الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 348الرجوع إلى "الثقافة"

من عبث الأطفال :، غرفة المخزن

Share

) مؤلف هذه القصة المستر  هكنور مونرو   HECTOR MUNROEالقصصى الانجليزي المعروف الذي اتخذ لنفسه اسما مستعارا لكتابة قصصه ، هو لفظة " ساقي " العربية ، أي ساقي الخمر الواردة في رباعيات الخيام . وقد اشتغل المستر مونرو في عام ١٩٠٢ مراسلا لحريدة الورنتج بوست في البلقان ، ولما نشبت الحرب العالمية الأولى تطوع في الجيش وقتل في فرنسا عام ١٩١٦ . (

كان أطفال الأسرة قد عزموا ذات يوم على الخروج في العربة للتنزه على ساحل البحر الرملي ، ولكن نيقولا لم يكن بينهم ، إذ كان قد أساء التصرف في صبيحة ذلك اليوم بأن أبي تناول طعام الإفطار المؤلف من الحليب والخبز ، بحجة وجود ضفدعة صغيرة فيه . وقد حاول من هم أكبر منه سنا وأرشد عقلا إقناعه ببطلان حجته ، لكنه اصر على أنه رأي ضفدعة في طبق الطعام وان أوصافها كذا وكذا ، ولونها كيت وكيت . .

والغريب في الأمر أن الضفدعة كانت موجودة بالفعل في طبق الطعام ، وان جريمة نيقولا لم تعد موضع نقاش وتحقيق ، إذ كان هو الذي جاء بالضفدعة من الحديقة ووضعها في الطبق ، لماذا لأن فكرة ترامت له في أن يعمل على تكذيب من هم أكبر منه سنا وأرجح منه عقلا ، وتسفيه حجتهم في أمر قالوا إنهم اشد ما يكونون تثبتا منه ووثوقا فيه ، أو بعبارة اخرى نفي قولهم في عدم وجود ضفدعة في طبق الطعام . . ؟

وهكذا  قر قرار الأسرة على أن يذهب شقيق نيقولا وابن عمه وبنت عمه للتنزه وان يحجز نيقولا في البيت جزاء له على سوء فعلته .

وهم الركب بمغادرة الدار ، تشيعهم نظرات نيقولا الحزينة ، وقد حال الدمع في عينيه ، وشاركته في ذرف

الدموع - ولكن لسبب آخر- بنت عمه التي اصيبت ساقها بقشط وهي تتسلق العربة .

وكأنما بدت هذه الرحلة خالية من مظاهر الفرح والإبتهاج ، على عكس مثيلاتها من الرحلات السابقة ؛ وقد تنبه نيقولا إلي هذه الظاهرة ، فأراد ان يعمل على إحباط مشروع الرحلة فقال ملاحظا : " ابنة عمي تنتحب من ألم ساقها . "

فأجابته عمته ، وهي التي فرضت عليه عقوبة البقاء في المنزل : " لاتهتم فسيسكن الالم بعد قليل وأردفت تقول في كبرياء : " وسينعمون بنهار جميل ، وبأمسية فاتنة للسباق علي الرمل . . . "

فأعاد نيقولا الكرة قائلا : إن جون ابن عمه يشكو من ضيق في حذائه . ولن يكون في استطاعته الركض على الرمل . ولكن عمته قلبت موضوع الحديث ، وزادت بأن حذرته من دخول حديقة الدار ، بسبب سلوكه الشائن . بيد أن نيقولا لم يرتح إلي هذا التعليل ، وحسب ان ارتكابه المنكر ، لا يمنع وجوده في الحديقة بأي حال من الأحوال . وبدت على محياه امارات العناد والإصرار ، ووضح لعمته أنه يضمر دخول الحديقة عمدا ، لأنها نهته عن دخولها . .

وكان للحديقة بابان يستطيع شخص صغير كنيقولا الولوج من اي منهما ، والتواري وراء اشجار التوت والأرضي شوكي وغيرها من النباتات المثمرة .

وعلى الرغم من كثرة مشاغل عمة نيقولا ، عصر ذلك اليوم ، فقد آثرت قضاء ساعة من الزمن في الحديقة في اعمال زهيدة القيمة كي تراقب البابين المفضيين إلي الفردوس الممنوع . .

