الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 344الرجوع إلى "الثقافة"

من قصس الأطفال الصيفية : ، الناطور (1)،

Share

وصف لنا الشعراء الحقول نهاراً وضمنوا ذلك قصائدهم الرائعة ، وافتن المصورون في رسم أشجارها وأحوالها في كل أوقات النهار ، ولكن الشعراء في الليل يعكفون على الخمور يترعون منها كؤوسهم ويكرعون منها حتى الثمالة ، والمصورون يعكفون على آلات الموسيتي المختلفة يعزفون عليها ويتابعون ألحانها بغنائهم ؛ ولكنهم لم يذهبوا إلي الحقول ليصفوا أحوالها ويصوروا مناظرها كما فعلوا في النهار . في الذي يعرف الليل وأحواله في الحقول ؛ ذلك هو الناطور ، وسنقع غلتنا بالخير اليقين .

يقول رجال الدين : إن الإنسان من خلق الله ، ونقول نحن : إن الناطور من خلق الفلاح ، فهو الذي صنع هيكله من الخيزران وكسا جسمه بأعشاب الأرز الجافة الصفراء ، وغطي رأسه بسلة قديمة أو بورقة من ورق التيلوفر الممزق ، وربط في يده مروحة قديمة مكسورة تدلت منها في اتجاه الأرض ، وغرس برجله الوحيدة الطويلة في الطين بجانب الحقل ، فوقف هناك ليلاً ونهاراً لا يتحرك .

أدي الناطور واجبه بكل جهده ، فإذا شبهناه بجاموس لحرث الأرض لم نكن محقين ، لأن الجاموس يرقد أحياناً على الأرض ويرفع رأسه إلي السماء ليتثاءب فيظهر منه الكسل ، وإذا شبهناه بكلب يحرس البيت ليلا لم نصب أيضاً ، لأن الكلب يغيب أحياناً عن صاحبه فيضطره إلي البحث عنه في أماكن مختلفة ويتعبه ، ولكن الناطور لا يشعر بتعب أبداً ، ولا يرقد على الأرض قليلا ليستريح ،

ولا يغيب عن صاحبه برهة فيتعبه ، بل يقف في الحقل مكباً على عمله ، يحرك مروحته في يده ليطارد اليهور الصغيرة التي تأتي لتلتقط حبوب الزرع الجديدة ، ومع ذلك فإنه لا يأكل ولا ينام حتى إنه لا يجلس لحظة ولا يتخلي عن مكانه خطوة .

وقد عرف الناطور بالطبع أحوال الحقول ومناظرها في الليل حتى المعرفة ، فعرف كيف ينزل الندي من السباء ، وذاق طعمه الذيذ الحلو ، وكيف تغمز النجوم بعيونها  الجميلة ، وكيف يبتسم ابتسامته الفريدة ، وكيف تتزاور  الحشرات ، وكيف تتحاب الفراشات ، وعرف سكون الليل في الحقول ، ونوم الحشائش والاشجار العميق . وقساري القول أنه عرف كل أحوال الحفول في الليل . قدموه يحدثكم عن شئ من حوادث الليل التي رآها .

في ليلة من الليالي التي امتلأت سماؤها بالنجوم المتلألئة  وقف الناطور يحرس الحقول ، ويحرك مروحته في يده حركة خفيفة ، ورأي حبوب الأرز الجديدة فوق سيقانها عندما مرت بها الريح ، فاصطدم أكتاف بعضها بأكتاف بعضها الآخر ، فكان حفيف اصطدامها خفيفا رائعا ، وأرسلت النجوم أضواءها على أعواد الارز ، فكتسبت لوناً من الخضرة قائماً ، جعلها أجمل مما كانت في أول عهدها ، فسر الناطور منها سروراً كبيراً ، وتيقن أن محصول الأرز في هذه السنة سيقنع صاحبته ويشرح صدرها فتبتسم ، لأن عهده بها منذ زمن طويل لا تبتسم ، إذ كانت تلك المرأة عجوزاً  فقيرة مسكينة ، قد توفى زوجها قبل تسع سنوات ، فبكت عليه بكاء شديداً حتى احمرت عيناها ، وما زال الدمع ينزل  منهما أحياناً من غير بكاء ، وحين مات زوجها ثم تكن تملك نقوداً لدفنه ، فاقترضتها من بعض الناس ، ووارثه  التراب ، ثم أجهدت نفسها مع وحيدها في زرع حقلها الصغير ثلاث سنوات ، فكسبت النقود وردتها إلي الدائن . ولم يلبث وحيدها أن مات ، فبكت عليه أجر بكاء وأمره

