الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 314الرجوع إلى "الثقافة"

من قصص الأطفال الصيفية :، الوردة والحوت الصغير، الكاتب الصينى الكبير " به - شاو - كين "

Share

فتحت الوردة أوراقها فعل المستيقظ من النوم ، ونظرت فرأت رداءها الأحمر القانى وحليها الصفراء البراقة فى صدرها قد كملت وسائل جمالها ؛ ورأت الشمس ترسل من حولها أشعتها الذهبية المدفئة فكشفت عن أفراح السكون ، ورأت فروع الصفصاف تتمايل كتمايل الراقصة الحسناء ، ورأت السحاب سابحا فى السماء كزورق الملك الصغير ، وغنى العندليب طربا لحلول الربيع البهيج ، وضحك البنفسج للنسم حين بداعبه ، وصار كل شئ أمام عينها جميلا محبوبا .

وتذكرت الوردة أحوالها قبل أن تهب من غفونها ، فقد كانت عند فتى غرسها في أصيص أخضر اختصها به ، وجمع لها التراب فقربله ثم وضعه تحتها فى الأصيص ، وسقاها الماء العذب ؛ وفى الصباح العاصف أو فى ليلة الوابل ينقلها من الفناء إلى الحجرة ويحجبها بشاشة بيضاء ، وعندما يصحو ويهفو النسيم وتسطع الشمس يحملها إلى الفناء مرة ثانية لتستنشق الهواء الطلق وتغمرها أشعة الشمس المدفئة . تذكرت الوردة كل ذلك فشكرت صنيع الفتى شكرا جزيلا ، وتغنت قائلة : " إن الفتى يحبنى حبا عظيما ! إن الفتى يحبنى حبا عظيما ! إذ جعلنى أتمتع بجمال الربيع البهيج وأنعم بكل دواعى السرور ، إنه لم يعمل ذلك كله إلا لأنه يحبنى " .

وكان فى الحديقة شجرة توت هرمة سمعت أغنية الوردة فقالت لها : " يا بنيتى ! إنك لا تدركين شيئا من أمر هذه الدنيا ، لذلك لم يكن كلامك مقبولا " ؛ وتجمد وجهها تجمدا كبيرا فارتفع بعضه وانخفض البعض الآخر ، حتى صار غاية فى القبح . ولم يعجب كلامها الوردة فلم تصدقه ، وإنما

أطالت النظر فيها ثم عضت على شفتها السفلى وسكتت .

فأرسلت شجرة التوت صوتها الخشن تقول للوردة : " إنك طفلة صغيرة فلا عتاب عليك إذا لم تصدقى كلامى ، لأنك جاهلة بالحياة لا تدركين سرها ، لكنى قد عرفت أحوالها والكثير من أسرارها ، لذلك لم يكن كلامك محمودا عندى ؛ وسأسرد عليك قصتى كى تصدقينى :

لقد كنت مغروسة فى حديقة لرجل كان يسقينى المياه العذبة كل يوم ، ويطعمنى المواد الطبية خلال الطين المنتقى ، فنموت وترعرت وطالت فروعى وكبرت أرواقى واخضرت وأبتعت ، وكنت أسعد الأشجار فى الحديقة وأرغدها عيشا حتى اعتقدت أننى محبوبة الرجل ؛ ولكن الأمر لم يكن كذلك ! لأن الرجل لم يحبنى أبدا ، وإنما غرسنى وجاهد فى حفظى ليستفيد بأوراقى ويطعمها دود القز . ولما هرمت وشاخت أوراقى وأصبحت خفيفة لا تفيد دوده تركنى ولم يتعهدنى بالرى كما كان يفعل ، يا طفلتى الصغيرة ! اعلمى أنه لا يوجد في الدنيا إحسان لا يرجى رده ، أوحب لا يكون إلا للحب " .

ولم تهتم الوردة بكلام شجرة التوت لأنها تعتقد أن الفتى إنما يكرمها لأنه يحبها ، لذلك ضحكت من كلام الشجر العتيقة وقالت : " يا عمتى العجوز ! إنى مثابرة لكلامك مشفقة عليك ، ولكن حسن حظى جعل فتاى غير الرجل الظالم الذى تركك ، فأجملى عزاء ولا تحزنى " ! ورأت شجرة التوت الهرمة أن الوردة لا تصدق نصحها ، فآثرت الصمت على نصح الغر ، واهتزت هزة الواثق من نتيجة الغرور .

