البجاه ! البجاه ! ما نزلت مرة بأحد أديرة طور سيناء للفرجة أو المبيت إلا وتحدث إلي الرهبان عن غارات البجاه في الزمن العابر أحاديث طويلة مثيرة يتصنعون فى إلقائها نغمات حزينة لاستدرار العطف على من ذهبوا من نساك طور سيناء ورهبانها ، ضحية طغيان هؤلاء القوم .
وكنت أعجب من شأن هؤلاء الرهبان ، وهم يحاولون جاهدين برطانتهم الأعجمية ، تذكير السامعين ، بمآس قديمة ، قد نسيها الناس جميعا ، رغبة منهم في أن يشتركوا معهم ، في صب اللعنات على هؤلاء البجاه .
ويظهر أنه من كثرة ما ردد الرهبان هذه الأحاديث وأعادوها ، أن أصبحوا يروونها آليا ، من غير تفكير أو تبديل أو تعديل ؛ فألفاظها وطريقة إلقائها واحدة ، لا يحاول الرهبان تغيير شىء فيها خشية أن يأتى مخالفا لما حفظوه منها أو ألقوه .
وكان أوفى ما سمعت من هذه الأحاديث وأكثرها تفصيلا ما رواه لى وكيل دير بلدة الطور ، فقد مكث مدة ساعة ، يقص على بنغمة حزينة رتيبة ، ما وقع لرهبان ديره ، على يد هؤلاء البجاه من قتل ، وسطو ، وتعذيب ، وتشريد . وكان يترجم لى إحدى هذه القصص ، من كتاب موضوع أمامه ، من تأليف راهب اسمه أبونيوس الإسكندري ، شاهد بعينه إحدى غارات البجاه على دير الراية (١) فى نهاية القرن الرابع المسيحي ، وقد نجا أمونيوس هذا من القتل باختفائه تحت كومة من سعف النخيل ، كانت موضوعة في ركن من أركان حديقة الدير ، قال الراهب أمونيوس : (( كان الأباء القديسون ، في هذا الدير ، نامين بكل فضيلة ، راضين بالمسكنة ، وعدم الفنية ، من أجل الرب ، مصابرين التعب والشقاء ، مشتغلين بالصلوات والطلبات ، عابدين
المسيح الآله . وفيما نحن كذلك ، إذ جاءنا جماعة من الأماكن التي على البحر (١) ، وقالوا إن طائفة كبيرة من البجاه ، قد عبروا المحج ، على أطواف من خشب ، من جهة الحبشة ، فلما سمعنا هذا ، احتطنا لأنفسنا ، وصلينا إلي الله أن يفعل معنا ، ما يوافق نفوسنا ، وكان الفارائيون (٣) الساكنون بجوار الدير ، قد صمموا على محاربة البجاه ، من أجل نسائهم وأولادهم وقطارات جمالهم ، فاصطفوا فوق الخيل ، أما نحن فقد هربنا إلي كنيستنا ، التي كان يحيط بها سور ارتفاعه قامتان ؛ ولما وصل البجاه إلي العيون . التقاهم الفارائيون للحرب ، وانتشبت واقعة قرب العيون بين الجبال . وكان رشق النشاب من الفريقين غزيرا كالمطر . ولما كان البجاه أكثر عددا ، ومرتاضين القتال ، فإنهم تغلبوا على الفارائيين . وقتلوا معظمهم . وفر الباقون إلى الجبال ، وأسر البجاه النساء والأولاد ، ثم أقبلوا علينا عدوا كالوحوش الضارية ، ظانين أنهم يجدون عندنا أموالا جزيلة مخبوءة ، فطاقوا بالسور ، وجلبوا وصاحوا بأصوات بربرية ، فحصل لنا كآبة عظيمة ، وحرنا فيما تعمل ، فرفعنا عيوننا إلي الله ، وبكينا بقلب موجع ، وهتفنا كلنا بصوت واحد ؛ يارب ارحم ، ثم وقف أبونا القديس بولس في وسط الكنيسة وقال : أيها الآباء والإخوة لا تحزنوا ، ولا تجبئوا ، ولا تأتوا أمرا يشينكم ، بل انشطوا ، وصابروا الموت ، فيقبلكم الله في ملكه بفرح ومحبة .
