الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 171الرجوع إلى "الثقافة"

من تاريخنا المجهول :، محمد بن بشير

Share

كان قاضيا عظيم الخلق ، جيد الفطنة ، ملتهب الخاطر ، شديد الشكيمة ، ماضى العزيمة ، جعل الحق رائده ،

والعدل قائده ؛ ومشى فى ضوء ضميره المؤمن يقذف بالحق على الباطل فيدم منه فإذا هو زاهق ، لا يغرق من بطش الوثورين ، ولا يتخشع لوعيد المبطلين ، أنى كانوا من العزة الرفيعة والجاه العريض ؛ فماش مرفوع الذكر .

موفور الكرامة ، مرهوب الجانب ؛ وقضى فجمل له لسان صدق فى الغابرين ، يترجم عن عظمة باهرة ، وبطولة نادرة ، تبهر النفوس ، وتفسرها على الإعجاب بها والإعظام لها والتأسى يهديها ، وإن فيها لأسوة حسنة لن ألقى السمع وهو شهيد .

تطلبت نفسه منذ الحداثة إلى العلم والأدب فرحل إلى " قرطبة " دار العلم والعلماء وقرارة الأدباء والشعراء ، وأقبل علي الدرس والتحصيل برغبة قوية وعزيمة فتية .

حتى تملأت نفسه وسار ذكره فاتخذه القاضى " مصعب ابن عمران ) كاتبا له ( ١ ) . وقد اشتهر هذا القاضى بأصالة رأيه وكرم نفسه وشجاعته فى سبيل الحق، وله فى ذلك مواقف مشهورة كان فيها ملء الأبصار والأسماع

والعقول ؛ وقد استفاد ابن بشير من هذه الوظيفة أكبر الفائدة ، وكان لها فى حياته أبلغ الأثر : بصرته بدقائق المجتمع ، وعلمته كيف يكون صراع الأمياء للعلماء فى سبيل متوهم ، واستطالتهم على الناس بغير الحق ، وعرفته كيف تكون مغالية الأهواء ، ومجالدة الأغراض حتى تكون كلمة الحق هى العليا .

وتاقت نفسه إلى تأدية فريضة الحج ليشهد منافع له ، فالتقى بالامام مالك بن أنس ( ١ ) . وانتفع بعلمه وخلقه ، واتخذه مثلا يترسم خطاه، ويقتفى أثره . ثم ذهب إلى " مصر " وعمل على المقام بها ، واختلف إلى علمائها ;

فصاحب الكثير منهم ، واقتطف من ثمار هلومهم ما طاب له الاقتطاف . ثم سار حتى القى عصا النسيار بضيمته فى مدينة " باجة " فأتخذه مالك بن عبدالله الفرشي كاتبا له (2). ولبث بها حتى توفى القاضى مصعب فاستدعاه الحكم (3). فأقبل وما يدرى ما يراد منه ، وعرج فى طريقه على بعض أصحابه ، وتحدث معه فى شأن استدعائه ، فقال له صاحبه :

ما أراه أرسل فى طلبك إلا للقضاء

فقال له : فأنا أستشيرك فى ذلك إن وقع . فقال له : لا أشير إلا بعد أن تصدقنى القول عن ثلاثة أشياء ، فقال : وما هى ؟ قال : كيف حبك للأكل الطيب ، واللباس اللين وركوب الفاره ؟ فقال : والله لا أبالي ما رددت  به جوعى وسترت به عورتى وحملت به رحلى ,

فقال صاحبه : هذه واحدة . فكيف حبك للتمتع بالوجوه الحسان ، والتبطن للكواعب الغيد ، وما شاكل ذلك من الشهوات ؟ فقال : هذه حال ما استشرفت إليها قط ، وما خطرت ببالى ولا اكترثت لفقدها . فقال :

وهذه الثانية . فكيف حبك لمدح الناس لك ، وثنائهم عليك ، وكيف حبك للولاية وكراهيتك للعزل ؟ فقال :

والله ما أبالى فى الحق من مدحنى أو ذمنى ، وما أسر للولاية ولا أستوحش للعزل . فقال : وهذه الثالثة . أقبل الولاية فإنك من الآمنين . فسار حتى قدم " قرطبة " ; فولاه الأمير الحكم القضاء والصلاة . وحكم فى أول

قضية نظرها على الحاكم وفيها يقول : " رحم الله محمد ابن بشير فلقد أحسن بنا فيما فعل على كره منا . كان فى يدنا شئ فصححه لنا ، وصار حلالا طيب الملك فى أعقابنا ( ١) ".

