من الغريب أن يجتمع الضدان ، فنجد من السم القاتل دواء شافيا ، على أن يؤخذ بقدر ، والسم كلمة يهابها السمع ، شأنها في ذلك شأن كلة ثعبان . فمن منا يري ثعبانا ولا يهرب منه ؟ وهذا الاسم لو ردد في حفل فسرعان ما تتفرق أفراده ، وما ذلك إلا لأن الثعبان رمز للسم المتحرك ، يهابه الإنسان كما يهاب الموت ، على أن كثيرا من الثعابين لا تحمل بين فكيها سما قاتلا ، ومثلها الدساس المصري . ولو عرفنا أن تلتي ثعابين العالم لا تحمل سما لأدركنا أنه ليس هناك ما يدعو إلي أن نهاب الثعابين ونخشاها
ولنفرض أننا بصدد ثعبان سام ، فلماذا نهابة ، أليس من الضروري أن يكون لكل مخلوق وسيلة للدفاع عن نفسه أو مهاجمة فريسته ؟ فهذا يهاجم فريسته بقوته ، وذاك يهاجمها بسمه ، وهكذا . ولو زار شخص حديقة الحيوان بالجيزة في وقت غداء الثعابين لشاهد البيتون ، وهو ثعبان ضخم ، يقدم له الحمام حيا طائرا ، فلا يلبث أن يقتنصه ويهصره بين عضلاته القوية ثم يلتهمه ، أما إذا انتقلنا إلي المقرنه فإنها تهاجم الفار بعضه تفقده الحياة ، ثم تلتهمه جثة هامدة
على أن هذه الثعابين ، مع ما عرف عنها من خطر مميت ، قد استفاد العالم منها ، واصبحت تحفظ في مربي خاص ويجني منها الكثير من الفوائد . ففي أمريكا ثعبان سام يعرف بالثعبان ذي الجرس ، لان له في اخر ذيله حراشيف يحتك بعضها بالبعض فيحدث صوتا خاصا ، يربى هذا الثعبان بمقادير كبيرة كما تربي الدواجن ، ويؤخذ كل جزء من أجزاء الثعبان ليستخدم في غرض خاص ؛ فعضلاته تطهي وتحفظ في علب ، تباع في محلات البقالة
كالسردين واللحم البقري . أما هيكله العظمي فيقام علي حوامل ، ويباع للمتاحف والمعاهد العلمية ، وأما احشاؤه فتحفظ مشرحة في مخايير خاصة لبيان اجهزة الثعبان من الداخل ، ويستخدم جلده في عمل الحقائب والاحذية وأدوات الزينة
وقد ذكرنا ان للثعبان حراشيف ، وقد يعجب القارئ إذا عرف أن هذه الحراشيف تستخدم في امريكا كتعويذة من الإنس والجن ، يحرقها الشخص لهذا الغرض . ومهما يكن مصدر هذه الخرافة ، فإن هذا الجزء ينتفع به أيضا .
أما سم الثعبان فله فائدة في علاج بعض الأمراض ، وللعلاج بسم الثعبان قصة ترجع إلى طفل في الثالثة حار
الأطباء في علاجه ، فأدخل في مستشفى ، وكان مرضه يرجع إلي جهازه الدوري وضعف أوعيته الدموية ، إذ يحدث له نزف من شعيراته الدموية ، حيث الجلد الرقيق كغشاء الفم أو الأنف من الداخل ، ويسبب ذلك بقعا بنفسجية ؛ ووجد أن الطفل يضعف ضعفا متواصلا ، وقد انطفأ نور الحياة من وجهه . وبعد فحص الأطباء له عالجوه بحقن الكلسيوم والحديد وغير ذلك من أنواع العلاج المعروفة ، ولكن لم يجده ذلك شيئا . فرؤي مناقشة الأمر بين جمع من الأطباء . واستقر الرأي
أخيرا علي حقن الطفل بسم ثعبان . وتردد الكل في استخدام هذا النوع من العلاج لهذا المرض في طفل ضعيف ، فكيف يتحمل طفل في الثالثة من عمره سما زعافا ؟ ولماذا يتحمل هذا المسكين تجربة قاسية كهذه قد تعجل بوفاته ؟ وهل يوافق الوالدان على ان يتحمل فلذة كبدهما مثل هذه التجربة ؟ نعم إنه يخطو إلي الموت رويدا رويدا ،
ولكن أملهم في نجاته يوما من الأيام قد باعد بينهم وبين الموافقة على تحمل هذه الصدمة ، على أن تألم الطفل المتزايد ، وتهدمه أسبوعا بعد آخر ، ويأس الجميع من شفائه ، أيقظ في نفس الوالدين أملا أنار لهما طريق الخلاص ، فوافقا على أن يتجرعا الكأس على مضض .