حتى ألهمى عليها ، مما جعل قلبها يتألم حيناً بعد حين ، فافترضت نقوداً أخري ودفنت ابنها ، ثم بقيت وحدها ، وأجهدت البقية الباقية من قوتها في زرع حقلها الصغير ثلاث سنوات أخري ، فكسبت النقود وردت الدين إلي صاحبه ، وبعد ذلك أصابت حقلها كارثة الفيضان ، فأغرقته سنتين لم تحصد منه شيئا ، فزاد نزول الدمع من عينيها حتى صارت قصيرة النظر ، لا تكاد تري الأشياء إن بعدت قدر خمس خطوات منها ، ورسم الهم على وجهها خطوطاً كثيرة حتى أصبح كأنه اليوسفي الجاف ، لا تعبر الابتسامة قسماته أبداً . وقل هطول المطر في هذا العام ، ونما الزرع نمواً حسناً ، فظن الناطور أن صاحبته ستحصد منه محصولاً وافراً ، لذلك فرح وقال في نفسه : " إذا جاء موسم حصاد الزرع فستجد صاحبتى حبوب الأرز سمينة مشبعة ، وستأخذ ربحها الكبير لنفسها ، وأظنها ستبتسم لذلك ابتسامة عريضة ، أرجو أن أراها حتى أسر يوماً أنا الآخر ، لأنها أجمل عندي من ابتسامات النجوم والقمر ، إذ أبي أحب صاحبتي ! وبينما كان الناطور يفكر في ذلك جاءت حشرة ذات لون أصفر خفيف إلي الحقل ، فلما رآها عرف في الحال أنها عدو الزرع وعدو صاحبته أيضاً ، ومن الواجب طرد مثل هذا العدو اللدود من الحقل ، فحرك المروحة بيده بلا انقطاع ، ولكن حركات المروحة كانت خفيفة ضئيلة لا تستطيع أن تفزع الحشرة وتخرجها من الحقل ، فطارت قليلا بعيدة عنه ، ونزلت إلي عود من أعواد الأرز ، فلما رأي الناطور أنها نزلت إلي عود الأرز حزن حزناً شديداً ، ولكن جسمه كان مثل شجرة غرست في الطين ، لا يمكنه أن يتخطى مكانه بنصف خطوة ، فكيف يذهب إليها ويقتلها ؟ وحرك مروحته باستمرار ، كي يخيفها فيخرجها من الحقل ، ولكن ذلك لم يجده نفعاً .

ووقفت الحشرة على العود لا تتحرك ، وفكر الناطور في مستقبل الزرع ودمع صاحبته ووجهها المتجمد الجاف

وحظها السئ ، فشعر كأن قلبه قد طعن بستان .

وعندما رجمت النجوم إلى يروجها ، وغابت مناظر الليل عن الأنظار طارت الحشرة من الحقل وغادرنه ، ونظر الناطور إلي العود حزيناً مضطرباً ، فرأي أنه قد قطع من وسط ساقه وتدلت أوراقه وجفت ، ولما دقق النظر وجد أن الحشرة قد وضعت بويضاتها خلف الأوراق ، ففزع منها وذعر ، وقال في نفسه : " إن الكوارث ستصيب صاحبتي المسكينة بغير شك ! ولكن عينها ضعيفة النظر لا تستطيع أن تري مثل هذه البويضات بسهولة ، فيجب على أن أحذرها منها لثراها قبل ان تفقس وتصير حشرات فتضر الزرع ، ولتقضي عليها قبل أن يستفحل أمرها . " فزاد تحريك المروحة في يدء ، لأنه لا يقدر على أن يحذر صاحبته إلا بهذا الطريق .

وجاءت العجوز فنزلت إلي حقلها لتطمئن على سلامته ، فوجدت أن الماء يكفيه ، وأن أعواد الأرز التي غرستها بيدها في حالة طيبة ، ومسحت حبوبها فوجدتها كلها سمينة ريانة ، ورأت الناطور وافقاً في الحقل مستقيما ، والقيمة على رأسه والمروحة في يده كما كانا بالأمس لم يجاوزا مكانهما ، ولما رات كل شئ في القفل في حالة طيبة خرجت تريد أن ترجع إلي بيتها لتصلح من شئونها المنزلية .

فلما رأي الناطور أن صاحبته تهم بالرجوع حزن حزناً شديداً ، وأراد أن يبقيها لتتفقد أعواد الأرز بدقة حتى نجد بويضات الحشرة عدوها اللدود فتقضي عليها ، فحرك المروحة في يده بلا انقطاع ، كأنه يقول لها : " بإصاحبتي العزيزة ، لا تظني أن كل شئ في الحفل على ما يرام . كلا ، بل اعلمي أن الكوارث ستصبيك ، لان الحشرة تركت بويضاتها في حقلك ! وإني لخائف من أنها إذا كبرت وانتشرت في الحقل فستضر أعواد الأرز ، وستبكين بسببها بكاء شديداً حتى ينضب دمعك ، سيتألم لذلك قلبك ألما لا يشفي منه ، تفقدي بإ صاحبتي العزيزة أعواد

الأرز واقضي على هذه البويضات ذلك العدو المهلك قبل أن تكبر وتضر حقلك ، وانظرى فإنها تسكن خلف أوراق هذا العود فاقضي عليها ! " وكرر تحريك مروحته ، ولكن العجوز لم تفهم هذا التحذير ، ومشت وليدة خطوة خطوة حتى ذهبت إليها بيتها وغابت عن نظره ، عند ذلك عرف الناطور أن تحريك المروحة لا يفيده شيئا ، فوقف في الحقل حزينا متحيراً.

