ملخص لما سبق : [كان امرؤ القيس بن الملك حجر الكندى ملك بنى أسد ، فتى شاعراً وثاب العواطف ؛ وكان يحب فاطمة الجميلة ، وهى فتاة من بنى عمومته ؛ وكان يخلص لها الحب ؛ ولكنه كان مع ذلك يميل إلى مداعبة سواها من النساء ... وحدث يوماً أنه كان يحادث بعض الفتيات عند دارة جلجل وهي فيهن وهو لا يعرف ، فغضبت منه وأخبرت أباها ، فنزح من جوار ابن عمه الملك حجر... وشق بعدها على امرىء القيس ، فمرض وكاد يهلك ؛ ولما شفى من مرضه تغيرت طابعه ، وانحدر إلى هوة بعيدة من الفساد والمجون ، والاغراق فى شرب الخمر ، ومصاحبة الغواة ؛ فسمع أبوه بذلك وتجسس عليه بنفسه حتى عرف مبلغ ما نزل إليه من الغواية ، فأمر بقتله وحمل عينيه إليه ... ... ...]
ذهب ربيعة إلى حجر يحمل إليه عينين فى طبق صغير وهو ظاهر الاضطراب ، فنظر حجر إلى العينين نظرة عجلى ، ثم أطرق ؛ وبدا عليه ما ينم عن صراع بين كبريائه وعاطفته . وأدرك ربيعة أن الرجل قد ندم على أمره بقتل ولده ونزع عينيه ؛ وحمد إلهه ( الأقيصر ) على أن ألهمه ألا يقتل الفتى ، وأوقع الرحمة فى قلبه فأخفاه فى بيت فى واد بعيد ، بعد أن جعل فى يديه ورجليه الأصفاد والقيود ، وأقام حوله من بنيه وبنى إخوته حراساً يحرسونه حتى لا يهرب ، أو يعرف بعض أصحابه مكانه
فيحملوه ويهربوا به . ولما رأى ربيعة أثر الرقة فى وجه مليكه تجرأ وقال له : ((أبيت اللعن ، هل بك وجد على من قتل الأمير ؟))
فلم ينظر إليه حجر ، بل أخذ الطبق وجعل ينظر إلى العينين اللتين وضعتا فيه ، وتنفس نفساً عميقاً ، وجالت فى عينيه دمعة حاول أن يخفيها عن جليسه .
فتأكد ربيعة أن الرجل قد ندم على أمره ، وأنه موشك أن يوقع به على التسرع فى قتل ولده ، فقال مبادراً : (( أو يسرك أنى لم أكن قتلته ؟ ))
فرفع حجر رأسه محنقا ، وكاد يرميه بكلمة غاضبة ، ولا أن رآه يسم وهو ناظر إليه ، فتردد وداخله الشك في أمره وقال بعد لحظة وفي صوته تلهف : (( أو لم تفعل بعد يا ربيعة ؟ ))
فقال ربيعة متظاهرا بالاعتذار : ((عفوك يا سيدي ، فان أمر الغاضب فيه قسوة ، وقد علمت أنك قد تعود إلى نفسك فتعذلها حيث لا ينفع الندم ، ولهذا آثرت أن أجرؤ على عصيانك ، والأمر بعد في متناول بدك ، فالفتى في قيوده ، عند وادى (( المقراة )) وحوله حرس لا يفلت منهم حيا)).
فأطرق الرجل ، وقد بدا عليه الارتياح ، وتنفس كمن انزاح عن كاهله عبء ثقيل ، ثم رفع رأسه بعد حين وقال : (( أحسنت يا ربيعة ، فديتك بالا كرمين!))
ثم قام ووضع يده على كتفه ، مظهرا له شكره ، وقال له : (( ولكن بقاءه بين ظهرانينا بعد اليوم مفسدة لأمورنا )) .