وقام نيقولا مرتين بالتنصص حول الحديقة متظاهرا بأنه يبغي اختلاس طريقه إليها ، وفي الواقع لم يكن في نية نيقولا المغامرة في دخول الحديقة ، إذ لم تك حركاته هذه سوي مناورة ، لإيهام عمته بأنه يحاول الدخول ، كي ينصرف اهتمامها إلى رصد بابي الحديقة ، دون الانتباه إلي

أي شئ آخر . ولما اطمأن نيقولا من هذه الناحية انسل عائدا إلى الدار لتنفيذ فكرة كانت قد نبتت في رأسه فجأة ثم مالبثت أن اختمرت .

دخل نيقولا المكتبة ، وتلمس بيده رفا ، فوقعت يده على مفتاح ضخم - هو مفتاح غرفة المخزن هذه الغرفة التي ما برحت ابوابها موصدة في وجهه ، ولم يك يؤذن بدخولها لسوي العمات والأشخاص الممتازين . وعالج نيقولا القفل فانفتح ، وولج الغرفة ، فإذا به يجد نفسه في أرض يجهلها بالمرة ، وقد القاها تختلف عن حديقة الدار في الروعة وتنوع الأشياء ، اختلاف الأرض والسماء .

لقد طالما صور نيقولا لنفسه كيف تكون غرفة المخزن ، هذه الغرفة المكنونة ، التي أقيم بينها وبينه ألف حجاب ، وكان كل سؤال عنها يقابل بالرد والإنكار . فها هو ذا واقف في وسطها ، يتفحصها بإمعان وشغف ، إنها بيت واسع الأرجاء ، يستمد نوره الضئيل من النافذة الوحيدة المطلة على الحديقة ؛ ها هي الكنوز النفيسة ، والرياش الفاخرة التي تبهر العين وتعجز اللسان ، تملأ كل شبر منها ؛ ورأي نيقولا البون الشاسع بين سذاجة الأثاث التي ألفها في الدار ووجاهة هذا الأثاث وعظم قيمته ، ولفت نظره طفسة من القماش المزركش الذي تزدان به جدران البيوت ، فجلس ينعم النظر فيها . فماذا رأي ؟ رأي صورة تمثل صيادا قد شك ظبيا بسهم ، وقد تراءي لنيقولا أن الصياد لم يجد كبير عناء عند رشق الظبي بالسهم ، إذ لم تكن المسافة بين الاثنين تتجاوز خطوتين ، وفي الغابة التي تمثلها الصورة ، لم يكن من العسير على الصياد أن يزحف على يديه ورجليه بين الأشجار الملتفة ، ويباغت ظبيا لاهيا يرعي . واتضح لنيقولا أن السلوقيين الأبقعين كانا قد دربا علي التربص حتي انطلاق السهم ، ثم الاندفاع وراء الفريسة بكل ما أوتيا من قوة . ولكن هل دري الصياد ، مارآه نيقولا في الصورة ، من

قدوم أربعة ذئاب طلس تعدو نحوه من الغابة ، وقد يكون غيرها مختبئا بين الأفنان . ومهما يكن من كل هذا ، فهل في استطاعة صياد وكلبيه ملاقاة أربعة ذئاب مهاجمة ؟ ثم إن جمعية الصياد ، كما بدت في الصورة ، قد خلت إلا من سهمين اثنين ، وقد يطيش أحدهما او كلاهما معا ، إذ جل ما نعرفه عن براعة هذا الصياد أنه استطاع صرع ظبي من مدى قريب جدا ، ولا فخر . .

وهكذا ظل نيقولا غارقا بضع دقائق في تأويل الصورة ، واستخراج دقائقها ، وتقليب وقائعها على كل وجه ، إلى أن بات لا يخامره الشك في أن الصياد وسلوقييه واقعون في مأزق خطر لا محالة

وكان في غرفة المخزن أيضا كثير من الأشياء التي يلذ الرائي مشاهدتها . فهناك الشموع الفارعة الملتفة كالتفاف الأفاعي . وإبريق شاي مصنوع على شكل بطلة ، ومن منقارها يسيل الشاي . بالزراية منظر الإبريق الذي تصب مربية نقولا الشاي له منه . . وهناك سقط من خشب الصنهل تفوح من لفائفه القطنية رائحة عطر ذكية ، وقد امتلأت مرتباته باللعب  النحاسية والثيران والطواويس والأقداح . وامتدت يد نقولا إلى مجلد ضخم ففتحه . فإذا رسوم لأصناف الطير جميعا ، ولكن أي طيور ! . لقد كان من النادر أن تقع عينا نيقولا عند تجواله في حديقة المنزل أو في الحقول ، على طير اكبر من عقمق أو قمرى ، ولكن ها هو الآن يري مالك الحزين ، والحباري ، والحدأة ، والطوقان ، والانبس ، وديك الحبش ، واللقلق ، والخضيري ، وغير ذلك من صنوف الطير ، وقد تقاربت شكلا ، وتبابينت لونا وحجما . .

