- ٢ -
لعل نظرة أولى إلى الفرق البعيد ، البعيد جدا ، بين ما وصل إلينا عن العرب فى جاهليتهم من النثر الفنى . وبين ما وصل إليه النثر الفنى الحديث ، ترينا مدى التطور الذى تطوره النثر العربى .
ومهما يكن الشك الذى يطوف بالنثر الفنى الجاهلى ، فالأمر الذى لا شك فيه هو أننا لا نعدم نصوصا ثابتة من هذا النثر ، وأظن أننا لو وازنا بين صور هذا النثر من المنافرات وسجع الكهان وخطب الوفود ومواعظ المواسم ونحو ذلك ، وبين صور النثر الحديث من المقالة والقصة والمسرحية والكتاب ونحو ذلك ؛ لاتضح لنا التطور البعيد الذى تطوره النثر العربى منذ أقدم عصوره حتى اليوم .
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى لو أننا تتبعنا المراحل التى مر بها النثر العربى لوجدنا التطور فيها جميعا واضحا وقويا .
وأول ما تقف عنده من هذه المراحل " الكتابة الديوانية ، وهى النقلة الأولى التى انتقلها النثر العربى على يد عبد الحميد الكاتب وأستاذه سالم مولى هشام بن عبد الملك ، ويذكر أبو هلال العسكرى أن سالما كان يعرف اليونانية ، وأن عبد الحميد كان يعرف الفارسية ، وإن يكن بعض الباحثين المحدثين يذكر أنه كان شديد الاتصال باليونانية .
وعلى كل حال فقد ظهر أثر هذه الثقافات الأجنبية فى كتابتهما . ظهرت هذه النقلة للنثر العربى عند عبد الحميد خاصة ، فهو الذى ابتكر الرسائل المطولة المفصلة الموضوع المرتبطة الأجزاء ، وهو الذى وضع للرسائل العربية نظاما احتذاه من جاء بعده من صور البدء والختام والتحميدات
وغير ذلك مما هو معروف ومقرر عند دارسى الأدب العربى .
وكانت النقلة الثانية للنثر العربى التأليف تأليف الكتب فى الأدب واللغة وعلوم الدين والتاريخ وغيرها مما أدانه النثر الفنى ، ولست فى حاجة إلى أن أقول إن هذه الظاهرة لم تعرف بأى شكل من أشكالها فى العصر الجاهلى .
وكانت النقلة الثالثة الترجمة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية ، وكان رافع لوائها ابن المفقع ، وابن المفقع كان يجيد اللغة الفارسية إلى جانب إجادته للعربية ؟ ومن ها نستطيع أن نعتبره واضع حجر الأساس فى الترجمة إلى اللغة العربية . وليس من شك فى أن الترجمة أثرت أثرا كبيرا فى تطور النثر العربى . وأحب أن نلاحظ أننا لا نكاد نعثر على ترجمة لأى شعر أجنبى إلى اللغة العربية حتى ذلك العصر .
وكانت النقلة الرابعة ما يصح أن نسميه " حرية النثر العربى " وهى محاولة إخضاعه لحاجات الحياة المتعددة ، وهى المحاولة التى ظهرت عند الجاحظ خاصة ، والتى استمرت فى تقدمها حتى العصر الحديث ، ويكفى أن ننظر إلى الموضوعات التى طرقها الجاحظ فى كتبه لنعرف إلى أى مدى استطاع النثر الفنى أن يتسع لشئون الحياة المختلفة .
وكانت النقلة الخامسة فى سبيل " نشأة القصة " وهى التى بدأت بالمقامة على يد بديع الزمان ، ثم انتهت بنشأة القصة فى العصور المتأخرة . ومع أن المقامة لم تكن مستكملة الخصائص الفنية للقصة فى وضعها الحديث ، فإنها كانت " رأس الجسر " - كما يقال فى المصطلحات الحربية الحديثة - فى سبيل نشأتها .
ثم كانت النقلة الحديثة فى النثر ، وهى ما نستطيع أن
نسميه " النقلة الصحفية " التى بدأت فى العصر الحديث مع ظهور الصحافة ، وهى التى أظهرت المقالة فى النثر العربى ، والتى من أخص خصائصها السرعة والتركيز والتنظيم والتقسيم .