فأسرع ربيعة مجيبا : (( له في بلاد أعمامه مندوحة )). فكان هذا القول فتح لحجر بابا مغلقا ، فالتفت مسرعا إلي تابعه الأمين وقال له : (( جهزه اليوم ، فلا أرينه مقيما في بني أسد بعد هذا )) .
وانصرف ربيعة مسرعا لينفذ امر مولاه ، فما جاء للليل حتى كانت الإبل التي محمل امرا القيس مع صحبه تضرب في كبد الصحراء ، ميممة شطر المشرق إلي بلاد عمه الملك سلمة بن الحارث ، الذي كان يحكم قبائل قيس عيلان بن مضر.
كانت شواغل حجر لا تترك له فراغا للتفكير في أمر ولده ، وكانت الحوادث تتوالى سرعا ، لا يخلو يوم بغير حدث جليل منها ؛ فكان كل همه أن يحتال في تصريف ما يعرض من أموره ، وتلافي ما يتوقع من مخاوفه ؛ فمضى
عليه بعد سفر امرئ ، القيس أعوام وهو لا يكاد يجد فراغا من وقته لتذكر ابنه النازح ، أو لمعرفة أخباره . ولم تكن لابنه أخبار مما يجرؤ احد ان يحملها إليه . فقد ترددت أنباء سيرته في أركان بلاد العرب أنه أمير خليع ، لا يبقى طويلا في منزل ، ولا يستقر في جوار أهل . كلما حل في قوم من قرابته أحدث فيهم حدثا ، فبرموا به وبرم بهم ؛ فلم يبق معهم ، وانصرف عنهم يلتمس إشباع نفسه ورى قلبه المتأجج ، حتى صار خليل ذؤبان العرب وصفى صعاليكهم ، يتنقلون بين العيون والرياض لا يأكلون إلا من الصيد ، ولا يقضون دهرهم إلا في القصف وشرب الخمر ، ولا يتسلون إلا بمصاحبة القيان في مجالس صاخبة ، طربها من غناء المزاهر ، وسمرها من نشيد أشعار امرئ القيس . تلك الأخبار لم تكن تبلغ حجرا ، بل كانت تقف عند بابه يتناولها أعداؤه فيتخذونها وسيلة للحط من شأنه والتحريض عليه وهو جاهل بها مشغول عنها .
وكان الاضطراب يشمل أنحاء نجد وأكناف العراق لا يخلو فيها يوم من حدث جديد .
مات العاهل العظيم قباذ ، واهتزت فارس لموته هزة عنيفة انتقلت إلى كل ما يليها من صحارى بلاد العرب ؛ فقد كان قباذ ملكا ثائرا جريئا قلب العادات ، وعصف بالعقائد الموروثة ، وأعلى سفلة من قومه وأذل علية . وكان من آثار جرأته أن نقل زعامة العرب من البيت القديم الذي عاشر بيت أجداده أبا بعد جد ، وكان ساعدهم الأيمن في الدفاع عن حدود فارس من غارات قبائل العرب ، ذلك البيت الذي لا يخلو قصة عربية من ترديد أسماء ملوكه وأمرائه ، بيت بني نصر اللخمي ، بيت النعمان والمنذر الذي انعقد له لواء القبائل من فخطان اليمنيين ، ودانت له الرؤوس من النجديين أبناء نزار - قبائل مضر وربيعة وإياد وأنمار : نقل قباذ الزعامة من ذلك البيت العريق ، فطرد
الملك الكبير المنذر بن ماء السماء من مقر دولته بالحيرة وجعل في مكانه سليل بيت آخر ، بيت ! آكل المرار الكندي اليمنى ، فاختار الأمير الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار ملك نجد ، وعقد عليه تاج الحيرة .
وامتد سلطان الحارث الكندي فشمل حدود العراق وبلاد نجد تجد جميعا ، ووزع أبناءه على قبائل نزار ، فكان نصيب ابنه حجر بن الحارث حكم قبائل بني أسد ، وقبائل غطفان ، وكان نصيب أبنائه الآخرين حكم ما بقى من قبائل كنانة وربيعة وأنمار وإياد.