وبينما كان نيقولا مكبا على صورة لفصيل من البط ، يستذكر تاريخه ونشأته ، إذ سمع صوت عمته المجلجل يدعوه باسمه ، من ناحية الحديقة . لقد داخل الريب عمة نيقولا في إبطائه ، وكادت تقطع في ان يكون نيقولا قد غافلها ودخل الحديقة ، متسورا الجدار من خلف أجمة

الزنبق المتعرشة ، فشرعت تبحث عنه ، منادية إياه بأعلى صوتها ومهيبة به أن " اخرج يا نعامة فقد رأيتك . . ! "

وقبع نيقولا في غرفة المخزن يصيخ السمع إلي نداء عمته ، وقد علت على فمه ابتسامة خبيثة ، إلى أن استحالت نداءات العمة إلى صرخات مدوية غاضبة ، فأغلق نيقولا المجلد ، ووضعه في مكانه بمثابة ، وانسل من الغرفة بعد أن احكم إغلاقها واعاد المفتاح إلى مكانه المعين ، ثم نفذ إلى قدام الحديقة ، وباغت عمته بقوله : " من المنادي ؟؟ ! " .

فأجابت عمته : " أنا عمتك . . ألم تسمعني وأنا أناديك ! لقد كنت ابحث عنك في الحديقة فزلت قدماي ووقعت في صهريج ماء المطر ، وكان فارغا لحسن الحظ ، ولكنني لم أقدر على الخروج منه بسبب ملاسة جوانبه . . فأسرع وأحضر لي السلم من تحت شجرة القراصيا . . "

فأجاب نيقولا علي الفور : " لقد أمرت بألا أدخل الحديقة . و

فقالت عمته وقد كاد ينفد صبرها : " أمرتك بألا تدخل الحديقة ، والآن أمرك بأن تدخلها . . " فقاطعها نيقولا قائلا : " يلوح لي يا هذه ، ان صوتك لا يشبه صوت عمتى وقد تكونين إبليس الرجيم تمثل بها ، لإغرائي على دخول الحديقة . فلطالما قالت عني عمتي إنني مطواع لهمسات الشيطان ولمزاته . لكنني لن اذعن له هذه المرة . . " فأجابت عمته وهي في الصهريج : " كفي هذرا يا نيقولا . . وأسرع إلي بالسلم " فسألها نيقولا بسذاجة : " هل ستحفل مائدة إفطارنا غدا بمربي التوت ؟ " أجابته عمته : " بكل تأكيد " ولكنها كانت تضمر ألا تفرح نيقولا بنصيب منه . فهتف نيقولا طربا : " الآن عرفت أنك إبليس الرجيم ، ولست عمتي ، فقد سألنا عمتنا يوم امس عن هذا المربي ، فأجابت بأنه لم يبق لديها شئ منه ، مع أنني عالم بوجود أربع جرار منه في عنبر المؤونة ، وأنت أيها الشيطان تعرف ذلك ولا شك . . ولكن عمتى لا تعرف

بدليل قولها إن المربى قد نفد من عندها . . آه أيها الشيطان ! لقد انكشف أمرك وساء تدبيرك ! "

كانت نشوة من الجذل والمرح تغمر نيقولا إذ رأي نفسه قادرا على مخاطبة عمته كمن يخاطب الشيطان حقا ، بيد أنه أدرك مغبة الإفاضة في مثل هذا الحوار ، فاتصلت عائدا إلى البيت وهو يهدر ويدمدم . وجاءت الخادم من المطبخ ، لتقطف من الحديقة بعض الثمار ، فرأت عمة نيقولا ، وساعدتها على الخروج من صهريج الماء .

كان سكون رهيب يخيم على أفراد العائلة ، عندما جلسوا لتناول الشاي مساء ذلك اليوم ، وظلت العمة صامتة كامدة ، وقد تجهم وجهها ، وأحست بأن كبرياءها قد أصيبت في الصميم ، إذ ألزمت دون مبرر ، على الانحباس نصف ساعة في صهريج الماء ، أما نيقولا فقد كان هو الآخر صامتا كمن يفكر في معضلة ، وفجأة لاح له انه قد اهتدى إلى حل لها . ذلك أنه في استطاعة الصياد الفرار مع سلوقبيه ، بينما تكون الذئاب الأربعة منهمكة في نهش الظبي الصريع

اشترك في نشرتنا البريدية