، فأى حاجة به أن يعرف أساليب الكلام ؟!.

إذا كان روسو ساخطا على حياته وانكماشه وانطوائه , وهو فى نفس الوقت لا يجد من الحياه مهربا وعن الانكماش

مفرا ، وعن الانطواء بديلا ، لم يكن روسو اجتماعيا وإن أحبه الناس . وقد وقعت له مآزق كثيرة ظهر فيها حياؤه وخجله من الناس وانكماشه عن مواجهتهم ، سنختار منها مأزقين على سبيل المثال .

كان روسو فى الثامنة والأربعين من عمره عندما كان ينزل ضيفا على مسيو لوماريشال دى لوكسمبورج وزوجته بقصرهما بمونمورنسى ,  وكانت للزوجان حفيدة " كانت تدعى إيميلى ، وكانت شخصا فاتنا ذا محيا جميل وعذوبة وحياء عذرى ...  كانت طفلة لا تتجاوز الحادية عشرة ؛ وكانت مدام لاماريشال التى تجدها خجولا جدا تبذل قصارى جهدها فى بث الحياة فيها . ولقد سمحت لى مرارا أن أقبلها (الطفلة ) وهو ما كنت أفعله avec ma maussaderie ordinaire ( لا أجد في اللغة العربية ترجمة لكلمة maussaderie غير كلمة عامية قد تقرب أو تبعد قليلا عن معناها ، وهي " لطوخية ! ") وبدلا من الحديث اللطيف الذى قد كان يقوله غيرى فى مكانى ، كنت أبقى ابكم ... ولا أعرف من كان منا أكثر خجلا وحياء من صاحبه : أهى الصغيرة المسكينة  أم أنا . وقد التقيت بها ذات يوم ، وكانت وحدها ، علي درج السراى الصغرى ... وإذ لم أعرف ماذا أقول لها ، سألتها قبلة ، وببراءة فانها لم تأباها على ... ولو كنت تمكنت في هذه اللحظة من تجنب لقائها لفعلت ، لا لأن رؤيتها لا تملأ نفسى بالبهجة ، ولكن للارتباك الذى أجده عند مرورى فى العثور على بعض كلمات مقبولة أقولها لها . كيف يحدث أن تخجل طفلة رجلا لم يخفه جبروت الملوك ! " (١) .

ولعل من أبدع ما قاله روسو عن نفسه فى مناسبة أخرى ، وإن بالغ فيها بعض المبالغة ، ما وقع له إبان لجوئه إلى موتبيه ، من أعمال سويسرا ، وكان ذلك في الثلث الأول من عام ١٧٦٥ ، حين تعرض له الكاهن موتمولان طالبا إليه أن يبين عقيدته الدينية ويوضحها أمام مجمع الكرادلة ، عندئذ تدبر الأمر وجعل يفكر : هناك ، يجب

أن يتكلم ويتكلم للتو ، وأن يجد الأفكار و " التاكتيكات " والكلمات فى وقت الضرورة ، وأن يكون حاضر البديهة رابط الجأش ثابت الجنان لا يضطرب لحظة ولا يرتبك . ما الذى كان يأمله وهو يشعر بعدم قدرته على التعبير عن نفسه ارتجالا ؛ كلما تدبر هذا الموقف كلما لاحت له خطورته . وهو إذ يشعر باستحالة خروجه من هذا المأزق بنجاح ، يفكر فى أمر آخر . لم لا يكتب الكلام الذى سيقوله فى هيئة خطبة يستذكرها ، حتى إذا تأكد أنه قد استوعبها كرها من الذاكرة كرا أمام مجمع الكرادلة الموقر كما يعيد التلميذ قطعة المحفوظات من الذاكرة أمام لجنة الممتحنين؟! هكذا جعل يفكر فى الخطبة التى سيلقها غيابا على مجمع الكرادلة فيعفيه من الكلام ارتجالا . وأي شئ أسهل عليه من الكتابة ؟! ها هى ذى الخطبة قد أعدت وها هو ذا يدرسها عن ظهر قلب ويحمية ، و " يصمها " كما يصم التلميذ قطعة المحفوظات سواء بسواء ليضمن نجاحه في الامتحان آه . كم كان منظره يبعث على السخرية والضحك وهو يغمغم ويعيد - دون توقف - نفس الجمل والعبارات ليعمل على إدخالها رأسه . . وأعتقد آخر الأمر أنه قد استذكر خطبته تماما . وفى ليلة اليوم المحدد كان " يحفظ ! " خطبته عن ظهر قلب ويتلوها دون خطأ ... وظل يستعيدها فى ذاكرته طوال الليل : ولكن .....واأسفاه ! ما أن انبلج الصبح وتفقد خطبته العتيدة فى رأسه وبحث عنها فى ذاكرته حتى وجدها قد تبخرت ! فهو يتردد عند كل كلمة كلما تخيل مثوله في مجمع الكرادلة اللامع ، ويضطرب ويتعثر وبتلجلج ويفقد السيطرة على أفكاره . وأخيرا ، وقد كاد يذهب ، يتفقد شجاعته فلا يجدها ، فيعدل عن الذهاب ، ويسرع إلى ورقة يخط عليها رسالة سريعة إلي مجمع الكرادلة بشرح فيها عقيدته موفرا على نفسه "مشقة " قيامه بين أعضائه حيث لا يمكنه الكلام دون تعلثم ، وحيث تخونه أفكاره ويخذله لسانه ويعمه الارتباك والحياء (1) .

اشترك في نشرتنا البريدية