وأحب بعد هذا أن نلاحظ ملاحظتين : ( الأولى ) أن كل هذه النقلات قد مضت فى تطورها على طول العصور المختلفة ، حتى أصبحت كل نقلة تاريخا طويلا بمراحله المختلفة وتقدمه وتطوره فى كل مرحلة و ( الأخرى ) أنه وجد بجانب هذا التطور الموضوعى الذى صورنا مراحله تطور أسلوبى تابع له من كتابة مقيدة ، وكتابة حرة ، وكتابة متوازنة ، إلى غير ذلك من الأساليب المختلفة المعروفة .
هذه صورة سريعة لما حدث فى الأدب العربى من تطور فى الشعر والنثر ، ومنها يتضح أن النثر كان أسرع استجابة لعوامل التطور من الشعر ، فما أسباب ذلك ؟ .
أسباب ذلك كثيرة ، ولكن من الممكن أن نخضعها لقسمة منطقية ثلاثية : فهناك أسباب تعود إلى الأدب ، وهناك أسباب تعود إلى الأديب ، ثم هناك أسباب تعود إلى أشياء خارجة عن الأدب والأديب ، وبهذا تنحصر هذه الأسباب فى ثلاث مجموعات .
أما المجموعة الأولى ، وهى الأسباب التى تعود إلى الأدب ، فأولها أن الشعر أدب أرستقراطى ، والنثر أدب شعبى . ومعنى هذا أن النثر من ناحية أشد قربا إلى الحياة فى مجموعها من الشعر ، ثم هو من ناحية أخرى أسهل تناولا لها وأيسر نظرة إليها منه ، وهاتان الخصلتان من أهم خصال الأرستقراطية : خصلة الترفع عن الحياة فى مجموعها ، وخصلة البعد عن السهولة واليسر فى تناولها ، وكانت نتيجة هذا أن الحياة وجدت فى النثر خادما مطيعا لها ، تدعوه فيلبى دعاءها ويعمل على إرضائها ، وتسير فيسير معها متتبعا خطواتها ، فتطور النثر مع تطور الحياة ، بينما ظل الشعر فى كبريائه يعيش فى السحاب ناظرا إلى الأرض نظرة احتقار وسخرية لا يهتم بأمرها قدر ما يهتم بأمر نفسه من هنا كانت فكرة " الفن للفن " التى جعلت من الشعر أداة من أدوات الزينة تعيش على هامش الحياة ، بينما تغلغل النثر فى صحيحها وأصبح من أهم مقوماتها .
ويظهر أن هذه الفكرة ، فكرة أرستقراطية الشعر ، سيطرت على الشعر العربى فى مختلف عصوره ، حتى فى العصر الجاهلى ؛ فقد كان العرب فى الجاهلية ينظرون إلى الشعر على أنه شئ غير أرضى ، شئ خارق للعادة ؟ فنسبوه للشياطين وجعلوا لكل شاعر تابعا من الجن يلهمه كأنما الشعر فوق مقدرة البشر . وتروى بعض الأخبار أن فتاة جاهلية رفضت الزواج من فتى لا لشئ إلا لأنه لم يكن شاعرا ، كأنما الشعر شىء من تلك الأشياء المترفة التى هى سمات للأرستقراطية فى عصرنا الحاضر التى تجذب أنظار الفتيات إلى الشباب .
والسبب الثانى أن الشعر فن جميل ، والنثر صناعة من الصناعات ، وفكرة أن النثر صناعة ليست جديدة ، فقد كان الكتاب منذ أول عصورهم يسمون الكتابة صناعة ، وهذا عبد الحميد شيخ الكتاب يقول فى مستهل رسالته إليهم : " حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة " ومع أن الشعر قد أطلق عليه فى العصور الماضية " صناعة الشعر " فإن هذه التسمية كان مصدرها جماعة من العلماء لا الشعراء فى حين كان مصدر تسمية النثر صناعة جماعة من الكتاب أنفسهم ، مما يجعلنا نرفض فى سهولة حكم أولئك العلماء على الشعر ، ولا نقبل إلا حكم الشعراء أنفسهم على فنهم .