وهنا أسرع الأطباء إلي من بيده أحد هذه الزواحف المميتة ، وطلبوا منه شيئا من سمه . وإنها لجرعة غالية يحتفظ بها الثعبان ، فهي كل ما يملك لبقاء نوعه وحفظ حياته . وليس اخذ السم منه بالأمر الهين ، إذ يحتاج ذلك إلي طريقة خاصة لإمساك الثعبان ، وفتح فمه على مصراعيه , ثم الضغط على كيس السم بلطف وحذر ، فلا يلبث السم ان يتقطر من ناب الثعبان في غشاء جلدي أعد لذلك . وتدلك غدد الثعبان قليلا قليلا بأصبع خبير ، وبذا يحصل الطبيب علي اكبر مقدار من مادة صفراء ، وهي السم
القاتل . بعد ذلك أسرع الطبيب بهذا المقدار إلي الطفل وهو بين الموت والحياة ، وحقنه ثلاث نقط لا أكثر ، وانتظر بعد ذلك ليري الأثر ، وهو اشد ما يكون هلعا وخوفا ، ولكنه كان يزداد اطمئنانا بمضي الوقت ؛ وما كان أكثر فرحه عند ما وجد أن الحقن لم يكن له أي أثر ضار بالمريض . وبعد بضعة أيام أعاد الحقن ، فلم يضار الطفل ، واستمر الحال علي ذلك فترة تقرب من ثلاثة أسابيع ، ولوحظ ازدياد مقاومة الطفل لحقن السم ، واخيرا
بلغ ما يحقن به خمس عشرة نقطة ، ومع أن هذه الجرعة قد تكون كافية لقتل شخص بالغ ، إلا أنها لم يكن لها أي أثر سئ على الطفل . بعد ذلك لوحظ ان الأوعية الدموية ، للطفل تقوت ، وأخذت البقع البنفسجية في التلاشي . ولم يلبث الطفل أن برىء من مرضه واستقبل الحياة بعد أن كاد يودعها .
ومن الطبيعي ان الاطباء لم يقدموا علي هذه التجربة دون تمحيص سابق . فقد قام العلماء بأبحاث كثيرة في هذه الناحية . فجربوا أثر السم في تجلط الدم ، وقد صادفوا نجاحا كبيرا في هذه التجربة . فعرفوا من بحثهم ان السم يساعد على سرعة تجلط الدم وتقوية أوعيته ، وعلى نور هذا البحث استرشد الأطباء في إنقاذ هذا الطفل
ولا غرابة في ذلك فهناك أدوية سامة كالزرنيخ والزنبق إن أخذت بمقدار يسير كانت شافية ، وإن زيد المقدار كانت جد قائلة . فالمقدار هو الذي يتحكم .
وقد فحص العلماء اثر السم في الحيوان ، فوجدوا ان هذا الأثر على نوعين : فاما أن يبيد خلايا الدم ، وإما ان يميت الأعصاب وخلايا الحس . ويسبب هذا النوع الأخير فقدان الحس والوظيفة ، فإذا ما وصل اثره إلي اجهزة التنفس سبب الوفاة للحيوان .
وقد عولج مرض الهيموفيليا بسم الثعبان . والهيموفيليا
مرض وراثي يكون في الدم ، ويسبب عدم حدوث التجلط ، ووجد ان المريض الذي يحتاج إلي زمن يتراوح بين عشرين وخمس واربعين دقيقة لتكون الجلطة ، لا يحتاج لأكثر من سبع عشرة ثانية إذا عولج بمحلول مخفف من سم ثعبان خاص .
ومرض الهيموفيليا مرض خطير ، وينذر أن يعيش المصاب به إلى سن متقدمة ، إذ يعيش مهددا طول حياته ، فخلع سن أو جرح بسيط قد يسبب نزفا مميتا ، وقد ساعد سم الحية علي نجاة كثير من هؤلاء المرضى بإيقاف النزف في الحال .
وقد جرب هذا العلاج في بعض امراض الكلية التي يصحبها دم في البول ، فادت التجربة إلي نتائج حسنة . وأخيرا حاولوا علاج الأمهات عند الوضع بهذا السم ، فقسمت الأمهات اللائي على وشك الوضع إلي قسمين : قسم حقن بجرعة من السم ، والقسم الآخر لم يحقن . وقد وجد أن مدة النزف بعد الولادة قصرت إلي حد كبر في حالة الأمهات اللائى حقن قبل الولادة ، كما قل الدم الذي
تنزفه الوالدة . ومن الغريب انه وجد عند تحليل دم الرضيع أنه لا يحمل أثرا للسم ، ولم تعان الام أو رضيعها أي ضرر من هذا الحقن
وفي الهند حيث يكثر الثعبان الناشر ، وتكثر الوفيات التى يسببها هذا الثعبان الخطر ، اخذ العلماء يوجهون سمه لفائدة المجموعة ، ولما كان سمه من النوع المؤثر على الأعصاب ، فقد استخدم لحقن اشخاص مرضي يقاسون ألما ممضا . وقد وجد أن هذا الحقن لا يصبح عادة عند المريض كما هو الحال عند استخدام مادة كالمورفين مثلا
على أن العلاج بسم الثعبان لم يتم بحثه بعد ، ولا بد ان يمضي بعض الوقت قبل ان يعمم ؛ على ان هذا لن يكون بعيدا ، وخاصة إذا علمنا ان سم النحلة قد استخدم في علاج الروماتيزم ، وان اهتمام كثير من العلماء بهذه الناحية سيكشف لنا الكثير عن هذا العلاج الغريب .