فلما مات قباذ ، هد بموته الركن القوى الذي كان دعامة ملك الحارث وبنيه ، واخذت الثورة الكامنة في قلوب منافسى بيت كندة تسرى وتضطرم في الخفاء ، يندلع منها بين حين وآخر لسان من اللهيب ينذر دولة الحارث الكندي بالزوال .
وتولى ملك فارس بعد قباذ الملك العظيم خسر و الأول ، كسري(أنو شروان )، وكان أول همه بعد توليه ملك آبائه أن يعيد إلي دولته ما اختل من نظامها ، وان يرد أمورها إلى ما كانت عليه قبل أيام أبيه ؛ وكان (أنوشروان ) داهية لا يجاري في دهائه ، وشديدا لا يباري في نضاله . فدس الدسائس ، وجرد الكتائب ، وبعث الرسل ، ومنى وأهدي ، وتلطف وتوعد ، وأوقع وقتك ، فإذا الدولة العظيمة تهتز كما يهتر البناء الشامخ في الزلزال الهائل ؛ وإذا بالحارث بن عمرو الكندي يحس بعرشه يرتج من تحته رجة تنذر بأنه مندك بعد قليل.
وكانت الأخبار المزعجة ترد إلي حجر بن الحارث وهو مقيم في غربى أرض نجديين بنى أسد ، تنبئه بحرج موقف أبيه وما يحيط به من المتاعب ، وتحمل إليه أنباء الثورات التي اندلعت في القبائل التي يحكمها إخوته في الأركان الأخرى من وديان نجد وفيافي اليمامة .
وحشد أبناء الحارث كل ما استطاعوا حشده من قبائل العرب لنصرة أبيهم الملك العظيم الذي يستظلون فى الحكم بجاههه ، وبذل حجر في نصرة أبيه كل ما في يده من أموال وقوة ، لأنه شعر كما شعر إخوته أن زوال ملك أبيهم عن الحيرة يقوض أركان ملكهم المزعزع الذي لم يكن له دعامة غير القوة والرعية والجبروت .
بعد هذه الأعوام كان حجر يجلس يوما في خيمة فسيحة في أقصى أرض من بلاده ، وقد ذهب إليها ليشرف على جمع الأموال من قبائل بنى أسد ، فإن السنين الغابرة علمته أن تلك القبائل تقاوم جباته وتعصى أوامره ، وتمانع في دفع الأموال إلي أتباعه وعماله ؛ فكان لما أراد جباية المال من قبيلة ذهب إليها بنفسه ، لسكر يشعرها بقوة جنوده ورهبة سلطانه ، فتبذل كارهة ما لا يستطاع اخذه منها عن رضى .
ودخل عليه ربيعة بن عمرو صاحب سره وهو جاهم الوجه متردد الخطى . فرفع حجر بصره إليه وأدرك من منظر ، أنه قادم إليه بخبر مشئوم . فقد كان ربيعة وحده يجرؤ أن يحمل إليه الأنباء الصادقة . فقال حجر بعد أن أجلسه إلى جواره :(( لعل هؤلاء ، القوم قد صنعوا ما صنع سواهم من الوثوب والعصيان . لا يحزنك ذلك فانا نقدر أن ننزع منهم بالقسر ما لا يرضون ببذله طائعين))
فرفع ربيعة رأسه ببطء وقال بصوت ضعيف : (( ليس ذلك ما جئت له ))
فصمت حجر لحظة وقد أدرك أن في الأمر خطورة غير ما حسب ، ثم قال متكلفا الهدوء :(( فهل من جديد ؟ ))
فهز الرجل رأسه مترددا ثم قال : (( الحارث بن عمرو ، أبوك الملك الحارث ))
فوثب حجر من مجلسه وقال في ذعر (( هل قتل ؟ )) فأسرع ربيعة مجيبا : (( لا . لم يقتل ، ولكنه هزم وأخرج من الحيرة )) .
فتنفس حجر وعاد إلي مجلسه مضطربا وقال : (( هل جاء بذلك رسول ؟ )).