الشعر فن ، والأصل فى الفن التقليد ، وأظن أنه من الأكرم للفن أن نترك كلمة " التقليد " إلى كلمة " المحاكاة " فهى أخف وأقرب إلى تصوير طبيعة الفن ، والمحاكاة الفنية على نوعين : إما محاكاة نماذج ، وإما محاكاة طبيعة ، ولذلك نجد أن الشعر فى مجموعه يتبع هذه القسمة الثنائية : فشعر يحاكى نماذج فنية ، وشعر يحاكى الطبيعة ، وهذا القسم الثانى هو الشعر الذى يكتب له فى العادة الخلود ؟ أما القسم الأول فهو الذى وصم الشعر العربى بتخلفه عن موكب التطور وتوقفه فى قافلة التقدم ، ولعل مما شجع على وجود هذا النوع كثرة النماذج الكلاسيكية الممتازة فى الشعر وسهولة حفظها .
أما النثر فما دام صناعة من الصناعات ، وما دام الأصل فى الصناعات أن تأخذ مادتها من الحياة الواقعية ، ثم تردها إليها فى صورة أخرى نافعة ؛ فالكاتب إذا يأخذ عن الحياة
كما هى أمامه ، لا كما يتخيلها ، وهو لا يلتفت إلى الماضى . إذ يجب أن تكون نظرته إلى الحاضر ، ولعل مما ساعد على ذلك صعوبة احتفاظ الذاكرة بنماذج النثر .
والسبب الثالث يرجع إلى " التكوين الأدبى نفسه ؟ فالتكوين الأدبى فى الشعر يدعو إلى البطء ، وليس كذلك فى النثر . وتفصيل ذلك أن علماء النقد المحدثين يحللون الأدب إلى أربعة عناصر : العاطفة والخيال والفكرة والصورة . أما فى الشعر فالعاطفة هى الأساس ، وأما فى النثر فالفكرة هى الأساس ، وفى الشعر تجىء الفكرة فى مكان ثانوى لتبعث فى العاطفة الصدق والبقاء ؛ وأما فى النثر ، فالعاطفة عامل مساعد للفكرة ، وما دامت العاطفة كما قدمنا عند كلامنا فى خصائص التطور الأدبى ، بطيئة ، وما دام نموها تدريجيا بعكس العقل ، مصدر الفكرة ، فالشعر من هذه الناحية إذا أبطأ من النثر
وأما من ناحية الخيال ، فهو عنصر أساسى فى الشعر ، فيجب أن تكون الصور الخيالية فيه ممتازة تحتوى على خاصتى القوة والجمال ، وأما فى النثر فالخيال أميل إلى الاقتصاد والوضوح ، ويرجع ذلك إلى طبيعة كل من الفن ووظيفته : فطبيعة الشعر الرمزية الموسيقية تجعل وظيفته أن يكون مؤثرا ، وطبيعة النثر التقريرية العقلية تجعل وظيفته أن يكون مفيدا ، وما دام الأمر كذلك فستعود بنا المسألة إلى أن الشعر يحيا لنفسه ، بينما يساير النثر الحياة الواقعية .
وأما من ناحية الصورة فمما لا ريب فيه أن صورة الشعر بقيوده من القافية والوزن والألفاظ الخاصة التى يسميها علماء النقد ألفاظا شعرية تجعل تطور الشعر أبطأ من تطور النثر ، وهو متحرر من تلك القيود ، حتى ليستستطيع الإنسان أن يتكلم كما يكتب ، ولذلك نلاحظ أن الارتجال من خصائص النثر دون الشعر ، فالأديب يستطيع أن يرتجل نثرا ممتازا كأنما قد أعده من قبل ولكنه لا يستطيع أن يرتجل شعرا ممتازا كالذى يفرغ لإعداده وتحبيره .
هذا هو القسم الأول من الأسباب . أما القسم الثانى وهو ما يعود إلى الأديب ، فأول أسبابه ( الشخصية المعنوية للأديب " وفهم هذه الشخصية عند الشاعر والناثر يوضح لنا لماذا ساير النثر تطور الحياة ، فى حين وقف الشعر وتخلف عن هذا التطور .
