عد إلي كبرك وعجبك - إن استطعت - ياسيدي ولا يستولين عليك الجزع ، ولا يملأن قلبك الفزع . فلست أكتب إليك شامتا بك ، ولكنما اكتب إليك مواسيا لك ، مشفقا عليك . . ولن يدور بخاطري أن أحمل عليك كما حمل الزمان عليك ، ولا أن أقسو عليك كما قست الأيام عليك . .
لقد كنتم تسكنون ذلك القصر الفخم الضخم الذي أعدته الحكومة لسكني والدك الموظف الكبير . ولقد كنا نحن نقطن ذلك المنزل المتواضع ذا الطابق الواحد الأرض . . والذي يجاور قصركم ذاك الفخم الضخم . ولقد كنت أعتقد أن هذا الجوار كفيل بأن يجعلني أتعرف إليك ؛ ولكن خاب ظني حينما وجدتك تتباعد عني بقدر ما أتقرب منك . ؟
وأعلمك تذكر ما كان يرتسم على وجهك الصغير الجميل من الامتعاض ، وما كان يعتريك من الاشمزاز والانقباض كلما صادقتني في بعض الطريق . . ولقد حاولت مرارا أن تتجاهل وتنكرني ، ولكني لم أكن أعبا بما يبدو منك . . إذ كان أحب شيء إلي أن أري ابن السادة - كما كنا نسميك - وأن أجفل ابن السادة يرانى
ولا يخفي عليك يا سيدي أنك طيلة جواركم لنا لم تقدم إلي خيرا ، ولم تدفع عنى ضرا . . بل لو انك استطعت أن تقدم إلي الشر لقدمت ، أو تسدد إلى صدري السهام لسددت من
حاولت أن أعرف سر ازورارك عني وضيقك بي فما استطعت في مبدأ الأمر . . ثم وضح لي كبرك وتعاليك وعجبك وتعاظمك ، ورأيتك تجعل الفارق بينك ويبني كالبار في بين قصركم الفخر الضخر ومنزلنا المتواضع ذي الطابق الأرضى. . إذ تقول لي بصريح العبارة : ألا سبيل لمثلي أن يتعرف إليك إلا إذا ارتفع منزلنا ذو الطابق الأرضى حتى يقارب قصركم الفخم الضخم . فأجيبك بأن هذا ما لاحيلة لي فيه ، ولا قدرة بي عليه . وأثني مفكرا في أمرك هذا العجيب وأسأل نفسى : هل أرضعتك والدتك الكبر والتعالي فيما أرضعتك ..
ولكن الحظ واتاني حين نلت الشهادة الابتدائية بتفوق عظيم أتاح لي أن التحق بالمدرسة الثانوية بالمجان . ويلعب الحظ دوره مرة أخرى ، فأندمج في طلبة الفصل الذي أنت فيه ، وأراك عن قرب طيلة اليوم المدرسي . .
ويشاء كبرك الذي ليس لنهايته حد أن تختلف مع ذلك الطالب الوديع الذي كان يجلس إلى جوارك ، فيصدر الأمر بأن انتقل إلى جوارك ، وأن جلس ذلك الطالب الوديع مكاني . . ماذا كان شعورك حينذاك أيها الجار العزيز . لقد كان يثقل عليك أن أكون مجاورا لك في المسكن ، فإذا بي أجاورك في حجرة الدرس أيضا إنك لم تستطع صبر مع ذلك الطالب الوديع الذي كان جلس إلى جوارك . .
فكيف لك أن تصير على جواري وأنا لا أرضي الهضيمة ، ولا أطوي السخيمة . بل أرد اللطمة لطمتين ، وأرد الطعنة طعنتين .
غير أني ظللت أتود إليك وأتحبب ما وجدت إلى ذلك سبيلا . . وصرت انظر إليك كما ينظر العابد إلى الصنم . . ووضعتك من نفس حيث ينبغي أن يوضع الجار والزميل والصديق ، ولكنك لم تزدد إلا كبرا وتشامخا . لو استطعت أن تصعد إلي السماء من الكبر صعدت . أو تخرق الأرض من العجب خرقت . . حتى إذا ما حاولت أن تنتقص من قدري أمام بعض الزملاء لشهوة في نفسك ومرض في قلبك . لم أنس شجاعتى فأفحمتك وألزمتك حدك ، وجعلت الطلبة يسخرون منك ويعثون بك . ولكني لست أنكر أنك كنت تنظز إلينا جميعا كما ينظر السيد إلي العبيد . .