عمل ابن بشير من أول يوم تولى فيه القضاء على إصلاح النظام القضائى ، وجعله متسقا وحالة العصر ، ودل بأعماله على خصوبة ذهنه ورجاحة عقله ونضج فكره وغرامه بالتجديد وشغفه بالنظام : رأى أن عقد مجلس القضاء فى المسجد يعكر صفو السكون ، ويذهب بجلال الهدوء المنشود للعبادة ، فاتخذ سقيفة خاصة بجوار المسجد ، ورأى المتقاضين يهبطون عليه فى أى وقت شاءوا فحدد لهم أوقاتا ,

وجعل لهم جلستين فى اليوم ، تبتدئ الأولى مع الصباح وتنتهي قبل الظهر بساعة ، وخصها بسماع أغراض المتخاصمين فقط . وتبتدئ الجلسة الثانية من بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر ، ولا يسمع فيها إلا بينات الشهود .

ونظم كيفية الانعقاد : فكان يجلس وحده فى الصدر وبجانبه كاتبه ، وأمامه خريطة ، وبيده قلم ، ويدخل عليه المتقاضيان بحسب ترتيب قضيتهم فى ورقة خاصة بذلك ، ولا بد من وقوفهما على أقدامهما أمامه حتى يفرغ من نظر قضيتهما (2) .

وكان مع هذا لا يسمح لأحد من أصحاب القضايا أن يخالطه أو يزوره فى داره مهما كان مركزه ، ولا يقرأ لأحد كتابا يتعلق بقضية من القضايا . وفوق ذلك كان لا يجمع بين الشاهد والشهود عليه ، بل ولا يصرح له باسمه إذا خشى إن يناله بأذى . حكم ذات مرة فى قضية على الوزير بن قطيس ولم يعرفه بالشهود ، فاغتاظ الوزير ، وشكاه إلى الأمير واستعان به " عليه ، فكتب إليه الأمير : " إن الوزير كره حكمك عليه بشهادة قوم لم تعرفه بهم ، ولا أعذرت إليه

فيهم وإن أهل العلم يقولون إن ذلك له " فرد عليه ابن بشير : " ليس ابن قطيس ممن يعرف بمن شهد عليه لأنه إن لم يجد سبيلا إلى تجريحهم لم يتخرج عن طلب أذاهم فى أنفسهم وأموالهم ، فيدعون الشهادة هم ومن ائسى بهم وتضيع أموال الناس" .

وكان يدقق أشد التدقيق فى قبول الشاهد ، ويرده إذا لم تطب به  نفسه ولم يرتح إليه ضميره ، ولو كان من أحب أصدقائه وأكرمهم عليه . حدث أن شهد عنده صديق له مع رجل آخر ، فرد شهادة صديقه وقال المشهود له : زدني بينة . فعجب وطلب منه أن يعرفه الشاهد الذى رده ليعد له فقال له : إن الذى لم أقبله لا ينفعك تعديله عندى وهو صديقى ورفيقى . تخرج الرجل مشدوها لا يكاد يصدق ما سمعته أذناه . ولما علم صديقه أناء فى مجلس النظر على عيون الناس وقال له :

أيها القاضي ، قد علمت أنى لا أقدر على سؤالك عما أحب أن أسألك عنه إلا فى هذا المجلس ، وقد رأيت أن أوقف نفسى بين يديك هذا الموقف وأسألك عن السبب الذى أوجب ردك لشهادتى ، فقد علمت أنه جمعنى بك المنشأ وطلب العلم وطريق الحج ، واطلعت على باطنى مثل ما اطلعت على باطنك ، فعرفنى السبب الذى أنكرت على لأعرفه وأعترف بخطئى فيه أمام هذه الجماعة . فقال

القاضي : صدقت ، قد جمعنى بك ما ذكرت وعرفتنى كما وصفت ، وما أعثرت لك على خربة فى دينك ، ولكن صدرنا عن الحج ونزلنا بمصر ، وابتدأنا بالسماع من شيوخنا ، وعملنا على المقام بها ، فقلت لى : إن الغربة قد أضرت بى وإنى أحببت ابتياع جارية ، فحسنت لك ذلك ،

