جاء الربيع ، فلاح على فروع أشجار الصفصاف الدقيقة لون اصفر خفيف ، ولكنا إذا دققنا النظر وجدنا شيئا من الأخضرار مع هذا اللون الاصفر ، وما أشد لين خصور هذه الفروع ! إذ أن الريح الخفيفة حين هبت ، حملت أطرافها ورفعتها رفعا منظما جميلا ، ثم لم تلبث أن تهدأت معا شيئا فشيئا كأنها شعر رأس فتاة حسناء ممشوط منظم .
وكان بين صفى أشجار الصفصاف ترعة ، لا نعرف من ملأها بالماء الأخضر النقى ، حتى كاد يفيض من جانبيها ، وما أجمل أمواجه الدقيقة الرقيقة التى كانها طبعت على وجهة فلا نكاد نحس أن موجة تدفع الأخرى إلى الإمام ، فظهرت صورة الصفصاف فى الماء واضحة جلية ، وعلى جانبى الترعة نبتت الحشائش الخضراء الكثيفة ، فأتخذتها الأسماك الصغيرة بيوتا لها ، وانتشرت روائح التراب والماء فإذا شممتها عرفت انأنهاها من روائح الربيع ، وأرسلت الشمس أشعتها فوق الترعة وشاطئيها ، فأوحت إلى كل موجة وكل حصاة المرح والسرور .
وبجانب شاطىء الترعة وتحت فروع الصفصاف طريق مرصوفة ، تسير عليها عربات جميلة فاخرة : فمنها عربات تجرها الخيول ، عجلائها تدور على الأرض خفيفة لا نسمع لها صوتا ، وأسلاك عجلاتها النحاسية تومض ببريق يخطف النظر ، وقد طلى ظاهرها بالقار الأسود اللامع كلمعان المرآة ، وزجاج نوافذها نظيف شفاف ؛ ومنها عربات يجرها الناس ، تسير فى الأرض سريعة كعربات الخيول ،
ذات وسائد بيضاء وبسط مزر كشة وبوق صغير ، جمعت كلها بين الجمال والظرف . ومنها عربات يحركها الآلات البخارية ، ذات اجسام كبيرة كالسباع الهائلة ، قد فتحت عيونها المستديرة ، وهى تأتيك كالطيور سريعة عجلة ، وتمر أمامك كالبرق ، ثم تطير وتبتعد حتي تتضاءل وتختفى عن نظرك ، ولكن صياحها المزعج لا يزال يصل إلى سمعك من بعيد .
وفى تلك العربات يجلس الناس الذين امتلأت قلوبهم بالفرح والسرور ، فمنهم رجال سمان ، ونساء عجائز ، وفتيات حسان ، وأطفال ظرفاء ، ويمد هؤلاء الناس وجوههم الباسمة إلى خارج العربات ، ويرسلون أشعة السرور من عيونهم إلى خضرة الصفصاف أو إلى مياه الترعة الرقراقة ، وأحيانا يرفعون أنوفهم ليتفسوا هواء الربيع الطلق ، ويشموا عرف الأزاهير الذكى ، وعند ذلك تظهر آثار الارتياح على وجوههم ، فيتحرك اللحم فى خدود الرجال السمان ويسترسل ، وتطبق العجائز أجفانهن المتجمدة ويفتحن أفواههن الجافة الخالية من الأسنان فتحا كبيرا ، وتحرك الفتيات الحسان مناديلهن بنظام ويغنين غناء رائعا ، ويرقص الأطفال الظرفاء طربا ويبسطون أيديهم يريدون أن ينزلوا من العربات ؛ ويضحكون ضحكا شديدا . وقد سال العرق من أجسام الخيول كالينابيع ، وتنفس الناس الذين يجرون العربات تنفسا مؤلما ، وتعبت الآلات البخارية فى العربات تعبا كثيرا ، وخرجت منها أصوات خشنة ، ولكن الجالسين فى العربات لايهتمون لشىء من ذلك ، وإنما شغلتهم المناظر الجميلة ، وأعماهم عن كل ذلك الضحك الشديد
وإلي أين يذهب هؤلاء المترفون ؟ إن فى جانب منحنى الترعة حديقة ، تستيقظ من سباتها حين يقبل الربيع ويظهر شكلها الجميل البديع رائعا من جديد ، وتنشر روائحها الحادثة الطيبة فى كل أرجائها ، وتنبعث الطيور
مغردة على أشجارها بأعذب الألحان العطرية ، وتصبح الحديقة كمصرف للفرح والسرور فتجذبهم إليها ، مع أن الفرح والسرور يملآن قلوبهم ، لكنهم يذهبون إليها يسيل ماء النهر إلى ماء البحر العريض .
