تركيا عدوة مصر التاريخية: هذه حقيقة يجب أن يعرفها ويؤمن بها كل مصري، وقد أيدت تركيا الكمالية ،هذه الحقيقة التي لبثت تركيا العثمانية عنوانًا لها مدى قرون فما من مرة أثير فيها الحديث حول مطالب مصر القومية وحول استمساك مصر بجلاء المستعمر الغاصب عن قناة السويس، إلا وأبدت الدوائر السياسية والصحف التركية معارضتها لهذه الأماني، بحجة أن هذا الجلاء يضير قضية الدفاع عن الشرق الأوسط، وتركيا تزعم أن لها مصلحة مباشرة في الدفاع عن القناة وعن الشرق الأوسط الذي تنتظم بين دوله ولكن تركيا لم تبدُ في ثوبها الحقيقي، ولم تكشف عن نفسها المريضة، وعن بعضها التقليدي لمصر منافستها القديمة بأكثر مما كشفت عنه في الآونة الأخيرة حينما وضعت يدها في يد الدول الاستعمارية، أو بعبارة أخرى حينما جرتها الدول الاستعمارية إلى أن تمثل معها ذلك الدور الممقوت باشتراكها معها في عرض مشروعها المتعلق بالدفاع الرباعي عن الشرق الأوسط على مصر، ومحاولتها أن يستبدل الاحتلال الانجليزي لمنطقة القناة باحتلال رباعي من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وتركيا! وذلك باسم الدفاع المشترك وبحجة الحرص على سلامة الشرق الأوسط، ودعوة مصر إلى أن تشترك بنفسها في وضع هذه الأغلال الجديدة في عنقها.
وقد كنا نفهم دائمًا أن تقوم بريطانيا وفرنسا الدولتان الاستعماريتان القديمتان، وأمريكا وهي الدولة التي نزلت حديثًا إلي ميدان الاستعمار، بتمثيل هذا الدور حرصًا على ما لهما من مناطق ومصالح استعمارية شاسعة في مختلف أنحاء هذا العالم، ولكن الذي لا نفهمه ولا يمكن أن نسيغه هو أن تقحم تركيا الكمالية نفسها، وهي التي برزت من غمر العدم بعد كفاح شاق ضد الاستعمار والمستعمرين، في مثل هذه المحاولة المكشوفة التي يراد بها أن تحكم الأصفاد في
عنق أمة تكافح من أجل استكمال استقلالها، وتعلم تركيا .ويعلم العالم كله ما لها من مكانة تاريخية عريقة
ولكن تركيا هي عدوة مصر التاريخية، ولا يهمها أن يستمر عدوان الانجليز على مصر، بل وقد يسرها أن تبقى مصر، وهي "الإبالة" التركية القديمة، بعيدة عن تحقيق أمانيها في النهوض والقوة، وهي تغص دائمًا بما تشهده من نهوض مصر وتقدمها، وتشعر شعورًا قويًّا بأن مصر هي منافستها الوحيدة في الهيبة والنفوذ في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي.
والحقيقة التي لا ريب فيها هو أن مصر لم تنكب في تاريخها الطويل الحافل بمثل ما نكبت به على يد الترك العثمانيين؛ فقد فقدت مصر استقلالها التالد وإمبراطوريتها العظيمة التي كانت تمتد إلى جنوبي آسيا الصغرى على يد أولئك الغزاة البرابرة في سنة ١٥١٧ م بعد أن لبثت قرونًا زعيمة الإسلام والمدنية الإسلامية، ولم تفقد مصر يومئذ عظمتها واستقلالها التالد فقط، ولكنها كادت في ظل الحكم التركي الغاشم، تفقد كل مقوماتها القديمة، وكل ما كان يزدهر بها من علوم وزراعة وتجارة وصناعة، ولولا بقية من حيوية أصيلة في الأمة المصرية استطاعت أن تحتفظ بها دائمًا أيام المحنة، لما استطاعت أن تفيق إلى اليوم من محنة الحكم التركي.