فقال ربيعة : ((لا . ولكني سمعت ذلك من صديق كان في الحيرة منذ حين . وقد حمل النبأ إلى هنا إذ عرف أننا بعيدون عن منازلنا )).
فقال حجر متلهفا :(( وهل سمع الناس النبأ ؟ )) .
قال ربيعة : (( لا . فإن عيوننا المنبثين بين القبائل لم يحملوا إلي أن أحدا يتحدث بهذا الخبر )) .
فسكت حجر لحظة أخرى كأنه قد سرى عنه ثم قال : (( لابد لنا من العودة إذا )).
فهز ربيعة رأسه مصدقا وقال : (( إذا شئت فاليوم ، لأننى لا آمن بنى أسد وفيهم ذلك الثعبان الأسود عبد ابن الأبرص )) .
قصر حجر بأسنانه غيظا ، وقال : (( فاليوم نرحل عائدين )) .
وخرج ربيعة ليأمر بالاستعداد للسفر ، وليحاول الjماس الأسباب التي يذيعها بين الناس تبريرا لذلك الرحيل السريع .
وبعد يومين من سير مجهد كادت الإبل تنقطع فيه بلغ حجر منازله في ديار بنى أسد .
كانت عودة حجر في جنود ، وأعوانه غير منتظرة ، فقد كان بنو أسد يظنون أنه يقضي زمنا طويلا في جبابة الأموال من عطفان ومن بطون بنى أسد البعيدة عند حدود تهامة ، وكانوا فوق ذلك يتوقعون أن يجد هناك من المقاومة والعصيان مثل ما كان يجد في تلك الأعوام في كل أنحاء ملكه . فلما عاد حجر إليهم سريعا أخذتهم عودته على غرة لأنهم كانوا يعدون العدة لثورة عامة يزيلون بها عن كاهلهم ظل ذلك الرجل العنيف الذي ثقلت وطأته عليهم.
كان شيوخ بنى أسد عند ذلك مجتمعين في ناديهم
في ليلة مظلمة من ليالى الصيف الحارة ، وقد أوقفوا من حولهم حراسا خوف أن يندس بينهم أحد من أتباع حجر وجعلوا يتشاورون فيما هم فاعلون للوثوب والثورة قبل أن يعود إليهم في جيشه الفاتك . وكان معهم رجلان غريبان جاءا إليهم منذ يوم من الحيرة بحملان إليهم أنباء حوادثها الخطيرة ، ونزلا ضيفين على رئيسهم عمرو بن مسعود .
وفيما هم جلوس يتشاورون في امرهم اقبل عليهم رجل مسرعا فمنعه الحراس وجعلوا بشاحنوه حتى علت أصواتهم ، فقام عمرو بن مسعود ليعرف سر الضجة ، وبقى لحظة ثم عاد إلى أٌصحابه وهو صامت مهموم ، فجلس مليا في صمت وعيون القوم ناظرة إليه ، مع قال لهم في صوت ضعيف (( لقد عاد حجر )) .
فأجابته أصوات فيها شئ من الذعر : (( عاد حجر ؟ متى؟)).
فأجاب ابن مسعود : (( عاد الساعة بعد أن قتل رواحله من السير الحثيث )) .
فقال أحد الرجلين الغريبين : (( لقد بلغه النبأ )) فأجاب ابن مسعود مطرقا : (( لا ريب فى ذلك ، وكأنى بكم ترجعون عما كنتم عازمين عليه )) .
فصاح رجل من الجلوس : (( لا نرجع عن عزمنا وحق مناة ! )) .
وكان ذلك الصائح شاعر بني أسد عبيد بن الأبرص .
فسكت القوم حينا ، ثم عاد ابن مسعود إلى الكلام ، فقال يخاطب الرجل : (( ولكنا لا نستطيع يا عبيد )) .
فصاح عبيد غاضبا : (( إننا ان نجد بعد اليوم فرصة أخرى ...)) .