واستعرضت الرقيق ، فقلت لى إن وجدت جارية تساوى على وجهها كذا وكذا ، وبيدها صنعة ، ويسأل بها صاحبها من أجل صنعتها كذا وكذا ، أكثر مما تساويه

بغير صنعة . فقلت لك : لا حاجة لك إلى صناعتها ، وأما اتباعها المتعة فدعها وابتع غيرها فانها تقوم لك مقامها فلا معنى للزيادة فيها . فأظهرت منى القبول ومضيت فابتعتها ، وزدت فيها على قدرها . فلما رأيت الشهوة قد غلبتك فى ابتياعها وإتلاف المال فى المغالاة فيها ، خشيت أن تكون مثل تلك الشهوة قادتك إلى هذه الشهادة لمال

تأخذه او ميل تميله ، فاحتطت لدينى ولم أجدنى فى سعة من قبول شهادتك " ( ١ ). وهذه القصة تدلنا أوضح الدلالة على سمو أخلاقه ، وشدة توفيه ، ومبلغ حرصه على أن تكون أحكامه خالصة لوجه الحق ، ومن أجل ذلك كان لا يفتأ يستشير العلماء فيما يعن له من مسائل ، فاذا اختلف وإياهم ، أو أشكل عليه وعليهم أمر كتب إلى علماء " مصر " يستفتيهم ( ٢ ) ومن أشهر من كاتبهم الامامان العظيمان : عبد الرحمن بن القاسم المتوفى سنة مائة وإحدى وتسعين ، وعبد الله بن وهب المتوفى سنة مائة وسبع وتسعين (3) .

كان محمد بن بشير على شدة ورعه أنيقا رشيقا . لا يحرم على نفسه زينة الله التى أخرج لعباده ، ولا الطيبات من الرزق ، يرسل لمته ، ويفرق جمته ، ويخضب يده،

ويكحل عينه ، ويضع فوق رأسه العطر قلنسوة من الخز ، ويلبس رداء مصفرا وينتعل حذاء صرارة ( ٤ ) . ومن ظريف ما يروى أن رجلا من أهل القرى جاءه فى امر له وهو لا يعرفه ، فلما رأى زيه الغريب ، وأثر الزينة فى أطرافه توقف وقال : دلوني على القاضى ، فقالوا له : ها هو ذا الجالس

.أمامك ؛ فقال إنى رجل غريب وأراكم تستهزئون بى . أنا أسألكم عن القاضى وأنتم تدلوننى على زامر : فأكدوا له أنه هو ، فارتاع الرجل وطفق بنثر الأعذار ، وبطلب الإعتاب ، فأعتبه وقضىي له بالقسطاس المستقيم . واتخذ الحاسدون والمتطفلون هذا اللباس الغريب ملهاة لهم يسخرون منه ويضحكون عليه ، ويتنادرون ، وأسرف فى ذلك الفقيه " محمد بن عيسى " حتى ضجر منه ابن بشير ،

فقال له : " إن الشر لا يعجز عنه أحد ، وكل من رضى به قدر عليه ، وإن الخير لا يناله إلا أهل الصبر ومن يقوم على نفسه بالرياضة المحمودة ، فأقصر عما بلغني عنك " . وقد دعاه حبه للاناقة إلى ابتداع شئ طريف لما ولى القضاء ، لا إخال أحدا سبقه إليه : فقد طبع عشرة طوابع باسمه وجعلها فى خريطته ، فإذا رغب اليه أحد فى أن يستعين بجاهه على قضاء أمر من أموره ، اعطاه " طابعا " وأمر كاتبه أن يكتب اسمه ومسكنه ، وقيم

أخذ " الطابع " وقال له : " إياك إن كنت ظالما أن تقدم على أحد بطابعى " . ويعهد إليه برد الطابع ثانية فى (أجل يضربه له ( ١ ) ، وما زالت تلك " الطوابع العشرة " ( ٢ ) تتردد عليه طول حياته المباركه وهذا عمل طريف معجب حقا يدل على عبقرية فذة ، وذوق بلغ غاية الرقى والكمال ، وينطق بأن محمد بن بشير كان من أعاظم الرجال ، وهو شاهد عظيم على أن نظام البطاقات قد عرفته المدنية الاسلامية قبل أن تعرفه المدنية الغربية بقرون وقرون . .

( كلية اللغة العربية )

اشترك في نشرتنا البريدية