منذ ثلاثة أيام وقف الصبى " تشان" فى خارج الحديقة ، وكان قد جمع حديث جيرانه عن هذه الحديقة ، وإطراءهم لجمالها الذى ضاهى جمال الفردوس ، وأحب أن يجول فيها ، وأراد أن يخبر أباه بذلك ، ولكنه لم يستطع أن يقابل أباه ، لأنه حين استيقظ صباحا من النوم وجد أباه لم يزل نائما ، فخرج ولعب مع أولاد الجيران زمنا ، ثم رجع فوجد أباه قد خرج من البيت . وانتظره حتى منتصف الليل فلم يرجع فنام ، فأخبر أمه بذلك ، وكانت تغسل الثياب للناس بالكراء لتتمكن من العيش ، فتظل طول اليوم مع الماء ، وجسمها مبتل ، وأما يداها فتورمتا لعملها المستمر ولما سمعت كلام ولدها غضبت قائلة : " أنت تجول فى الحديقة ! وهل يليق مثلك لان يجول فى الحديقة ؟ ! " ثم استمرت فى غسل الملابس ، ورشاش الماء يطير حول جسمها
فلم يجرؤ " تشان" ، على أن يتكلم فى هذا الموضوع أمام امه مرة ثانية ، ولكنه لم يفهم كلامها ، وقال فى نفسه : " لماذا لا أليق لأن أتجول فى الحديقة ؟ ومن يليق لأن يتجول فيها إذا ؟ " وما زال شاكا فى كلام أمه .
وكانت الحديقة الجميلة تجذب قلب " تشان " الصغير بسحرها ، فذهب إليها ، وهو لا يكاد يشعر ، ووقف خارج بابها الكبير ، وكان مفتوحا على مصراعيه ، فرأى داخلها أشجارا خضراء كثيفة كثيرة ، فحدثته نفسه قائلة : "ليس بينك وبين هذه الاشجار حواجز ، وليس بجوارها إنسان ولا قبر إنسان ، فلم لا تدخل الحديقة وتجول فيها ؟ " فكان جوابه أن اندفع داخلا .
ولكنه لم يكد يجتاز الباب حتى شعر بأن شيئا ثقيلا شديدا أمسك بساعده الايمن ، وأراد ان يتخلص منه فلم يتمكن من ذلك ، ودار راسه حسين جمع صوتا يقول : " مع من ؟ " فرأى رجلا طويل القامة ذا صورة مروعة ، وجلد وجهه غليظ كقشر اليوسفى ، وانفه كشممة حمراء وعينه واسعة مخيفة ترسل أشعتها إلى جسمه الصغير ، ويده كبيرة قد أمسكت بساعده الأيمن بشدة ، كما لو ربط بحبل غليظ مما تركه يشعر بألم شديد .
فتحيير من شدة الخوف حتى إنه لم يستطع أن يتكلم كلمة واحدة ، وقد جحظت عيناه ، وهز الرجل كتفه قائلا : " إني أسألك : مع من؟ " فأجاب " تشان بعد جهد قائلا : " معى أنا ... " فضحك الرجل لهذه الكلمة ضحكا زاد وجهه المخيف قبحا وقال ل" تشان : " إذا جئت وحدك هنا يجب عليك أن تبتاع تذكرة لتدخل ! " .
فقال " تشان " : " لا أريد أن أبتاع تذكرة ، وإنما أريد أن أجول فى الحديقة " . وأراد أن يهرب من يد الرجل ، فغضب الرجل وزادت أشعة عينيه التهابا واتسمت حمرة أنفه وصاح قائلا : " أيها الأحمق ! تريد أن تجول فى الحديقة مجانا ! ابتعد من هنا ولا تكذب ! " ودفع تشان إلى الأمام دفعة شديدة ، فتقهقر علي عقبه خطوات ، وترنح جسمه يمنة ويسرة ثم هوى على الأرض باسطا يديه ، فضحك سائقو العربات الواقفون بجوار باب الحديقة ضحك السكاري .
