الليل ساج داج لا تسمع فيه حساً أو دبيباً . كأن الصمت قد قشر ألويته الكثيفة على الناس جميعاً . حتى رجل الشرطة قد استسلم للنوم اللذيذ في مثل تلك الليلة الرعناء التي غاب عنها القمر وزأرت فيها العواصف ، فما عاد أحد يسمع وقع قدميه الغليظتين تشقان جوف الظلام المعتكر . . فلقد خيل إليه أنه يمنأى عن الرؤساء ممن يستطيعون أن يحاسبوه حساباً عسيراً على نومه حين ينبغي أن يكون متيقظاً . لها من أحد من هؤلاء الرؤساء يستطيع أن يخاطر بنفسه في تلك البرودة القارسة القاصمة . . التي الجأت الناس إلى المواقد مستدفئين أو إلى الفراش مبكرين . وألجأت الحشرات إلي جحورها ساهمة واجمة . . والجأت الطيور إلي أعشاشها مذعورة خائفة . . فلماذا يظل هو وحده الساهر الساهد والكل غاف غافل . . ولماذا يظل هو وحده المشغول دون أن يكون هنالك شاغل . لقد نبطت به حراسة كل هاتيك المتاجر والمنازل ، فهو لها حافظ وعليها حارس . . ولكن
يحرسها ممن ؟ من اللصوص ؛ وأي لص مجنون يستطيع ان يخرج في هذا الشتاء العريد وهو يعلم أنه هاهنا واقف كالرصد . . لقد ظل في هذه المنطقة سنوات ذات عدد وهو يسهر الليل دون أن يعكر صفو الأمن معكر ، أو يفكر في التعرض لبأسه مفكر . . فماذا عليه لو نام الليل كما ينام الناس . . وماذا على الناس لو أنهم سمحوا له أن يكون منهم ولو ليلة واحدة ، فيتمتع بنوم الليل كما يتمتعون . ولا سبيل إلي التعلل بالأمن . فالأمن مستتب مصون ؟ .
وأغفي الحارس النشيط إغفاءة عميقة كأنه السكير يخشى ان يستيقظ فتصدمه الحقيقة ؟ وليس أحد يدري اهى أحلام كانت تداعب رأسه الأصلع حين هب من غفوته مذعوراً فمن لدغته عقرب . . ثم يفرك عينيه بيديه ويرفع رأسه نحو السماء مشدوها كأنه يسألها تفسيراً لما أشكل عليه فهمه ! ما هذا الصوت المجلجل المدوي ذو الرنين الذي يأتي من
بعيد كأنه الاستغاثة . هل جد في الكون شئ جديد خلال تلك الإغفاءة التى ودعها في منتصف الطريق . ولماذا يدق هذا الناقوس تلك الدقات المسلسلة المتصلة التى لا تنقطع إلا لتتصل ، وما لأحد عهد بأن تخدش دقات الناقوس سمع الليل البهيم .يأله من عبد أحمق ذلك الذي أخذ علي عالقه أن يثيرها ضجة هوجاء بتلك الدقات المنطلقة من ناقوس المعبد ونحن لا نزال في الساعة الثانية من الصباح . ولكن لقد أفلح الخبيث فيما أراد ، فتعالي الضجيج والصياح ، وأطل الناس من النوافذ يتساءلون : ما الخبر ؟ وإذا صوت أجش كأنه ينبعث من قبر يقول : أيها الناس ، إن الناقوس ينذركم أن هبوا من نومكم لنقوموا على حراسة أنفسكم وأمتعتكم . فإن الرجل الموكل بالحراسة قد خان واجبه وامتثل للرفاد وما عليكم إلا أن تذهبوا إليه في دركه فتجدوه نائماً كالقتيل ، لا تركنوا إلى ذلك الحارس النائم . . فإن الارتكان إليه كالأرتكان إلى جدار منهار ؟ .
يا للناقوس النمام ؟ يريد إيقاظ الناس حتى يضبطوا حارسهم متلبساً بالنوم . ولكن حمداً لله فقد استيقظا لجندي الهمام قبل أن يضبطه الناس نائماً . . وكان الفضل في إيقاظه للناقوس بالنمام ! .
ولقد كان هذا الجندي في حاجة إلي بعض الوقت حتى يدرك أن الكابوس هو الذي هيأ له دقات الناقوس ، وان المسألة لا تعدو أن تكون وهما من الأوهام أو حلما من الأحلام التي تتعقبنا في المنام . فلقد كانت هذه أول محاولة له في إهمال شئون الحراسة خلال خدمته الطويلة . وما دعاه إليها إلا الشيطان . فما تعود من قبل أن ينام ويترك منطقة حراسته وديعة بين يدي الأقدار ، أو بين أيدي الأشرار ؟
ولكن . يا للشيطان ؟ إنه يغريه بالنوم مرة أخرى والا يستمع للأوهام ، فليس هناك ناقوس وليس هناك ناس . وما يكاد الشيطان يفلح في تنويم الحارس حتى يقوم هذا من
النوم مرتاعا وقد بدت له دقات الناقوس أشد عنفاً وأكثر صريخا . . فآلي علي نفسه ألا يعاود النوم مهما كانت الدوافع والأسباب
كيف السبيل إلي قضاء هذا الليل الطويل المتثاقل الذي لا يريد البراح . . ؟ لا شئ إلا التفكير بقتل الوقت وينقض على الزمن انقضاضا . . ولكن فيم يفكر هذا الحارس الذي علمته الحياة أكثر مما تعلم في كتاب القربة . . ؟ إن موضوع الناقوس موضوع جذاب جدير بالتفكير والتدبر فضلا عن أن حربا خفية قد استعرت بينه وبين دقات الناقوس التي أبت عليه النعاس ؟ فليفكر إذا في : الناقوس . . وعلاقته والناس ؛
وبدأ الجندي يحدث نفسه دون أن يدري أن هناك من بدون حديثه . . ولقد أريد له أن يدهش حين يجد حديثه منشوراً في الثقافة الغراء :
لقد أردت النوم وأمنت الرؤساء ولكن كان الناقوس على من الرقباء ، فأبي على الرقاد وأشعرني بأنه يحصى حركاتي ويعد أنفاسي . . ألا ما أشبه الناقوس بالضمير ؟ ما يكاد الغافل يغفل والعابث يبعث حتى يستيقظ الضمير فيحذر وينذر تماما كما يفعل الناقوس . . ألا فليكن لي من ضميري رئيس . وليكن لي من ضميري ناقوس . .
