أخذ ابن الأثير في المثل السائر على الصابي - كما بينا - أنه يرادف السجع في المعنى الواحد، وعد ذلك من عيوب البلاغة؛ ولكنه لما سئل عن قول الله: (وكان رسولاً نبياً) والرسول لا يكون إلا نبياً، رجع فقال: (إن إيراد لفظتين في آخر إحدى الفقر بمعنى واحد لا بأس به لمكان طلب السجع) ولما كان بعض الذين يدافعون عن البلاغة القرآن يقولون إنه لا توجد فيه لفظة زائدة - وهو صاحب إعجاز القرآن - أن يذكر رأيه في هذا الأمر المهم
وسألته أن يبين معنى بيت النابغة: ولست بمستبق أخاً لا تلمعه على شعث أي الرجال المهذب وكان حافظ إبراهيم قد ذكر في عمريته قصة الجارية التي كانت تضرب الدف أمام النبي وأبي بكر بغير خوف ولا وجل. فلما جاء عمر ألقت دفها وجلست، فقال له النبي: أن شيطانها قد فر منك يا عمر. وذلك حيث يقول في هذه العمرية: قد فر شيطانها لما رأى عمراً إن الشياطين تخشى بأس مخزيها فسألت الرافعي عن هذه لقصة التي تنبئ أن الشيطان يفر من عمر ولا يفر من النبي فتلقيت منه هذا الجواب:
طنطا في ٢٠ فبراير سنة ١٩١٨ أيها الأخ بعد السلام، سرني من كتابكم أني أرى لكم شيئاً من التحقيق ودقة الفكر لم أكن أعهدها من قبل، فإذا واصلت العمل والجد واستعملت ذهنك رجوت لك اكثر من هذا ورجوت لك مظهراً إن شاء الله
أما ذكر الرسول والنبي معاً في الآيتين فأقرب ما يظن من الحكمة في ذلك أنه تأكيد لشرف الموصوف واختصاص له بالذكر لصفات مميزة، ولهذا جاءت العبارة معطوفة على صفة سابقة (وكان مخلصاً وكان رسولاً نبياً) . (كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً) . وقد كان يتوجه الانتقاد وحقيقته لو لم يكن هذا التنوين في لفظ رسول، ولكن التنوين أضعف معنى الكلمة. والمراد من السياق أن يكون المعنى قوياً بالغاً في الوصف فوجب أن يدل على كمال الموصوف بكمال المعنى؛ وليس في مذاهب التعبير عن هذا الكمال أدل ولا أبين من لفظ النبي فجاء به نكره كذلك وترك العطف فيه ليعلم أن المقصود هو إتمام المعنى لأن لفظ الرسول متضمن معنى النبوة، فذكر النبوة بعده على الوجه الذي في الآية يدل على أن المراد التوكيد في الصفة. ومن المعلوم أن التكرار يفيد التوكيد وله موضع معين في البلاغة لو ترك فها لخرجت العبارة ضعيفة أو ناقصة. لو كان لفظ الآية (وكان رسولاً من الرسل) أو (وكان الرسول النبي) أو (وكان رسولاً ونبيَّا) لسقطت العبارة عن درجة الإعجاز، ولجاز انتقادها؛ ولكن هذا التنوين في هذا السياق هو الحكمة كلها. ولزيادة الإيضاح نضرب مثلاً: لو قلت عن رجل عظيم كالشيخ محمد عبده مثلاً إنه كان فاضلاً وكان فيلسوفاً فأي شيء يفيده هذا الوصف إلا أن الرجل كأحد الرجال الممتازين؛ ولكن لو قلت كان فاضلاً وكان فيلسوفاً حكيماً شعر السامع في نفسه وشعر القائل أيضاً أنه كان رجلاً ممتازاً كاملاً لأن العبارة جاءت من التكرار الذي فيها على وجه من الكمال يفيد التوكيد، فكأن غيره من الفلاسفة يعبر عنه بلفظتين، وأما هو فيعبر عنه بثلاث تصويراً لكماله في نفسه وامتيازه عن سواه، مع أن لفظ الفيلسوف يقتضي معنى الحكيم. ولا يمكن أن تكون لفظة النبي جاءت في الآية
للسجع لأنها وأن وافقت ذلكن ولكنها تكرار في الآية الأخرى ومع ذلك لم يعبها تكرارها لأن سياق الوصف اقتضاها، وما اقتضاه السياق فهو طبيعي، لأنه بنية الكلام، بخلاف ما إذا سجع الكاتب فجاء بكلمة لا يراد منها إلا السجع، وبعد سطر أو سطرين كرر السجعة نفسها لغرض السجع أيضاً فإنها تجئ أبرد كلام وأسخفه. هذا ما يحضرني وكنت راجعت أمس الكشاف للزمخشري وتفسير الطبري الكبير فلم أجد لأحدهما كلاماً في هذا المعنى، وأظن أن الفخر الرازي ربما تكلم فيها، وتفسيره عند فضيلة الوالد مع تفاسير أخرى كثيرة، ولكني لم أراجع لأن دماغي يتعب سريعاً، ولأني أرى أن ما ذكرته هو الحقيقة (١)
وأما بيت النابغة (ولست بمستبق أخاً الخ) فضبطه لا تلمه. ومعناه أن الصاحب إذا تفرقت أخلاقه فجاء بالحسنة والسيئة ثم أرادت ألا تلم أخلاقه على تفرقها وتجمعها كما هو بل ذهبت تنتقي الحسنه فقط فإنه لا يبقى لك لأن كل إنسان يأتي منه الخير والشر، فلا بد من احتمال هذا وهذا من الصديق إذا أردت أن يبقى صديقاً
وأما العمرية فإن حافظاً نظم وتصرف في عبارة التاريخ فجاء بعض كلامه موهوماً معاني غير صحيحة. والقصة التي أشار إليها يمكن أن يؤخذ منها كما هي في نظمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الغناء ويشهد الرقص النسائي. وكان أضعف في الدين من عمر، وكان وكان الخ: ولكن القصة في نفسها لا تفيد شيئاً من هذا كله. فالرواية أن جاريه سوداء جاءت النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من بعض مغازيه فقالت: أني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف. قال: إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا. فجعلت تضرب، ثم دخل أبو بكر ثم على ثم عثمان وهي تضرب. فلما دخل عمر ألقت الدف وجلست عليه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر. فلم يفر الشيطان ولكنه خاف أو كأنه خاف. ولا يخفى أن اللهو من الشيطان؛ فهي عبارة مجازية.
وأنت ترى أنها جاريه سوداء، وأنها لم تفعل شيئاً إلا الضرب بالدف. وكان هذا من عادات سائر العرب إذا انقلب أبطالهن من الغزو، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للجارية إلا لتوفي نذرها لا غير. فأي شيء في هذا كله؟ وبالجملة فإن حافظاً إنما نظم تاريخاً موضوعاً وكان خليقاً به أن يضع تاريخاً جديداً كما يكتب رجل مثل كارليل في كتاب الأبطال أو نحو ذلك أما الكلام في باقي القصيدة فليس من شأني أن أخوض فيه. ولعل السيد البرقوقي يكفيك إذا وفى بما وعد قراءه والسلام عليكم ورحمة الله. (المنصورة)