،وقد خرب الترك العثمانيون مصر والعالم العربي والإسلامي واستصفوا كل ما فيها من ثروات مادية وأدبية، وقضى الترك العثمانيون على الحضارة الإسلامية التي ازدهرت بمصر والشرق الإسلامي مدى قرون، كما قضوا من قبل على الحضارة البيزنطية حينما افتتحوا قسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، ولم يستطيعوا بعد أن خربوا تراث العالم القديم .أن ينشئوا خلال مجدهم الحربي الطويل أية حضارة جديدة. وقد حاول الترك أن يتشحوا بما انتزعوه من مصر والشرق
الإسلامي من أثواب زاهية فسطعت إمبراطوريتهم حينًا ولكن في أثوابها المستعارة فقط، فلما استنفدت ما جمعت من تراث الأمم المغلوبة، ولما أفل نجمها المستعار، ظهرت في أثوابها الحقيقية البالية مريضة مهيضة؛ ومع ذلك فإن مصر والبلاد العربية التي استشهدت على يدها قرونًا لم تنسبها أمام المحنة، ولم تنسَ أخوة لها في الدين، ولم تتقاعس عن مؤازرتها كلما استطاعت: في حرب البلقان، وحرب طرابلس وحرب التحرير وغيرها وغيرها؛ ولكن تركيا الكمالية ما كادت تشعر بشيء من الحياة يدب فيها حتى تنكرت للعالم العربي والإسلامي، واعتقدت أنها بانسلاخها عن هذا العالم القديم الذي أفاض عليها أثواب مجدها السالف، تستطيع أن تزعم أنها دولة أوربية، وأن تشتري بخلع ثوبها الإسلامي القديم عطف أوربا النصرانية وحسن ظنها، وزعم قادتها الجدد، أن صفتها الإسلامية القديمة هي التي جلبت عليها محنة التعصب والقطيعة واجتماع كلمة الغرب على خصومتها ومقاومتها؛ بيد أنها نسيت تلك الحقيقة التاريخية، وهي أن فتوح تركيا وأساليبها المخربة في البلاد الفتوحة، وقصورها عن إبداء أية مقدرة إنشائية أو أية أساليب حضرية أو إنسانية، هي التي جمعت ضدها كلمة الغرب المتمدين، ولم يكن للإسلام أو تعاليمه في ذلك أي دخل، بل كان من سوء الطالع أن وقع ذلك كله في ظل صفتها الشرقية والإسلامية، فأصيبت سمعة الإسلام بذلك على يد الدولة العثمانية بما لم تصب به إلا على يد الغزاة المخربين أمثال آتيلا وجنكيز خان وهولاكو وتيمورلنك وهم في الواقع أسلاف الترك العثمانيين وأبناء عمومتهم في النشأ والجنس والوطن الأصلي.
وإذا كانت تركيا تسيغ اليوم لنفسها أن تقف إلى جانب الدول الاستعمارية في معارضة حقوق مصر وأمانيها المشروعة فإنها لا تشذ في ذلك عن السياسة المكيافيللية التي تتبعها باستمرار، وهي سياسة الاستغلال وانتهاز الفرص التي دأبت عليها؛ وهل نسي أحد أنها خلال الحرب العالمية الثانية كانت تلعب على مسرحين وتتناول الأعطية من الفريقين، وأنها لما أيقنت وتحققت من أن ألمانيا النازية قد خسرت الحرب نهائيًّا أعلنت عليها الحرب في أواخر سنة ١٩٤٤؛ وهي اليوم تجد فرصة سانحة في الانضواء تحت لواء الدول الاستعمارية التي
تتزعمها أمريكا، وتمدها أمريكا بالسلاح والقروض المجانية لأنها تقع بجوار روسيا فيما تعتبره أمريكا خط الدفاع الأول عن حقول البترول في الشرق الأوسط، وبحجة الحرص على سلامة البوسفور والدردنيل؛ وتركيا تلعب دورها الجديد مغتبطة بما تحصل عليه من غنائم ومزايا، ولا تجد بأسًا في أن تمالئ أمريكا والدول الاستعمارية فيما ترغبه من تمكين استعمارها حيث تريد، ولا تجد بأسًا من أن تؤازر إسرائيل وتصادقها على حساب الدول العربية، دون النظر إلى شيء من مقتضيات الحق والعدل ومبادئ الخلق القويم
ولكن الذي نود أن تعرفه تركيا هو أن مصر لم تجزع لموقفها ومؤازرتها للدول الاستعمارية، فهي تدرك روح تركيا ومراميها الحقيقية. وتعلم أن قيام مصر الحرة القوية ليس من الأمور المستحبة للسياسة التركية؛ ومصر تعتبر هذه الفترة الحرجة من حياتها فرصة طيبة لتمييز العدو من الصديق وسوف تجوز مصر أزمتها قوية عزيزة بإذن الله، وسوف ينتصر حقها على باطل الدول الاستعمارية.