وأراد عبيد بن الأبرص أن يمضى في قوله ، فقاطعه شيخ من الجلوس قائلا : (( خفض صوتات يا عبيد... فلست اليوم تنشد شعرا )) .
ثم وجه الشيخ قوله إلى ابن مسعود فقال : (( لقد علمت أننا لا نقدر على جنود حجر بغير نجدة من العرب ، فإنه في جنود كندة وأعوان من كنانة ومن قيس ، وانتم تعرفون ما بيننا وبين بكر وتغلب من العداوة ، فلن نجد منهم نصيرا عليه . ولسنا نتوقع أن تأتينا نجدة من المنذر قبل شهر من اليوم ، فهذا ما انبأنا به ضيفانا الكريمان . فأولي لنا أن تنتظر فرصة اخرى ، فإن الإقدام على ما لا قبل لنا به يفسد علينا خطتنا وببعد عنا قصدنا )) .
فسكت القوم ينتظرون جواب ابن مسعود على ما قاله الشيخ الحارث الكاهلى وتحرك عبيد في مكانه ضجرا . ولكنه لم يقل كلمة .
وبعد حين قال ابن مسعود : (( الحق ما قاله أبو غالب فأولى بنا اليوم أن نصير حتى... ))
ولم يتم الرجل قوله إذ علا صوت ضحكة سخرية من أحد الجلوس ، فالتفت الجمع كله إلى صاحبها ، وقال ابن مسعود وفي صوته رنة ألم وإنكار : ((مم تسخر يا عبيد ؟))
فقال عبيد وكان هو الضاحك الساخر : (( أعجب لكم إذ تقولون نصير وننتظر . أنسيتم أنكم قد بداتم الوثوب بصاحبكم ؟ أنسيتم أنكم قد عصيتم أمره وضربتم جباته وأسلتم دماء رسله ؟ اتظنون حجرا يغفر لكم ذلك ولا يعاقبكم عليه . لكأنى به الآن قد عرف ما أحدثتم ، وكأنى برسله الساعة تسعي في آثاركم وتشتد في طلبكم )) .
وما كاد عبيد يتم قوله حتى جمعت صحة مقبلة من حوافر خيل وقمقمة سلاح وأصوات مختلطة حانقة . فقام الجميع فزعين ، وما كادوا يتبينون سبب الضجة حتى أحاطت بهم جماعة في سبوف مشهورة ، وتقدم رئيسهم قائلا: (( لا يتحركن أحدكم من مكانه )) .
وما هي إلا لحظات حتي كان الشيوخ يسيرون في قيودهم ، يساقون والجنود تدفعهم من ورائهم دفعا عنيفا ،
حتى قذفوا في خيام السجن والحراس من كندة يحيطون بها . وقضي شيوخ بني أسد تلك الليلة مع ضيفهم الوافدين عليهم من الحيرة في حراسة الحند يتذوقون صنوف المذاب من ضرب بالعصا ووخز بالرماح ووطء بالإقدام . وكان الجنود لا يخاطبونهم إلا بالسب والوعيد لا يسمونهم إلا " عبيد العصا " وهم يهوون عليهم بالضربات الموجعة لا يبالون أين تصيب منهم.
وأتى الصباح فاذا بهم بين قتيل من أثر الضرب العنيف وجريح مما أصابه من وخز السلاح . وكان الشيخ الحارث الكاهلى المسكين من قتلى تلك الليلة .
كان حجر في خيمته في ذلك الصباح لا يستقر في مجلس بل يذرع القبة الفسيحة ذهابا وجيئة وهو مطرق مهموم . وكان وهو يخطو خطواته الواسعة السريعة يتكفأ كأنه ينحط من عل ، ويزيد الغضب أحيانا فيفوه بلفظ حانق ، ثم يعود إلي نفسه فيمسك ويستمر في سيره مطرقا .