وبعد بضعة أيام انتشرت الحشرات ذات اللون الأصفر الخفيف في الحقل ، وعندما سكن الليل سمعها تمص عروق الأرز ، ثم رآها تطير أحياناً وترقص فوق الأعواد في طرب ومرح ، وتدلت سنابل الأرز شيئاً فشيئاً ، وتغير لون أوراقه الخضراء إلى لون فيه مظهر الموت ، فلم يطلق الناطور صبراً على رؤية هذه المناظر المفزعة وتلك اللصوص الى ستضيع مجهودات صاحبته فلا تحصد شيئاً في هذه السنة ولا تكسب  إلا الدموع والأهات ، فأطرق برأسه وبكي بكاء مراً -

وكان الجو شديد البرودة ، خصوصاً في الحقول الواسعة ليلاً ، وهبت الريح الباردة على جسم الناطور ، فأخذ يرتعش ولكنه لم يشعر بذلك لأنه كان مشغولا بالبكا ، وفجأة جمع صوت امرأة تقول : " هو ذا انت امها الناطور ! " فانتبه  وشعر بالبرد ، ولكنه رأي أن من واجبه أن يحرس حقلى صاحبته ، فوقف ساكناً لا يتحرك ولم يحاول أن يهرب من البرد ، ونظر إلى المرأة فوجدها صيادة ، وكانت أمام الحقل ترعة حيث رحا زورقها ، وظهر من نافذته ذبالة من نور ضعيف ، وأما المرأة فأعدت شبكتها ورمتها في الترعة ، وجلست على شاطئها ننتظر السمك .

وسمع الناطور صوت سعال طفل بصدر عن الزورق  حيناً بعد حين ، وصوت ندائه أمه ضعيفاً متعباً ، ورأي المرأة ترفع الشبكة مرة بعد مرة ولا تجد فيها سمكة ، ولما سمعت سعال ولدها ونداءه حزنت وقالت له : " ثم هادئاً ! وانتظر حتى أصيد سمكا فأبيعه غداً وأشتري لك بتمنه قطمة

من الخبز تأكلها ، لأنك إذا ناديتنى كثيراً اضطرب قلبي ولم يمكني أن أصيد شيئا "

ولكن الطفل لم يعلق صبراً ، فنادي أمه قائلا : " يا أماه ! إني ظمئت ظمأ شديداً حتى كاد حلقي أن يتشقق ، فاسقيني شاباً ! " وأخذ يسعل بلا انقطاع .

فقالت المرأة : " أين نحن من الشاي في هذا السكان ؟ ثم هادئا يا بني ! " .

وكرر الطفل نداءه قائلا : " أريد أن اشرب الشاي يا أمى ! " وبكي بكاء يقطع نياط القلوب في هذه الحقول الواسعة وهذا الليل الساكن.

وتحرك قلب المرأة عطفاً على ولدها ، فوضعت حبل الشبكة من يدها على الأرض ونزلت إلي الزورق وأخذت صحفة وغرفت بها الماء من الترعة ثم أعطته الطفل ، فشربه بشهية لأن الظمأ أصابه منذ زمن ، ولكنه لما وضع للصحفة عن فيه زاد سعاله حتى لا يسمع إلا تنفساته الخفيفة

ولكن المرأة تركته وذهبت إلي الشاطئ واستمرت في صيد السمك ، وبعد وقت طويل خفت صوت الطفل المريض ، وأما المرأة فأخرجت الشبكة من الماء مرات كثيرة ، فلم تجد إلا سمكة - نتيجة مجهوداتها المتعبة في هذه الليلة ، فأخرجتها من الشبكة بكل عناية ، ووضعتها في طست خشبى أمام الناطور ، وأعادت الشبكة إلي الترعة  مرة ثانية.

