أمر السلطان بالشاعر يوما فاتاه فى كساء حائل الصبغة واه جانباه وحذاء أوشكت تفلت منه أخمصاه
قال: صف جاهى، ففى وصفك لى للشعر جاه ان لى القصر الذى لا تبلغ الطير ذراه ولى الروض الذى يعبق بالمسك ثراه ولى الجيش الذى ترشح بالموت ظباه ولى الغابات، والشم الرواسى، والمياه ولى الناس، وبؤس الناس منى والرفاه إن هذا الكون ملكى - أنا فى الكون اله!!
ضحك الشاعر مما سمعته أذناه وتمنى أن يداجى فعصته شفتاه قال: أنى لا أرى الأمر كما أنت تراه إن ملكى قد طوى ملكك عنى ومحاه
القصر ينبئ عن مهارة شاعر لبق، ويخبر بعده عنكا هو للآلى يدرون كنه جماله فإذا مضوا فكأنه دكا ستزول أنت ولا يزول جلاله كالفلك تبقى إن خلت فلكا أنا من حواه بعينه وبلبه ولئن حواك وحزته صكا!
والروض؟ إن الروض صنعة شاعر سمح طروب رائق جزل وشى حواشيه وزين أرضه بروائع الألوان والظل لفراشة تحيا له، ولنحلة تحيا به، ولشاعر مثلى ولبلبل غرد يساجل بلبلا غردا، وللنسمات والطبل ولديمة تذرى عليه دموعها كيما تقيه غوائل المحل فإذا مضى زمن الربيع أضعته وأقام فى قلبى وفى عقل
والجيش معقود لواؤك فوقه ما دمت تكسوه وتطعمه للخبز طاعته وحسن ولائه هو "لاته الكبرى" "وبرهمه" فإذا يجوع بظل عرشك ليلة فهو الذى بيديه يحطمه لك منه أسيفه ولكن فى غد لسواك أسيفه وأسهمه أتراه سار إلى الوغى متهللا لولا الذى الشعراء تنظمه؟
واذا ترنم هل بغير قصيدة من شاعر مثلى ترنمه ؟
والبحر .. قد ظفرت يداك بدره وحصاه .. لكن هل ملكت هديره؟
أمرجت أنت مياهه؟ أصبغت أنت رماله؟ أجبلت أنت صخوره؟
هو للدجى يلقى عليه خشوعه والصبح يسكب وهو يضحك نوره هو للرياح تهزه وتثيره والشهب تسمع فى الظلام زئيره للطير هائمة به مفتونة لا للذين يروعون طيوره للشاعر المفتون يخلق لاهيا من موجه حورا، ويعشق حوره ولمن يشاهد فيه رمز كيانه ولمن يجيد لغيره تصويره يا من يصيد الدر من أعماقه أخذت يداك من الجليل حقيره لا تدعيه .. فليس يملك، أنه كالروض جهدك أن تشم عبيره
ومررت بالجبل الأشم - فما زوى عنى محاسنه، ولست أميرا ومررت أنت فما رأيت صخوره ضحكت ولا رقصت لديك حبورا ولقد نقلت لنملة ما تدعى فتعجبت مما حكيت كثيرا قالت:صديقك ما يكون؟ أقشعما؟ أم أرقما؟ أم ضيغما هيصورا؟
أيحوك مثل العنكبوت بيوته؟ حوكا؟ ويبنى كالنسور وكورا؟ هل يملأ الأغوار تبرا كالضحى؟ ويرد كالغيث الموات نضيرا أيلف كالليل الأباطح، والربى والمنزل المعمور والمهجورا؟ فأجبتها: كلا: فقالت: سمه فى غير خوف "كائنا مغرورا"
فاحتدم السلطان أى احتدام ولاح حب البطش فى مقلتيه وصاح بالجلاد: هات الحسام فأسرع الجلاد يسعى إليه فقال: دحرج رأس هذا الغلام فرأسه عبء على منكبيه قد طبع السيف لحز الرقاب وهذه رقبة ثرثار اقتله.. واطرح جسمه للكلاب ولتذهب الروح إلى النار!
سمعا وطوعا سيدى - وانتضى غضبا يموج الموت من شفرتيه ولم يكن إلا كبرق أضا حتى أطار الرأس عن منكبيه فسقط الشاعر معروضا يخدش الأرض بكلتا يديه كأنما يبحث عن رأسه فأستضحك السلطان من سجدته ثم استوى يهمس فى نفسه (ذو جنة) أمسى بلا جنته
أجل! هكذا هلك الشاعر كما يهلك الآثم المذنب فما غص فى روضة طائر ولم ينطفئ فى السما كوكب
ولا جزع الشجر الناصر ولا اكتأب الجدول المطر وكوفئ عن قتله القاتل بمال جزيل وخد أسيل فقال له خلفه السافل ألا ليت لى كل يوم قتيل!
فى ليلة طامسة إلا نجم تسلل الموت إلى القصر بين حراب الجند والأسهم والأسيف الهندية الحمر إلى سرير الملك الأعظم إلى أمير البر والبحر!! ففارق الدنيا ولما تزل فيها خمور وأغاريد فلم يمد حزنا عليه الجبل ولا ذوى فى الروض أملود
فى حومة الموت وظل البلى قد التقى السلطان والشاعر هذا بلا مجد، وهذا بلا ذل، فلا باغ ولا ثائر عانقت الأسمال تلك الحلى واصطحب المقهور والقاهر لا يجزع الشاعر أن يقتلا ليس وراء القبر سيف ورمح ولا يبالى ذاك أن يعذلا سيان عند الميت ذم ومدح
وتوالت الأجيال تطرد جيل يغيب وآخر يفد أخنت على القصر المنيف فلا جدران قائمة ولا العمد ومشت على الجيش الكثيف فلا خيل مسومة ولا زرد ذهبت بمن صلحوا ومن فسدوا ومضت بمن تعسوا ومن سعدوا وبمن أذاب الحب مهجته وبمن تأكل قلبه الحسد وطوت ملوكا ما لهم عدد فكأنهم فى الأرض ما وجدوا والشاعر المقتول باقية أقواله، فكأنها الأبد الشيخ يلمس فى جوانبها صور الهوى، والحكمة الولد