ولما سمع تشان الضحكات وشعر بالناس وبالعربات الكثيرة أمام الباب خجل وقام من سقطته ببطء ، وتكلف الابتسام كأن لم يحدث شئ ، ولكنه تألم من عيونهم التى ترسل أشعتها إليه ساخرة ، ثم لم يلبث اهتمامهم أن تحول عنه ، فتسلل من مكانه هاربا إلى منزله . ولما وصل إلى المنزل وجد امه ما زالت تغسل الثياب ، فلم نسأله عن شىء ، ولم يخبرها بكلمة واحدة .
وكانت الحديقة الجميلة التى ضارعت الفردوس تجذب قلب " تشان " الصغير فجعلته لا يستطيع أن يبقى فى المنزل زمنا طويلا ، فخرج وذهب إليها ، وهو لا يكاد يشعر ، كانها سحر يسحره ، ولكنه لم يدخلها سريعا فى هذه المرة ، لانه رأى الرجل الطويل يجلس فى حجرة بجانب باب الحديقة ، وإنما أخذ يذرع الطريق أمام الباب جيئة وذهابا مخفيا نفسه عن أنظار الناس ، فهو أحيانا يختبىء وراء سيارة ، وأحيانا يجلس على كرس صغير فى مؤخرة عربات الخيل ، واحيانا يشجع نفسه ويمشى بجوار الباب ، وهكذا قضى نهاره جائزا خارج الحديقة . ولما ذهبت العربات كلها وأرخى الليل ستاره فحجب الحديقة ، وظهر من حجرة الرجل الطويل نور ضعيف ، رجع إلى منزله . ولما أصبح صباح الغد ذهب إلى الحديقة وأخذ بذرع الطريق جيئة وذهابا أمام الباب كما فعل بالأمس .
وبينها هو يمشى أمام الحديقة جاءت إليها عمرية من ذوات الخيل ، ووقفت أمام بابها ، ثم نزل سائق وفتح باب العربة فنزل منها سيد وسيدة ومعهما طفلان ، ونظر تشان إلى الطفلين ولم يهتم بغيرهما ، وحينئذ حدثته نفسه قائلة : " انظر إلى هذين الطفلين ، إنهما يلبسان الأردية الجميلة اللامعة ، والجوارب الطويلة ، والاحذية التى كلما وقعت على الأرض أحدثت صوتا ، ما أشد حمرة وجهيهما والتمساح شعور رأسيهما ! انظر ! إنهما دخلا الحديقة فى فرح ومرح ولا أحد يعترضهما ! فأين الرجل الطويل إذا ؟ لماذا لم يخرج من حجرته ويمسك بساعديهما ويرميهما إلى خارج الحديقة ؟ وانظر . إنهما سار بجوار الأشجار الخضراء الكثيفة الكثيرة وذهبا إلى داخل الحديقة ! . .، عجبا ! كان تشان تبع الطفلين ودخل معهما الحديقة ، ما أشد فرحه ! فقد كان يتمنى أن يجول فى الحديقة منذ زمن بعيد ، والآن قد دخلها وجال فيها وسار بجوار أشجارها .
إن أشجار الحديقة كثيرة بعيدة ، كأنها لانهاية لها ، كبيرة طويلة كأنها أعمدة لتحمل السماء ، وسكن عليها السنجاب يلعب وبرقص بين فروعها ، والقردة ذات الوجوه الحمراء تجلس عليها أو تتعلق بها . ولما رأى تشان فواكهها الجميلة المختلفة الألوان قال فى نفسه : " عجبا لى ! كيف توجد هنا الفواكه الحمراء والصفراء والبنفسجية التى كانت فى الدكاكين ؟ " وفكر قليلا ثم قال : " ربما كان أصحاب الدكا كين يأتون هنا ويقطفونها فيبيعونها فى السوق ، ولماذا لا أقطف منها وأكل ؟ " ولما رفع بدء وهم أن يقطف الفواكه جاءت عربية يجرها آدمى ومرت بجواره وصدمته ، فانتبه لنفسه ورأى أنه لم يزل واقفا خارج الحديقة ولم يدخلها .