أهم ما يميز شخصية الشعراء ما يصح أن نسميه " الغرور الفنى فهم معتزون بفنهم اعترازا يصل إلى درجة الغرور ؛ فالشعر عندهم أسمى ما يمكن أن يصل إليه إنسان ، وكانت نتيجة هذا الغرور الفنى أن اعتقد الشعراء أن الشعر كل شئ فى الوجود ، وأن كل ما سواه تافه إلى جانبه ، ومن هنا أهملوا تثقيف عقولهم واكتفوا بالرجوع إلى عواطفهم فى كل شئ ، بل إن منهم من اعتقد أن الثقافة تفسد الشعر ، وأن التثقيف العقلى يجنى على العاطفة فيضعفها .
وواضح أن هذه الفكرة ، فكرة أن الثقافة تفسد الشعر ، خاطئة من أساسها ، وأنها لم تنشا إلا لتبرر جهل الجهلاء من الشعراء ؛ وأقرب دليل على خطأ هذه الفكرة أن الشعر لم يتطور إلا على أيدى الشعراء ، الذين أخذوا من الثقافة العقلية بحظ وافر ، ولا ينقض هذا أن بعض الشعراء المثقفين أفسدوا شعرهم بثقافتهم العقلية ، فهذا مرده إلى الشعراء أنفسهم ، لا إلى هذه الثقافة العقلية . وإنما يجب أن ينظر للمسألة من زاوية أخرى : كيف يعرض الشاعر هذه الثقافة العقلية فى شعره من غير أن تفسده ؟ فالمسالة إذا إنما تخضع لقانون مزج الألوان لا بخلطها ، ومدى ما أتيح للشاعر المثقف من عبقرية شعرية ، وهل هو شاعر عالم أو عالم شاعر .
أما شخصية الناثر فغير ذلك ، الكتاب متواضعون ، اعتقدوا ، منذ أقدم العصور ، أن صناعتهم الكتابية لا تفنى ولا تستغنى عن الثقافة العقلية ، وأن النثر ما دام صناعة فيجب أن يتوافر لها كل ما يأخذ بيدها إلى الكمال ، وليس أفضل لذلك من أن يأخذ الكاتب نفسه بأطراف الثقافات المختلفة فى عصره ، وأنت يعيش مع الناس لا فى برج قنى بعيدا عنهم .
وإذا لاحظنا أن الكتابة فى بعض العصور الإسلامية كانت فى منزلة الوزارة ، وأن الكاتب كان فى منزلة الوزير ، عرفنا إلى أى مدى كان الكاتب يأخذ نفسه بالشدة فى تثقيفها بما يليق بهذا المنصب الكبير ، والثقافة العقلية عند الكتاب فى العصور الماضية كانت أشبه شئ بالثقافة القانونية التى يجب على الوزراء فى العصر الحديث أن يأخذوا بها أنفسهم ، وفى تاريخ الكتابة العربية نجد كتبا كثيرة جدا
ألفت لترشد الكتاب إلى ما يجب أن يتزودوا به من ألوان الثقافات المختلفة وضروب المعارف المتعددة
وسبب آخر يتصل بالأديب ، هو قلة عدد الشعراء الممتازين الذين يمكن أن يتطور الشعر على أيديهم ، وسنسقط من حسابنا أولئك المنشاعرين الذين ليس لهم من الشعر إلا الوزن ، وإلا القافية فى بعض الأحيان ، فما دام الشعر فى أساسه موهبة ، فالشعراء الذين يصح أن نسمهم شعراء قليلون ، ولا يلزم أن يوجدوا فى كل عصر ، بل لقد تمضى فترات طويلة دون أن تظفر الأمة بشاعر عبقرى ممتاز
وغير ذلك نجده فى الكتاب ؛ فالملاحظ أن عدد الكتاب وافر بالقياس إلى عدد الشعراء ، ونتيجة هذا أن كل كاتب من ناحية يقوم بدوره فى تطور النثر ومسايرته الحياة ، فى حين يقف الشعر منتظرا ربه الذى يخلق فيه الحياة ، ويشدو به أغاريد التقدم والتطور .
ولعل مما يتصل بهذا ما يقوله النقاد من أن الشاعر الممتاز خير من الكاتب الممتاز ولكن الشاعر العادى خير منه الكاتب العادى . وهى فكرة على جانب كبير من الصواب .