حين ذات الثلج الطافى على . وجه ماء الحوض شعر الحوت الصغير بسعادة كبرى تعدل سعادة إنسان سجن فى ظلام زمنا طويلا ، وإذا بالضوء بقمره ، فسبح إلى وجه الماء ، ومر بالحشائش الخضراء فافترن لونه ولونها ، فأبرز ذلك جماله واضحا ، واخضرت فروع الشجرة التى فوق حوضه

وأتته الريح رخاء مدفئة ، وغردت جيرانه العصافير والبلابل كثيرا ، وصار كل شئ أمام عينيه جميلا محبوبا .

وتذكر الحوت الصغير عندئذ حياته الماضية ، وأنه كان عند فتاة ربته وحرسته من العوادى ، وجعلت مسكنه حوضا صنع من الاحجار الكريمة الخضراء ، وكانت تقطع له الكعك قطعا صغيرة وتطعمه إياها ، بل أمرت خادمها أن يصيد من حشرات الماء وديدانه لتكون طعامه ؛ وكانت إذا اشتدت حرارة الشمس غطت حوضه بحريرة خضراء لدفع حرارتها عنه ، وعند ما تهب ريح الشمال القاسية تحيط الحوض بالحشائش الجافة كي تحميه من بردها القارس ؛ وتعودت الفتاة المكث بجوار الحوض حتى لا يخطفه عقاب او يصيده قط . تذكر الحوت الصغير كل ذلك فشكر صنيع الفتاة شكرا جريلا ، وتغنى قائلا : " إن الفتاة تحبنى حبا عظيما ! إن الفتاة تحبنى حبا عظيما ! لأنها مكتنى من التمتع بالمناظر الجميلة ، وتركتنى أنعم بكل دواعى المرح والسرور ، إنها لم تعمل ذلك كله إلا لأنها تحبنى " .

وكان القرب من الحوت شاة عجوز سمعت أغنيته فضحكت منه وقالت : ( أيها الطفل الصغير ! إنك لا تدرك شيئا من أمور هذا العالم ، لذلك أخذت تهذى بهذا الكلام ! " وكانت الشاة هزيلة الوجه ، ضاحك القسمات لا تراها إلا مبتسمة ، وأما شعرها الابيض فكاد يسود من شدة قدره ، وصار مغلغلا أشعث بدون ترتيب . ولم يكن الحوت قد سمع صوت الشاة من قبل ، فلما ضحكت منه ضاق صدرا ذلك ، وجحظت عيناه ، وتحرك كنا بشدة كأنه يريد أن يظهر غضبه .

وتكلمت الشاة العجوز بصوت جاف محشرج ، وحاولت أن تكسوه رقة فقالت : " إنك يا بنى لا تزال صغيرا فلا عتاب عليك إذا لم تعر كلامى اهتماما ، إنك لم تخير العالم وأحواله ، ولكنى قد عرفت من تلك الأحوال الكثير ، من أجل ذلك كنت هاديا بحق ! وإنى سأقص عليك قصتى حتى تطيعنى في نصيحى : لقد كنت مثلك عند امرأة كانت

تتركنى ألعب فى الفضاء الواسع المغروس بالكلأ الأخضر النضير وأسكنتنى فى غرفة مدفئة نظيفة ، وكنت أشد الحيوان مرحا وأسعده فى المرج ، حتى اعتقدت أنى محبوبة هذه المرأة ، ولكن الحقيقة كانت خلاف ذلك ؛ لأن المرأة لم تحبنى قط ، وإنما ربتنى وجاهدت فى حراستى لتأخذ لبنى وتطميه أطفالها ؛ والأن أصبحت عجوزا وجف لبن ضرعى الذي كانت تطعمه الأطفال ، فتركتنى وأهملتنى وأغفلت حراستي ؛ اعلم يا بنى أن هذا العالم لا يحوى إحسانا لايرجى رده ، ولا حبا لا يكون إلا للحب " .

ولم يفهم الحوت الصغير من حديث الشاة شيئا ، إذا أن عينيه تحركنا فى رجل يشبه الشك ، ولا زال غاضبا لأنه يعتقد أن الفتاة تحبه لنفسه ، فأجاب الشاة بغير رضا : " يا خالتى الشاة ! إن أمرك ليثير الشفقة والرحمة ، ولكن أمور الدنيا ليست سواء حتى يقاس حظك بحظى ، ومن حسن طالعى أن فتاتى هى تلك المرأة التى ظلمتك . فأجملى عزاء ولا تحزنى " ورأت الشاة أن الحوت لا يريد أن يعتبر بنصيحتها ، فآثرت الصمت وزفرت زفرة عميقة كأنها تقول إنها تعرف عاقبة اعتزازه .