إن ناقوس المعبد معلق في تلك النافذة المرتفعة . . وعلي خادم المعبد أن يصعد إلى أعلى البناء حتى يدق النقوس فيسمعه الناس . لو كان هذا الناقوس معلقا في مكان منخفض أكان يسمعه الكثيرون الذين يسمعونه وهو في ذلك المكان المرتفع . . لا أظن . . ألا ما أشبه الناقوس بالألقاب والدرجات ؟ فكلما كان الإنسان ذا لقب كبير ودرجة رقيمة كان صوته مسموعا وكان أمره مطاعا . . فإن لم يك ذا لقب ولا درجة لم يسمعه أحد ولم يطعه أحد ولم يحس به أحد . . كالناقوس المطمور في التراب . . أليس كذلك . .
لماذا يصنعون الناقوس من النحاس ولا يصنعونه من الخشب ولا من الزجاج . ولو أن هناك ناقوساً من خشب أو زجاج هل كنا نسمع له ذلك الصدي والرنين الذين تسمعهما لناقوس من نحاس ؟ إن الخشب بارد والزجاح
هش ، ولكن النحاس قوي متين . . ألا ما اشبه الناقوس بالأخلاق ؛ فكلما كان الإنسان قوي الخلق ثابت العقيدة كان أقدر على الإنتاج ، وكان أقوى على الصبر والاحتمال ، وكان أقرب إلى بلوغ الأهداف . . ؟ أما ذلك الإنسان الضعيف الرخو ، فإنه كالناقوس المصنوع من الخشب أو الزجاج ، إما أن يكون بارداً لا روح فيه ولا حيوبة . . وإما أن يكون هشاً سريع الانهيار لا يحتمل ولا يصطبر . . وكلاهما لا خير فيه . . ؟
كيف يدق الناقوس . . بالمطرقة . وماذا تكون المطرفة في الحجم بالنسبة إلى الناقوس الضخم . . وهل يمكن للناقوس الضخم أن يؤدي رسالته وبسمع الناس دقاته، دون تلك المطرقة الصغيرة الححم . الجواب لا ، بالطبع ! ألا ما أشبه الناقوس بالإنسانية ! فإن المجتمع الإنساني يقوم على التعاون بين أفراده ، لا فرق بين صغير كبير فلكل منهما نفع . . فليس الصغير بمستغن عن الكبير . . وليس الكبير في غني عن الصغير . . كالمطرقة الصغيرة لاجدوي منها بغير الناقوس الكبير . . وكالناقوس الكبير لا فائدة منه بلا مطرقة صغيرة . . .
متى يدق الناقوس . . حين يتحرك ويهتز ؛ فلو ظل الناقوس على جموده ما سمعنا له صوتاً . . ولكن حين يهزه الإنسان أو يحركه فإنه يجلجل ويصلصل . . علام يدل هذا . أليس في الحركة بركة كما يقولون . . ؟ إذا فلترفض الجمود ولنتحرك حتى تنال البركة التى عنها يتحدثون . . فلم يكن هناك من يدري أن هنا ناقوساً لو لم يتحرك الناقوس ويهتز . كذلك علينا أن نسعى في الأرض مرددين قول الشاعر :
إن العلا حدثتني وهي صادقة
فيما تحدث أن العز في النقل
لو أن في شرف المأوي بلوغ مني
لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل
ما صوت الناقوس . . أليس هو ذلك الصوت الذي بدأ عالياً ، ثم يخفت ويخفت حتى يصير إلى العدم والانتهاء ، . . ؟ وأي شيء يشبه هذه الحالة في دنيانا التي تحباها . . ؟ أليس ذلك الصوت الذي يبدأ مرتفعا يشبه كثيراً
ذلك الصخب والضجيج اللذين تحدثهما نحن ونحن في فرحة الحياة وبهجة العمر . . ثم اليس ذلك الخفوت الذي ينتهي إلى الفناء يشبه كثيراً حشرجة الوت وذهاب الروح . . ؟ إن دقة الناقوس قد جمعت الضدين : الحياة والموت ؟ .
لمن يدق الناقوس . . لي أم لك أم للناس جميعا . . ؟؟ إن
الناقوس يدعو الناس إلي المعبد حيث تجمعهم المساواة في الوقوف . . والمساواة في الفرائض . . والمساواة في سماع المواعظ . . فهل هناك من يتعظ ؟؟ لا ، إنهم لا يكادون يخرجون من المعبد وتودعهم أجراسه الفضية حتى يخسروا القضية ...؟؟