واكتسى وجهه بلون قاتم من أثر الغضب ، يزيده سوادا لحية سوداء كثة تحيط به ، تتخللها خيوط من الشيب ، وتبدو شعثاء كأنها معرفة الأسد . وظهرت لمعة مخيفة في عينيه المحمرتين ، فاذا اتجه بهما إلى شخص لايطرف كأنه يهم بالوثوب عليه . وكانت رعشة خفيفة تعتري شعر شاربه وهو بين حين وآخر يجذبه بعنف ثم يرسله في اضطراب . ودخل عليه الخيمة وهو على هذه الحال ربيعة ابن عمرو تابعه المخلص وهو في عمامة خفيفة بيضاء وثوبين مخططين قد ائتزر بأحدهما واشتمل بالآخر ، فوقف حجر ونظر إليه وقال بلفظ سريع خاطف : ((هل تحملوا؟))
فقال ربيعة هادئا : (( نعم ... وجثت مستأذنا في تسييرهم )) .
فقال حجر في غيظ : (( وتركت حراسا عند عمرو بن مسعود ؟)).
قال ربيعة : (( تركت حوله حراسا لا يوصل إليه من دونهم )) .
فقال حجر : (( وذلك الثعبان عبيد ؟)). قال ربيعة : (( لست أعبأ به . لكأنى به قائم عندك بعد حين يتذلل ويتمرغ)) .
فصر حجر بأسنانه ، وعاد إلى سيره السريع يخبط الأرض بقدميه ثائرا ، وقال من بين أسنانه : (( لا رأيته إلا مضرجا في دمائه )) .
ثم قال كأنه يخاطب نفسه: (( لوددت انهم جميعا لحقوا بالحارث الكاهلى فلم يبقى منهم باق هذه الليلة لم يشف قلبى من هؤلاء . . . إنهم يسيرون من هذه الأرض وهم أحياء )) .
فوجد ربيعة فرصة للقول فأجاب :(( لم يكن الحارث شرهم ، فقد علمت انه كان يردهم عن الوثوب وينصحهم بلزوم الطاعة )) .
فقال حجر وهو يضحك ضحكة مرة : (( يردهم عن الوثوب؟ إنما كان يستأنى بهم ريثما يتم لهم الاستعداد)).
فصمت ربيعة ، وقد أدرك أن حجرا أصاب الحق في قوله ، واستمر حجر بعد حين فقال : (( لقد بدا لى أن ألجمهم السيف فلا أدعهم يسيرون عنى وهم أحياء ، فوحق يغوث ويعوق وكل أنصاب العرب ما لهؤلاء أمان بعد اليوم .
فقال ربيعة متلطفا : (( لو آخذ الملوك قومهم على مثل هذا لما بقيت لهم رعية . وليت شعرى ماذا أنت صانع وهذا بغيرهم إذا فعلتهم ؟ فليست غطفان بأهدا منهم نفوسا )) .
فتنظر حجر إلى ربيعة نظرة مخيفة ثم قال : (( لكأنى بك تهددني بقومك ؟ )) .
فقال ربيعة هادئا : (( لقد عرفت - أبيت اللعن - مبلغ
وفائى لك وحرصي علي تدعيم ملكك ، فلست بالذى يهددك بقومه ، ولن يكون من قومى إلا ما تحب ما بقيت فيهم ، ولكنى أضرب لك الأمثال لعلى أبلغ من نصيحتي ما أود )) .
فمضى حجر في سيره ، ثم وقف بعد قليل ونظر إلى بيمة وقد خبا بعض هياجه وقال : (( إذا فليسيروا اليوم عنى حتى لا أراهم في صباح ولا مساء ، هؤلاء عبيد العصا)).
فلم يعاود ربيعة الكلام في امرهم ، واكتفى بأن استأذن في الخروج لتشييع القوم والتثبت من كفاية حراستهم في مسيرهم .
وما هى إلا ساعة حتى كان شيوخ بنى أسد وزهرة شبابهم يسيرون في قافلة عقليمة تسرع بهم إلى منفاهم الذى أمر الملك حجر أن ينفوا إليه في صحارى تهامة .