أما البجاه فقد اقتحموا السور ، وفتحوا الباب ، ودخلوا إلينا كذئاب برية . وسيوفهم مجردة بأيديهم . فصادفوا أولا راهبا على باب الكنيسة . فسألوه : أين رئيسكم ، فأبى أن يخاطبهم ، لأنهم أعداء الله ، فاغتاظوا من جرأته ، فربطوا يديه ورجليه ، وأقاموه مجردا ،
ورشقوه بالنشاب حتي لم يبق في جسمه موضع إلا أصابته سهامهم ، فلما رأي أبونا بولس هذه الأمور تقدم إليهم ، وقال أنا هو الذي تطلبونه ، فقبضوا عليه ، وسألوه أين أموالك ؛ فقال صدقونى يا أولادي ؛ إنى لم أفتن في عمري كله سوى هذين الثوبين الشعريين العتيقين ، الذين تعاينونهما على جسدى . فشرعوا يضربون عنقه بحجارة ، ويخزون وجهه بمزاريقهم قائلين : هات أموالك . وبعد أن عذيوه ساعة ، ولم يجدهم ذلك نفعا ، ضربوء بالسيف على رأسه . فانشق ذلك الرأس المقدس فلقتين ، وتدلى على كتفيه من الجانبين ، وطعنوه طعنات اخرى في بدنه . ثم دخلوا الكنيسة وهم يصيحون ، ضاربين الهواء بسيوفهم ، ثم أعمارها في الرهبان بصور تشعر منها الأبدان .
ثم إنهم بعد أن قتلوا جميع الرهبان ، وكان عددهم ثلاثة وأربعين ناسكا ، فتشوا كل مكان فى الدير ظانين أنهم يجدون أمتعة وأموالا ، ولكنهم لم يجدوا شيئا . فانصرفوا .
ولما انتهى وكيل الدير من سرد هذه القصة سألته : هل لا يزال هؤلاء البجاه يتغيرون على الأديرة ؟ فقال : لا . لقد انقطعت غاراتهم من زمن بعيد جدا قلت : ولماذا إذا تروون الآن أمثال هذه القصص ؟ فأجاب : ليعلم رهبان الأجيال الحاضرة ، حيث يسود الأمن والسلام . ما نزل بسلفائهم فى الزمن الغابر من شقاء وعذاب فى هذه البقاع المقدسة ، من أجل سيدنا وربنا يسوع المسيح .
هذه القصة وأمثالها ، أثارت فى نفسى رغبة فى معرفة أخبار هؤلاء البجاه ، ومنذ ذلك الوقت لم يقع فى يدى كتاب ، أجد فيه ضالتي المنشودة . ففي كتاب السلوك للمقريزى شذرات عن البجاه لا تغني . وفى رحلة ابن بطوطة أخبار مقتضبة سمعها عن قتال كان ناشبا بين الماليك والبجاه ، عندما ذهب إلى عيذاب للسفر منها إلى الحجاز ؛ ولكن حانت الفرصة في هذه الأيام وأخرجت لجنة التأليف والترجمة والنشر ، كتاب :السودان الشمالي - سكانه وقبائله )) لمؤلفه العالم الجليل الدكتور محمد عوض محمد بك . فقرأت فيه فصلا طويلا عن أخبار هؤلاء البجاه أو (البجه) كما يسميهم الكتاب أحيانا ، وفى هذا الفصل بحث واف .
وشرح مفصل لتاريخهم وعقائدهم واعتقاداتهم وعاداتهم . وقد رأيت إتماما للفائدة . أن أعرض على قراء الثقافة مقتطفات موجزة لما جاء بالفصل المذكور .
يقول المؤلف : " لقد لعب هؤلاء البجه دورا هاما في تاريخ مصر القديمة والسودان ومصر الحديثة ، والساحل الغربي للبحر الأحمر ، والبجه منحدرون من اصل حامي ، ومواطنهم اليوم تتألف من الأراضي الواقعة بين البحر الأحمر شرقا ونهر عطيرة ثم النيل الاكبر غريا ، وتمتد من المنحدرات الشمالية للهضبة الحبشية فى الجنوب إلى نهاية مديرية أسوان فى الشمال . وهذه المواطن أراض فسيحة شاسعة ، وبيئة فيها تذرع كثير في التضاريس الأرضية والمناخ والنبات ، والبيئة قاسية في جملتها ، وفى هذه البيئة تعيش جماعات البجه منذ عصور عديدة ، ومن أشهر جماعاتهم البشاريون (١) فى الشمال الدين يعيشون في بيئة جبلية صخرية قليلة للماء والكلا ، ثم يليهم جنوبا " الامرار " ثم " الهدندوه ثم جماعة بني عامر .