أحب الفتى الفتاة حبا عذريا واحتل كل منهما قلب صاحبه ، وصارا يتلاقيان فى أصيل كل يوم بين أدواح الحديقة الباسقة ، وبجلسان على مقعد هنالك بجانب الأزهار والورود العاطرة ، ويتجاذبان حديثا أعذب من أغاريد الطيور ، وقد كسى وجهيهما بهاء يتيه على بهاء البدر ، وإذا انقطعا عن اللقاء شعرا بالكآبة والحزن كأن روحيهما ضاعتا ، لذلك لن يوجد اليوم الذى لا يرى ظلهما فى الحديقة .

وذات صباح دلف الفتى إلى فناء يبته وحك رأسه مفكرا فى فنائه ، إذ رأى أن حبها له بلغ غايته حتى جعله مغتبطا بذلك مسرورا ، ولكنه أراد زيادة ذلك الحب

واستمراره ، وقد كادت أحاديث غرامهما تنتهى ، وأوشكا أن يملأ قبلاتهما العسلية ، ولن يزيد حب الفتاة له إلا هدية قيمة عزيزة لديه ؛ وعندما فكر وجد أن الوردة هى خير هدية يهديها إلى فتاته ، إذ أن لونها القرمزي يكاد يشبه حمرة وجهها الجميل ، وشكلها الخجول يضارع طهارتها العذرية ، واعتقد أن الفتاة لابد مقدرة ذلك بعد أن تعرف مقدار تعبه فى تربية الوردة والمحافظة عليها ، وهى لابد ستسر بها ويزداد حبها له ، فأومأ رأسه مجيبا نفسه مبتسما ، ثم ذهب فى طريقه .

ولما رأت الوردة تفكير الفتى وسروره أومأت هى الأخرى برأسها مبتسمة وولت وجهها شطر شجرة التوت الهرمة مستكبرة ، وقالت لها : " هل رأيت أن الفتى يحبنى وأنه لا يريد شيئا منى غير الحب ؟ "

وعندئذ كانت الفتاة تخرج من حجرتها وهى ترتب شعرها بيدها ثم اعتمدت على حوض الحوت ، فتذكرت فتاها وأن حبه لها بلغ نهايته حتى صارت مغتبطة شديدة الفرح بذلك ، وأرادت أن تزيد من حبه لها ، بعد أن وجدت نجواهما العطرية كادت تفتر ، وأوشك عناقهما الحار أن يكون عاديا ، ولن تستطيع دفع الفتى إلى زيادة حبه إلا إذا أهدت إليه هدية فاخرة ، عزيزة لديها ؛ ولما فكرت وجدت أن الحوت الصغير أصلح شئ وأثمن هدية تهدى إلى الحبيب ، إذ أن خفة الحوت فى حركته وحسن شكله يحاكيان نشاط الفتى وجماله ، وهو لابد مقدر هديتها حين يعرف الجهد الكبير والمشقة الهائلة اللذين تكبدتهما فى تربيته وحمايته . نعم سيقدر ذلك ويعلم أن حبها له عظيم فيغتبط ويزداد سرور وتضاعف محبته لها . ولما فكرت هذا التفكير ابتسمت ووضعت خنصرها بين شفتيها .

ورأى الحوت سرور الفتاة وابتسامها ففرح فرحا شديدا ، وأسرع يسبح في الماء جيئة وذهابا ، ثم رفع رأسه

" إلى الشاة العجوز متكبرا وقال لها : " هل رأيت أن الفتاة تحبنى وأنها لا تطلب منى شيئا غير الحب ؟ "

أمسك الفتى بالمقص وقطع الوردة واخذها إلى الحديقة حين ذهب ليقابل فتاته .

وأتت الفتاة بجام زجاجى ووضعت الحوت فيه وأخذنه إلى الحديقة حين ذهبت للقاء فتاها .