وظل تشان واجما خارج الحديقة ، ينظر حوله فلا يرى شيئا مما تخيله . ومرت أمامه عربة أخرى وصدمته ، فمال إلى اليمين وزحزح جسمه عن مكانه قليلا ، وفجأة أخرج من الحديقة شئ جميل يخطف بصره ، ومر به فرآه بدقة وإذا به حزمة من الزهور الحمراء النضيرة ، تهتز وربقائها على ذراع حاملها ، واخترقت خياشيمه رائحتها الطيبة التى يعجز عن تصور ذكائها الوصف . ولما بعدت عنه واختفت عن نظره قال فى نفسه : " إن هذه الزهور خير الأشياء فى الحديقة ، آه لو أخذت منها قليلا ، يا للخسارة ! لقد مرت أمامى ولم آخذ منها شيئا ، لا بأس على ، لأن الزهور فى الحديقة كثيرة جدا ، فسأقطف حزمة منها وأضعها بجانب سرير أمى ، وحزمة أضمها على قلنسوتى حينما ألبسها وأمثل بطلا صغيرا فى مسرح الأولاد ، وحزمة أخرى أزرعها أمام منزلى وأتركها تتفتح إلى الأبد . . " عجيب ! كأنه الآن فى الحديقة بجوار غاية من الزهور .
وتكومت الزهور الحمراء أكواما كبيرة مرتفعة كالحببال ، وصار لا يرى إلا لونها الاحمر ، ووجدها تبتسم
له ابتساما خفيفا ، والماء يتساقط من وجوهها الباسمة طيبا حلوا يسيل على الأرض ، فلا يلبث أن يتجمد ويصير قطعا من الحلوى ، فأحس تشان بحلاوة ولذة فى فمه ، وأراد أن يلتقطها ليأكلها ولكنه لما تناولها بيده وجد أنها فوا كله حمراء وليست حلوى ، فملأ بها جيبه ، ثم ارأراد أن يقطف الزهور ، فرأى زهرة تفتح نصفها تليق أن توضع بجانب سرير أمه ، وزهرة صفيرة تليق أن توضع على قلنسوته ، وزهرة كبيرة تليق أن يزرعها أمام منزله ولما رفع يده ليقطف الزهور أيقظه صباح سيارة ، فرأى أنه لم يزل واقفا خارج الحديقة ولم يدخلها .
واحسرتاه أين قطع الحلوى ؟ وأين الفواكه الحمراء ؟ لم يبق إلا طعمها اللذيذ فى فمه ، ونظر إلى داخل الحديقة فلم ير شيئا إلا الأشجار الخضراء الكثيفة الكثيرة ، ولكنه سمع أصوات الموسيقى يخرج من بينها ، فقال : " هذا صوت الطبل ضخم رائع ، وهذا صوت البوق قد استطال كصوت الجاموس ، وذاك صوت المزمار الطويل كبير رفيع كأنه يقود الأصوات الأخرى ، وصوت ضرب الفولاذ والحديد أجمل من صوت الحديد الذى يضربه الحداد ، وربما تكون هذه الأصوات من عزف فرقة موسيقية للجوالين فى داخل الحديقة ، أظن أن وجه عازف البوق يتنفخ جدا كقربة الماء وعازف المزمار . ." عجيب ذلك ! كأنه بجانب كشك الموسيقى فى الحديقة معتمدا على الحاجز الحديدى يسمع أنغامها الجميلة فى طرب وفرح
فهؤلاء عازفو الموسيقى يرتدون ملابس زرقاء قد وشيت بخيوط ذهبية ملونة فى صدورهم وأ كنافهم . والتمعت آلات الموسيقى وعكس بريقها على وجوههم وأجسامهم ، يعزفون ألحانا مختلفة جميلة لذيذة ، بل إن تشان قد عرف بعضها ، فغنى مع الفرقة ، وكأن الموسيقى تتبع غناءه ، وها هو يقود الفرقة الموسيقية ، وكأنهم
يسيرون بين أرجاء الحديقة ، وهو يوجه إليهم نداءه : " سيروا إلى الأمام ! سيروا إلى الإمام ! " وهم أن يرفع بدء ليقود الغرفة إلى جهة ، فصادف خروج طفلين من الحديقة ، فدفعاه دفعة جعلته يدور على نفسه ، فأفاق من غفوته ، ورأى أنه لم يزل وافقا خارج الحديقة ولم يدخلها.
ولما رأيىالطفلين عرف أنهما اللذان دخلا الحديقة من قبل ، وقد جالا فيها وأخذا فى ايديهما كثيرا من الحلوى والفواكه ، وصدما تشان ولم يهتما له ، وسارا يتبعان أبويهما ، وركبا معهما عربة الخيل يفتخران بسعادتهما وسرورهما ، وانصرفت العربة بعيدة عن الحديقة .
وتبع تشان العربة بنظره حزينا ، وهى تبتعد ، ثم تخيل داخل الحديقة كأنه قد جال فيها ، وإن كان لم يعلم ما فيها ، ما دام بينه وبينهما جدار ، مع أن بابها الكبير مفتوح على مصراعيه !