ويقول بعض علماء الأحناس ، إن البجه والمصربين القدماء من سلالة واحدة ، أو سلالات متقاربة ، وهي الأخص سكان مصر الجنوبية ، فالشعان من جنس واحد وإن كانت طبيعة البيئة قد ملكت بالمصريين طريقا وأسلوبا في الحياة . وملكت بالبجه طريقا آخر . وقد ساهم البجه في بعض نواحي الثقافة المصرية ، ومنها الديانة . التي ظلوا متمسكين بها إلى العهد المسيحي .
وكانت قبائل البجه علي سلات ودية مع مصر ، وقد استعان بهم المصريون القدماء في مختلف الأعمال ، وعلي الأخص كانوا يؤلفون منهم فرقا عسكرية تستخدم للبوليس أو للحرب ، وكانوا من الجنود الدين أعانوا المصريين في طرد الهكسوس من مصر .
وعلى الرغم من أن البجه ظلوا محفظين بطاجهم في العهد العربي . فإن رؤساءهم . وكثيرا من عامتهم قد اتصلوا بالعرب ، وشارك الرؤساء - على الأقل - فى النشاط التجاري ، وتزوج كثير من التجار العرب بنساء
من البجه ، وأقاموا بينهم ، حتى اندمجوا فيهم ، ولم يكن من أن يتأثر البجه بالإسلام ، والثقافة العربية تأثرا شديدا . فلم يلبثوا أن أصبحوا جميعا مسلمين لا يدينون بأي دين آخر ، وتأثروا أيضا بالثقافة العربية فأصبح أكثرهم يعرف العربية معرفة تامة مع احتفاظهم بلغتهم الحامية الأصلية ، كما أن اتصالهم بالعرب قد أثر في حالتهم النفسية التي جعلتهم يفتخرون بنسبهم العربي على حداثته . ويرجحونه على نسبهم البجاوي العريق القديم .
وللبجه جهد كبير على تحمل الشدائد وشظف العيش . ويصبرون على الحرمان إذا جاءت سنوات الجهد والمشقة ، ومظهرهم الطبيعي يتفق مع هذه الظروف القاسية ، فقامتهم تمتاز بالتحول والرشاقة ، متوسطة الارتفاع ، والبشرة سمراء تضرب إلى الحمرة ، ووجوههم بالجملة حسنة التقاسيم .
والبجه بوجه عام شعب لا تزال تغلب عليه الصفة العسكرية ، والطبع الحربي الذى أملته البيئة والكفاح للمحافظة على النفس والمال ، وشجاعتهم وقوة احتمالهم مضرب الأمثال ، وسلاحهم الرئيسي هو السيف للهجوم ، والفرفة للدفاع .
والرعى هو الحرفة الأساسية لجميع البجه . ولهذا لا يمارسون الزراعة بوجه عام ممارسة جدية ، ولا شك أنهم منذ زمن طويل جدا عرفوا فائدة الغلات الزراعية ، وعلى الأخص الحبوب ، وحصلوا عليها ، واستخدموها في غذائهم دون أن يفكروا في استنباطها بأنفسهم ، وحسهم أنهم كانوا يحملون عليها بإحدي وسيلتين : إما بالإغارة ، وإما بالبيع والشراء ، والإبل هي أهم الحيوانات عندهم ، وأعلاها شأنا . واتجه البجه في تربية الإبل وجهتين : الأولى تربية الإبل السريعة جسدا ( الهجن ) والأخري تربية الإبل القوية الثقيلة للحمل .
والأمر الذي يلفت النظر في البجه جميعا أنهم لا يلقون إلى البحر بالا ، فلا تصلهم أدنى صلة ، فليست لهم سفن أو قوارب ، ولا يعرفون حرفة الصيد البحري .
والبجاوى جاف الطباع شديد النفور من الناس ، وهم
لا يميلون إلي إنشاء قرى أو مساكن مجتمعة فى ساحة كبيرة . وعزلتهم فى جبالهم وقيافهم تحبب إليهم الحرية وتبغض إليهم أي تدخل في شئونهم ، وكان للمرأة عندهم فيما مضي مكان ممتاز ، ولكنها لم تصبح لها اليوم المنزلة الممتازة التى كانت لها من قبل ، وإن بقيت لها من ذلك بقية في بعض النواحي الاجتماعية . وغذاء البجه الرئيس اللبن والحبوب وقليل من اللحم والسكر في زمن الرخاء ، وعلى اللبن وحده تقريبا حينما ينتابهم الجدب ، والقهوة عند البجه شأن أى شأن ، فهي مثابة الغذاء ، ولها قواعد وأصول يحافظون عليها أشد المحافظة . ولعل مجاورة البجه للحبشة جعل للقهوة تلك المنزلة التي نجدها للشاي عند القبائل الليبية .