وسبب ثالث لبطء تطور الشعر هو ما يصح أن نسميه " اللا مذهبية فى الشعر العربى ؟ ، فالناظر فى الشعر العربى يلاحظ أن أكثر الشعراء لم يعرفوا التخصص المذهبى الواضح ، فقد ظل أكثرهم طوال العصور الأدبية يقولون الشعر لا لشئ إلا لأنهم يريدون أن يقولوا شعرا كمن سبقهم من الشعراء . أما قول الشعر تحقيقا لمذاهب فنية معينة واضحة فشئ لم يعرفوه ؛ بل لم يحاولوا أن يفهموا المذاهب الفنية المختلفة التى اتبعها الممتازون من الشعراء فى فنهم ، حتى يكون تقليدهم على بينة وبصيرة ؛ وإنما هم يقلدون هذه القصيدة أو تلك لهذا الشاعر أو ذاك لا لشىء ، إلا لأنها أعجبتهم أو لأن نقاد الأدب قد قرروا أنها جيدة ، حتى لو كانت كل قصيدة من مذهب فنى مناقض لمذاهب غيرها .
وبهذا ظل كل شاعر يقول فى كل موضوع وفى كل مناسبة ما دام غيره من الشعراء قال فيهما ، دون مراعاة لمذهب فنى يسير عليه ؛ والشعر بطبيعة الحال لا يمكن أن يتطور على أيدى من لا يفهمون مذهبهم الفنى أو من لا مذهب لهم .
ولعل مما يتصل بهذا أننا لا نكاد نعثر فى مختلف دواوين
الشعراء على مقدمة يقدم بها الشاعر مذهبا فى الفن يريد تحقيقه فى ديوانه ، وإنما الذى نلاحظه أن الشاعر يحشد فى ديوانه قصائد له من هنا ومن هناك لا يجمعها مذهب معين ، ثم يترك كتابة المقدمة لسواه أو يخرج ديوانه بغير مقدمة وكانت النتيجة أننا لا نجد فى الشعر العربى مذاهب فنية واضحة كالتى نجدها فى الشعر الغربى ، يعمل أصحابها على تحقيقها فى فنهم ، ويعمل تلاميذهم على تطويرها والنهوض بها .
هذه أهم الأسباب التى ترجع إلى الأديب . أما القسم الثالث من الأسباب وهو ما يرجع إلى أشياء خارجة عن الأدب والأديب ، فأهمها الترجمة . ونحن نعرف أن الترجمة فى العصور الإسلامية الماضية كانت موجهة إلى الثقافة العقلية أولا ، وإلى بعض صور النثر الفنى ، ثانيا ، ولم نسمع فى مختلف العصور الماضية عن محاولة لترجمة شعر أجنبى أو كتاب فى الشعر الأجنبى إلى اللغة العربية ، اللهم إلا كتاب الشعر لأرسطو ، وهو لم يترجم إلا لأنه من مجموعة كتب المعلم الأول ، وإلا محاولة لترجمة الشاهنامة قام بها نثرا الفتح بن على البندارى الأصبهانى للملك المعظم عيسى الأيوبى فى سنة ٦٩٧ هـ وإلا بعض محاولات أخرى تافهة كانت كلها عن الشعر الفارسى ؛ كما أننا لم نسمع عن شاعر عربى كان يجيد لغة أجنبية - فيما عدا الفارسية - واستطاع أن ينتفع بها فى شعره فيجدده ويطوره ، على كثرة ما سمعنا عن كتاب أجادوا لغات أجنبية وانتفعوا بها فى كتاباتهم ، وأقرب مثل لهذا عبد الحميد الكاتب الذى ظهرت فى نثره بعض الآثار اليونانية
وإذا فالمسألة ذات ناحيتين : فليس عندنا أثر أجنبى عن الشعر أو فى الشعر ترجم إلى العربية .
ولكن عندنا شعراء أجادوا لغة أجنبية - فيما عدا الفارسية - وانتفعوا بها فى شعرهم .
وكانت النتيجة الطبعية لهذا أننا وجدنا النثر يتطور لتأثره بالترجمة ، فى حين وقف الشعر ولم يتطور تطورا واضحا وقويا
هذه أهم الأسباب التى جعلت النثر أطوع لعوامل التطور من الشعر فى الأدب العربى
( تم البحث )

