كان " باهوم " فلاحا ساذجا ، يعيش - علي فقره - عيشة هادئة مطمئنة ، لا يعرف من زخرف الدنيا وزينتها كثيراً ولا قليلا . ولبث كذلك إلي أن سمع ذات مرة أخت زوجه - وهي من أهل المدينة - تنبه عليه بحياة المدينة الزاخرة التي تحياها مع زوجها ، غارقة في ضروب وألوان من المتع والمسرات .
حينئذ خطر لباهوم أنه لو وسع قليلا من رقعة الأرض التي يملك ، إذن لتوفر له المال وبات سعيداً . ولمح الشيطان هذا الخاطر بدور بخلده فسر به وفرح ، وعرف موطن الضعف في هذا الرجل ، وأخذ من ذلك الحين يبسط له في الأرض ويؤرق بها جنبية ، وهو بهذا الصيد الجديد الذي أوقعه في الفخ جد سعيد .
وأخذ " باهوم " يقتر على نفسه وعياله ، ويرهق أبناءه بالعمل كي يزيد أجرهم ، وباع ما لديه من ماشية ، واستدان من جيرانه ؛ واستطاع بعد هذا الجهد الجهيد أن يشتري قطعة من الأرض في قريته .
وجمع من الأرض آخر العام محصولا وافراً ، باعه وسدد من ثمنه أكثر الدين ، فكثر حساده من أقرانه ، وشرعوا يدبرون له المكائد ؛ فحينا يطلقون ماشيتهم على أرضه تأكل الزرع ، وحيناً يتربصون غيبته ويقطعون الأشجار . فطرق أبواب المحاكم ، ولم يستطع تقديم الدليل الوافي ، فلم ينصفه القضاة ، فاتـهمهم بالرشوة ... وهكذا كثر أعداء " باهوم " وهدده بعضهم بإشعال النار في بيته إذا لم يرجع عن شكائه وقضاياه .
وتعسر عليه العيش في قريته . وهداه رجل من أهل
القرية إلي قطعة أرض في بلد آخر يؤجرها صاحبها بثمن زهيد ؛ فباع " باهوم " كل ما يملك في قريته ، وهجر مسقط رأسه ، واستطاب المقام في البلد الجديد . ولكنه سرعان ما سئم التبعية لمالك آخر ، وعاوده الحنين إلي امتلاك الأرض . وسمع بأرض بعيدة تعرف بأرض " بشكير " يبيعها أهلها بثمن بخس ، ويكفي المشتري أن يقدم الهدايا لشيوخ القبيلة وزعمائها لكي يظفر بما يريد .
فتأهب " باهوم " للرحيل ، وخلف من ورائه زوجه وبنيه ، واستصحب خادمه ، واشتري كمية من الشاي والنبيذ والقماش يقدمها هدايا لزعماء " بشكير " كما نصح له صاحبه . وأتم رحلته بعد مشقة وعناء ، وبلغ الأرض الموعودة ؛ وإذا بأهل " بشكير " قوم من الرعاة ، جهال كسالي ، يعيشون في الخيام ، ويطلقون الماشية والخيول في الحقول ترعي فتدر عليهم الخير الوفير . ووزع " باهوم " على زعمائهم الهدايا ، وخص شيخهم الأكبر بالقسط الأوفر منها . ثم عرض عليهم مطلبه ، وسألهم عن الثمن الذي يفرضون ؛ فأجابه الشيخ إنهم يبيعون الأرض بمائة دينار عن كل " يوم " ولم يفهم " باهوم " ما أراد الشيخ ، واستوضحه كيف يبيعون الأرض باليوم ؟ فأجابه الشيخ : إنهم لا يعرفون حساب أهل المدن ، وإنما هم يقدسون الأرض بمقدار ما يستطيع المرء أن يسير في اليوم الواحد . وطريقتهم في بيع الأراضي أن يسير المشتري علي قدميه من مشرق الشمس حول الأرض التي تروق لعينيه ، وله أن يوسع من دائرتها ما وسعه الجهد ، على أن يعود مع مغيب الشمس إلي المكان الذي بدأ منه المسير ؛ فإذا هبطت الشمس تحت الأفق وأقبل الظلام قبل أن يعود المشتري ، كان عليه أن يدفع الثمن دون أن يملك الأرض .