وتقابلا فى الحديقة ، فقدم الفتى الوردة للفتاة وابتسم قائلا : " يا حبيبتى ! إنى أهدى إليك الوردة الفاخرة الجميلة التى بذلت الجهد والمشققة فى تربيتها طول العام ، وإنى أتمنى أن تكونى دائما وأبدأ جميلة مثلها ، فاذكرينى كلما ذكرت هديتى واذكرى قلبى وحبى " . وقدمت الفتاة الجام إلى الفتى وقالت بصوت رقيق : " يا حبيبى ! وإنى أهدى إليك الحوت الصغير اللطيف الذى بذلت الجهد والمشفقة فى تربيته ولم أبرح أحرسه صباح مساء ، وإنى أتمنى أن تكون دائما وأبدا نشيطا مثله ، فاذكرنى كلما ذكرت هديتى واذ كر قلبى وحبى .

تبادل الفتى والفتاة الوردة والحوت الصغير ، وقبل كل منهما هدية صاحبه قائلا : " إن هذه هدية حبيبى ، وإنى حين أقبلها كأنى أقبل حبيبى " . وبعد ذلك زاد حبهما لبعضهما لبعض زيادة كبيرة ، إذ أن حديثهما العادى الذى كانا يتحدثان من قبل يسمعانه اليوم لذيذا عذبا ، وأصبح كل منهما يرى وجه صاحبه جميلا بهيا كأن حبهما لا يزال جديدا ، وطغى حبهما حتى جعلهما قلبا واحدا فى جسمين .

لم تكن الوردة تظن أن يد الفتى ستناولها بالقطع فجأة ، وآلمها وجعلها تفقد شعورها فى الحال ، فلما عاد إليها رشدها وجدت نفسها فى يد الفتاة وكادت تبكى ، ولكن أبى لها البكاء وجسمها أصبح جافا ولم تعرف متى نضبت دموعها . ولما عادت الفتاة إلى بينها وضعت الوردة فى وعاء الزهور

الأحمر ، وحزنت الوردة واكتأبت وكانت لا تعرف لهم معنى ؛ وها هى قد فارقت اصيصها فألم بها الكدر وأحاطها الندم على خطئها فى محبة الفتى ، فخفضت من رأسها حزينة كئيبة ، ولم تلبث أن ماتت قبل أن يرخي الليل سدوله . فقالت الفتاة : " لقد ذبلت الوردة ، وإنى كره بقاءها عندي بهذا الشكل ، فيجب أن أرميها ، وغدا يهدى إلى الفتى أجمل الزهور " . فرمت جثة الوردة فى صندوق القمامة .

ولم يكن الحوت يتوقع أن يصيبه ذلك القلق والاضطراب حين خرج من حوضه الأخضر الجميل ، ووضع مع الماء فى هذا الجام الصغير ، وشعر بضغط الهواء وضيق التنفس فأغمى عليه ؛ وعند ما أفاق وجد الجام الذى وضع فيه أمام فم الفتى فأراد أن يسبح ، ولكن ذيله التصق بجدار الجام ولزم بطنه قاعه ولم يستطع أن يتحرك ، فرفع رأسه زافرا وحينما رجع الفتى إلى منزله وضع الجام على مكتبه ، وكان الحوت قائما متمتعا بالحرية ، أما الآن فلم يستطع ان يتحمل

ضيق سكنه الحديد ، فندم على خطئه فى حب الفتاة ، وجحظت عيناه وبرزنا من محجريهما ، وأصابه الهرم والحزن ولم يلبث أن مات قبل أن يرخى الليل ستاره ، فقال الفتى مات الحوت ، وإنى لا أحب بقاءه عندى ميتا فيحب أن أرميه ، وغدا بعد الظهر تهدى إلى الفتاة أحسن الهدايا " . فرمى جثته في صندوق القمامة بجنب جثة الوردة .

وبعد بضعة أيام انتفخت جثتا الوردة والحوت وانتشرت رائحتهما كريهة منتنة ، وذلك عاقبة كل وردة وحوت لا يهتم بهما إنسان ، حتى هذا الفتى وتلك الفتاة ، لأن عندهما فى كل يوم هدايا جديدة يوطدان بها حبهما .

أما الشجرة الهرمة فأرسلت صوتها الخشن أمام الريح بجانب جثة الوردة وبكت بكاء شديدا ، واما الشاة العجوز فرفعت رأسها الهزيل إلى السماء بجانب جثة الحوت وثنت ثناء طويلا .

اشترك في نشرتنا البريدية