فزاد الحزن على قلب الناطور ، إذ أنه رأي الطفل المريض المسكين قد ظعن حتى كاد حلقه أن يتشقق ، فلم يجد حتى ولو قليلا من الشاي ليشربه ، واشتد مرضه في هذا الليل البارد فلم يجد أمه بجواره تنام معه كي يستمد الدفء منها ، ورأي المرأة الصيادة تصيد السمك في هذا الليل الساكن الفارس البرد لتكسب قطعة من النقود تشتري بها كسرة من الخبز ، ولم يمكنها أن ترحم ولدها المريض وتحفظه من البرد ، فتمنى لو استطاع أن بعد الشاي

للطفل ، ولو ذهب إليه ونام بجواره ليستمد منه الدفء ، ولو قطع أعشاب الأرز التي تسكن عليها الحشرات ، تلك اللصوص ليحرقها ويدفيء بها المرأة الصيادة ، ولكن جسمه كان كشجرة غرست في الأرض لا يستطيع أن يتخطى مكانه بخطوة واحدة ، فأخذ يبكى بكاء حزينا مراً .

وخفتت أضواء النجوم شيئا فشيئا ، وملأ الظلام المخيف ما حول الناطور ، ثم رأي فجأة شبحاً يسير بجانب القفل ، فلما دقق النظر وجده يلبس جلباباً قصيراً وقد تشعث شعر رأسه ، فعرف أنه امراة ، ولما رأت الزورق وقفت قليلا ، ثم استأنفت سيرها إلى شاطئ الترعة حتى  وصلت إليه ووقفت هناك لا تتحرك ، فتعجب الناطور منها وأخذ يهتم بشأنها .

ثم سمع أن المرأة تتكلم بصوت خافت بقطعه تنفس حزين يثير القلوب لا يسممه إلا هو ، إذ أنه قد تعود  أن يسمع أصوات الليل الخافتة ، فإذا بها تقول : " لست جاموساً ولا خنزيراً يباع ويشتري ! ولو لم أهرب من البيت لهددنى وبعثنى غداً ثم أخذت ثمنى لتلعب به الميسر وتشرب الخمر ، وماذا يفيدك من ذلك ؟ ... ولا يمكننى أن أتخلص منك إلا بقتل نفسي ، فإذا مت ذهبت إلي الدار الآخر حيث ولدي الميت فأستأنس به ! " وبكت بكاء شديداً .

ولما سمع الناطور كلامها تحير وفزع وقال في نفسه : " هذا حادث مؤلم آخر ، فإنها تريد أن تنتحر ! " وحرك المروحة في يده يريد أن يوقظ المرأة الصيادة لتنقذها ، ولكنها كالميت أخذت تغط في سبات عميق فلم تسمع حركاته أبداً ، وغضب من نفسه لكونه كشجرة غرست  في الأرض لا تستطيع ان تتخطى مكانها نصف خطوة ! وعرف أنه إذا رأي إنساناً يريد أن ينتحر ولم ينفذه كان من الآثمين ، فتألم لذلك ألماً أشد من الموت ! ودعا للمرأة قائلا : " أشرف أبها الفجر مبكراً ! واستيقظوا يأيها الفلاحون من نومكم ! وطيري أيتها الطيور إليهم

لتخبريهم خبر تلك المرأة ، وعيس يا ريح الصباح ويددى  فكرة الانتحار من قلبها : " ولكن الجو كان من حوله ساكناً هادئا يملؤه الظلام المخيف ، ولم يجب احد دعوته ، فخزن وفزع ، ونظر إلي شبح المرأة بكل اهتمام

وسكت المرأة قليلاً ، ثم همت بأن تلقي بنفسها في الترعة ، ولما راي الناطور ذلك حرك مروحته بشدة فوجدها واقفة ساكنة

وبعد وقت طويل رفعت المرأة يديها ، ثم تقهقرت إلي الخلف قليلاً ، وألقت بنفسها في الترعة . ولما رأي الناطور ذلك أغمى عليه فلم يسمع وقوع جسمها في الماء .

وعندما أصبح صباح الغد مر فلاح بشاطئ الترعة فرأي جثة المرأة فيها فذهب إلي قريته يخبر الناس بذلك ، فجاءوا  إلي شاطئ الترعة ، ولما مروا بالصيادة النائمة أيقظتها  خطواتهم ، فنظرت إلي السمكة في الطست فوجدتها ميتة ، فأخذت الطست ونزلت إلى الزورق فرأت وجه ولدها المريض قد زادت مخافته وما زال السعال ينتابه . وجاءت العجوز صاحبة الناطور إلي الشاطئ لتري الحثة ، فلما مرت بحقلها أرادت أن تتفقد الأرز ، فوجدت سنابله التى لم يتم نموها قد وقعت على الأرض ، وأوراقها قد جفت ، ولما رأت أن مجهوداتها قد أكلتها الحشرات وذهبت أدراج الرياح لطمت وجهها وضربت صدرها وبكت بكاء مراً ، وعندما جاء الناس ليسألوها عن سبب بكائها وجدوا الناطور قد سقط على الأرض بجانب الحقل .

اشترك في نشرتنا البريدية