وقبل " باهوم " هذا الشرط ، وعقد العزم على أن يبدأ مسيره صبيحة اليوم التالي . ثم أوي إلي فراشه ، وأخذت تلعب برأسه الأماني والآمال وصور له الوهم أنه
يستطيع أن يقطع خمسين ميلا على قدمية ، فاليوم صائف طويل ، وأنه سوف يصبح من كبار المالكين ، فيحق له أن يزهو علي أهل قريته ويتكبر . ولكن كيف يصرف الأمر في هذه الضيعة الكبيرة ؟ سيزرع منها جانباً ، ويؤجر جانباً آخر ، ويترك جانباً للرعي ، وسوف يشتري الماشية ويستخدم العمال لإصلاح الأرض .
ولعبت برأسه الأحلام ، ولم يذق طعم الكري إلا قبيل الفجر بقليل . وفي الساعة التي ألم فيها النعاس بجفنية رأي في نومه رجلا خارج خيمته ، وسمع الرجل يقهقه قهقهة عالية ، فحسبه شيخ القبيلة يضحك منه ويسخر ، فاقترب منه يسأله , وما إن دنا منه حتى تبينه ، فإذا به ذلك الفلاح الذي هداء إلي أرض " بشكير " هذه ؛ ثم حدق ببصره في الرجل فأسفر وجهه عن ذلك الصاحب القروي القديم ، الذي نصح له من قبل ان ينزح من قريته ليستأجر تلك الأرض التي خلف بها زوجه وبنية ؛ ثم حملق في الرجل وتفرسه فانقلب إلي شيطان مارد له حوافر وقرون ، وهو يضحك من رجل ملقي أمامه عاري القدمين ، ولا يتستر إلا بقطعة يسيرة من القماش ؛ فاقترب " باهوم " من هذا الرجل المستلقي فإذا به جثة هامدة ، وتبين الجثة فإذا بها جثته هو نفسه .
وحينئذ نهض من نومه مذعوراً ، واستولي عليه شئ من الاضطراب والفزع ، ولكنه اقتنع أخيرا أن ما رأي في نومه إن هو إلا أضغاث أحلام .
وانفلق الفجر عن نور خافت أخذ يبدد ظلام الليل الدامس ، فهب " باهوم " مسرعا ، وايقظ خادمه ، وصاح بأهل " بشكير " أن يهبوا من نومهم كي يشهدوا أنه يبدأ المسير مع مشرق الشمس . واشد ما كان يخشى أن يفقد مسير دقيقة من النهار . وقدم له مضيفوه طعاما يتبلع به , فأبي أن يتناوله حرصاً على الوقت من الضياع .
وارتقي " باهوم " وخادمه وشيخ القبيلة ونفر من
أهلها قمة تل مرتفع يبدأ منه المسير ؛ ومد الشيخ ذراعه مشيرا إلي الأرض ، وقال له : " ها هي ذي أمامك اضرب فيها ما شئت ، وخذ منها ما يروق لك ، وعد إلينا في المساء " وتألقت عينا " باهوم " جذلا وفرحا ، وتهلل وجهه سرورا وبشرا ، وخلع معطفه الثقيل ، وشد نطاقة إلي خصره كى لا يشق عليه المسير . وحمل معه زادا يسيرا وماء قليلا . وشد رباط حذائه ، ورفع إلي كتفه فأساً يشق بها الأرض كلما سار ساعة ، كي يبين الحدود للأرض التي سوف يدفع عنها الثمن . وشخص ببصره يـمنة ويسرة ، وتردد برهة من الزمن في أي اتجاه يسير ، فكل بقعة جميلة ، وكل مكان يبهر العين . وأخيرا قر رأيه أن يسير شرقاً تيمنا بالشمس المشرقة . وما إن بزغت الشمس وأرسلت أول سهم من سهام النور حتي انطلق " باهوم " وهبط في بطن الوادي ، وكلما سار ساعة ضرب الأرض بفأسه ، ووضع قليلا من العشب علامة علي بلوغه هذا المكان .