ولقد كنت أعلم أن السيارة الفاخرة المخصصة لوالدك الموظف الكبير تأتي بك كل صباح إلى المدرسة . وتنتظر خزوجك عقب انتهاء الدرس لتقلك إلى ذلك القصر الشاهق الأنيق الذي يجاور منزلنا ذا الطابق الأرضى . . ولك بعد ذلك أن تذهب إلى المسارح والملاهي مع من تشاء من الأتراب الذين يماثلونك ترفأ ونرفها وجاها ، فإذا أظلم القليل أعادتك السيارة الفاخرة إلى القصر الغارق في الأنوار .
فيستقبلك الخدم على باب الس قدم على باب السيارة ويصعد بك الخدم في المصعد التكهرباني . ويساعدك الخدم حتى سمع بلايك . وعند الخدم جنى تتناول طعامك . ثم يورعك الخدم حين تنام فأنت يا سيدي لا تعرف في حبانك إلا البنح والإسراف والنيم والترف . لا تعرف الففر ولا البؤس ولا الجوع ولا الدموع ؟ .
وإنني لمبتهج بما أنت فيه من بعمة وسعادة ، فليس أسعد لقلب من أن أري آثار نعم الله على عباره . غير أنني كنت ألح في وجهك أنك في استطعت أن يتنزعنا من منزلنا للتواضع لعملت رأو ان تهدمه فوق ر . وسنا لمحدبت ، حتى لا يبدو إلى جوار قسركم الفجم الضخم كالفزم بجوار الارد العظيم ؟ .
ويزداد بك التيه والغرور ، وتمادي في الكسل والإهمال ، وترس المرة بعد المرة . فتقرر المدرسة فسلك نهاليا ، وتخرج إلى اللهو الذي ألفته ، وإلى العبث الذي ٠٠
تجرى في دمك ، دون أن تكون قد أكلت دراستك الثانوية .
ثم تمر الأيام مسرعة ، ولا يروني إلا أن أري حركة غريبة في القصر الفخم الضخم . . وإذا الرياش والآناث الفاخر محمل على العربات ، والخدم منهمكون في إخلاء القصر من ساكنه وإعداده لقادم جديد .
لست أخفي عليك لقد استولي علي الذهول ، وأحست تصدع في قلبي ، ودمعة تتعلق في محاجري . . ماذا جري لوالدك الموظف الكبير . هل نقل إلي مدينة اخرى ؟ لا شك أن فراقكم عزيز علينا . . ؟
ولكن جاء في النبأ الأسيف حين علمت أن والدك الموظف الكبير قد أحيل . إلي المعاش ويترتب على ذلك إخلاء القصر الفخم الضخم الموظف الجديد الذي سيحل محل والدك المتقاعد . .
قلت في نفسي : تراكم أين تذهبون الآن وقد أخرجتم من القصر الفخم الضخم إلى غير عودة . . وما لكم إلى قصر مثله من سبيل ؟ إن أزمة المساكن مستحكمة ، والبلد في ازدحام بالسكان شديد . .
وأخيرا علمت أنكم قد وقفتم في العثور علي مسكن متواضع ذي طابق واحد أرضي في بعض الأزقة والآن عد إلى كبرك وعجبك - إن استطعت - يا سيدي ، ولا يستولين عليك الجزع ، ولا يملأن قلبك الفزع . . فلست أكتب إليك شامتا بك ، ولكنما اكتب إليك مواسيا لك مشفقا عليك
منذ ربع قرن أعاد سامي البريد هذا الخطاب إلى أخي الأكبر مفتوحا بعد أن كتب عليه جملته التقليدية : عائد للمراسل حيث رفض المرسل إليه استلامه
واليوم حين زرت أخي الأكبر لأهنته بمنصبه الجديد قال لي : خذ هذا الخطاب فاشره على الناس . فليس عليهم من باس في ان يعلموا ان ذلك التفيذ الفاسد الذي رفض أن يستلم هذا الخطاب يوما ما ليس إلا ذلك البواب الذي ينحي لي في خضوع واحترام كلما هممت بدخول القصر الفخم الضخم الذي أنا ساكنه الجديد .