وارتفعت الشمس فوق الأفق ، وفكر في تناول شئ من الطعام ، ولكنه كان يخشى تبديد الوقت ، والوقت من ذهب ، فاستأنف السير على الطوي . واشتد القيظ وتصبب منه العرق ، وابتل لباسه والتصق بحسمه ، ففك أربطته ونطقه ، وخلع حذاءه ، وشعر بشيء من الخفة ، وتابع المسير ينظر يمنة ، فإذا بالأرض جميلة خصيبة فيسير في هذا الاتجاه ، ثم ينظر يسرة فتغريه الأرض المنبسطة ، فيغير وجهة المسير ؛ وهكذا كلما سار شوطا زادت الأرض في عينيه رونقاً وجمالا ، وطمع في امتلاك كل ما امتد إليه البصر .
ولما انتصف النهار التفت وراءه فبدا له أهل بشكير على بعد صغاراً كالنمالى فوق الجبل . فاطمأن قليلا وعرف أنه لم يضل الطريق بعد . وفكر في العودة ولكنه كان جائعاً صاديًا منهوك القوي ؛ فجلس قليلا وأكل وشرب .
وخشي أن تأخذه بعد الطعام سنة من النوم تفوت عليه قطعة من الأرض ، وآثر السعادة المرقوبة على الراحة الموقوتة . هذه رقعة من الأرض تصلح لزراعة القمح ، وتلك أخرى تصلح للكتان ، فلا يصح أن يفقد هذه أو تلك وأخيراً كبح جماح مطامعه قليلا ، وشرع يسلك طريق العودة قبل أن تغيب الشمس ويفقد كل ما امتلك .
ولكن السير بعد هذا الجهد المتواصل كانت عسيرا شاقاً . وقد لفحته الشمس بحرارتها وتورمت قدماه وخارت قواه . وكم كان يتوق إلي شئ من الراحة ، ولكن كيف له هذا ولا بد أن يبلغ قمة التل قبل غروب الشمس . وحينئذ أحس بالندم على طول المسير ولات ساعة مندم ؟ وتمنى لو انه اكتفي باليسير من الأرض وعاد وهو مالك لئواه ! وكاد يقعده الإعياء ، ولكن لابد من بلوغ التل مهما كان العناء . وألقي عن كاهله كل ما تبقي لدية من زاد وماء ، ونزع عن جسمه كل ما كان يتستر به من رداء ، اللهم إلا خرقة يسيرة يستر بها سوءته . واتخذ من الفأس عكازة يتوكأ عليها وسار إلي الأمام .
ورفع بصره نحو الشمس فإذا بها تقترب نحو الأفق وقد أخذ نورها في الشحوب ، فتحطمت نفسه حسرات على ما فعل ، وجف ريقه ، وتقطعت أنفاسه ، وأسرعت دقات قلبه ، وخشي " باهوم " أن يموت من شدة الإعياء ،
ولكنه - رغم شبح الموت الماثل أمام ناظرية - لم يكف عن المسير . وأجهد نفسه جهد المستطاع . وأبصر القوم فوق التل ، وسمع نداءهم وصياحهم يهيبون أن يقطع الشوط الأخير ويبلغ المراد . غير أن التعب قد بلغ منه الآن مبلغه ، ولم يعد له في الحياة أمل . لقد أصبح بحق المسير مالكا لرقعة كبيرة من الأرض ، ولكن هل يمد الله له في الأجل حتى يستمتع بثمرة الجهد ؟ !
وتواري عن النظر جزء من قرص الشمس ، ثم اختفت كلها تحت الأفق ، فهل ضاع الأمل ؟ لا ! إن الشمس قد
غابت عن ناظرية لأنه في المنخفض ، ولكنها ما تزال بادية لأهل بشكير فوق الجبل . فاستجمع كل ما بقي له من رمق الحياة ، وصعد الجبل وأخيراً بلغ القمة مع غروب الشمس . فصاح به الشيخ ضاحكا " بارك الله فيك من مجاهد ! إنك الآن مالك لرقعة كبيرة من الأرض .
ولكن الدم أخذ يتدفق من أنفه ومن فيه ، وعجز عن الانتصاب على قدميه ، وخر إلي الأرض صريعا . وتذكر الحلم الذي رآه في نومه قبيل الفجر فأدرك مغزاه ، ثم لفظ النفس الأخير . وبهت أهل بشكير لمرآه . وتقدم إليه خادمه واستل من جانبه الناس وحفر له قبرا فوق الجبل يرقد فيه رقدته الأخيرة . وكان كل ما يحتاج باهوم الآن من الأرض ست أقدام تواريه من قمة رأسه إلي أخمص قدمية !!!
