3- لماذا بني هذه الدار؟
ينبئنا التاريخ ، أن معز الدولة كان مبتلي بداءغصال اشتدت عليه وطأته ، وعجز أطباء عصره عن معالجته . ذكر المؤرخ الثبت "مسكوبه" في حوادث سنة خمسين وثلاثمائة أنه " اشتدت علة معز الدولة ، وامتنع عليه البول ، فاشتد جزعه وقلقه ، واستدعي الوزير أبا محمد المهلبي في الليل والحاجب سبكتكين ، فأصلح بينهما عن وحشة قديمة . وبكي وندب على نفسه على عادة الديلم . فلما كان آخر الليل بال دما بشدة ، ثم تبعه رمل ) ١ ( وخف ألمه . فلما كان من الغد ، وهو يوم الخميس لخمس خلون من انحرم ، سلم داره وكراعه وغلمانه إلي ابنه " عز الدولة " وفوض إليه الأمور ، وجمع المهلبي الوزير والحاجب سبكتكين على الوصية به ، وخرج في عدة بسيرة من غلمانه وخاصته ليمضي إلى الأهواز . وكان سبب ذلك استشعاره أن بغداد هي التي أحدثت له الأسقام ، وهي التي أفسدت عليه صحته ، وتذكر أيام مقامه بالأهواز ، وهي أيام شبابه ووفور قوته ، وظن أن الأهواز هي التي كانت تجلب له الصحة وأنها توافقه . فوصي الحاجب سبكتكين والوزير المهلبي بابنه " عز الدولة " وبالجبش وغيره مما كان في نفسه . وانحدر إلي كلواذي ) ٢ ( . فلما صار بها أشار المهلبي بأن
يقيم ويتأمل امرئ ويفكر فيه ولا يعجل ، فأقام بكلوا ذي ، وأخذ في تقدير بناء قصر ، ثم انتقل إلي الشقيمي ١ ( وقدر هناك البناء . ثم انتقل إلي قطر بل ) ٢ ( لأنها أعلى بغداد ، والهواء والماء هناك أصفي واعذب . وعمل على ان يبني من حد قطربل إلي باب حرب ) ٣ ( قصرا . ثم صحا من علته وأبو محمد المهلبي في كل ذلك بعله ويصرف رأيه لعلمه بكثرة المؤن والنفقات التي تلزمه ، وبكراهة الجند والحاشية لانزعاجهم من أوطانهم ومألفهم ، ولكراهية تخريب بغداد وبانتقال الملك عنها . فلم يزل به حتى صرف رأيه . ولما علم أنه لم يكن من البناء يد ، فيجب أن يكون متصلا ببغداد من أعاليها ، ليكون هواؤه وماؤه اصح وأنظف4
فهذه بغداد ، التي استوخمها " معز الدولة " ونسب إليها مرضه ، أبت إلا أن يمكث فيها بتأثير وزيره المهلبي الذي أبدي حكمة في صرفه عن رأيه في الانتقال إلي الاهواز ، وحنكة في تهيئة فكره إلي تشييد دار ، ذاع صيتها في ذلك العهد .
٤ - موقع الدار ؟
اتفقت المراجع الموثوق بصحتها ، على أن الدار المعزية كانت في محلة الشماسية ، فما هي هذه المحلة ؟ وأين كانت ؟
قال ياقوت : " الشماسية " ، بفتح أوله وتشديد ثانيه ثم سين مهملة ، منسوبة إلى بعض شماسي النصاري . وهي مجاورة لدار الروم التي في اعلي مدينة بغداد ، وإليها ينسب باب الشماسية ، وفيها كانت دار معز الدولة ابى الحسين أحمد بن بويه . . وهي أعلي من الرصافة ) ١ ( ومحلة
أبي حنيفة ) ١ (
وقد أوضح ابن عبد الحق عباره ياقوت الأخيرة بعض الإيضاح بقوله انها " أعلى من الرصافة ومحلة الخضيريه ) ٢ ( المجاورة لمشهد الإمام أبي حنيفة ومحلة دار الروم ) ٣ ( " .
كانت الشماسيمة بالجانب الشرقي من بغداد . ذكر الشابشتي في كلامه عن " دير درمالس " أنه " في اعلي بغداد ، بالجانب الشرقي منها ، قريب من الدار التي بناها الديلمي أحمد بن بويه بباب الشماسية . وموقعه احسن موقع ، وهو نزه كثير البساتين والاشجار ، وبقربه أجمة قصب ) 4 ( "
وقال في " دير سمالو " إنه " شرقي بغداد ، بباب الشماسية ، على نهر المهدي ، وهناك أرحية للماء ، وحوله بساتين وأشجار ونخل ، والموضع نزه حسن العمارة .5
والشماسية قديمة العهد . واقدم ما انتهي إلينا من أخبارها المدونة ، يرتقي إلي أواسط المائة الثانية الهجرة . ثم تواثرت أخبارها حتى سنة ٥٢٠ ه ) ٦ ( . فتكون هذه
المحلة قد ظلت عامرة مأهولة بالسكان زهاء الأربعمائة سنة . ثم ضعف شأنها بعد ذلك . وحينما تكلم عليها ياقوت الحموي ) المتوفى سنة ٦٢٦ ه ( ثم ابن عبد الحق ) المتوفي سنة ٧٣٩ ه ( لم تكن شيئا ذا بال بالنسبة إلى ما كانت عليه في سابق عهدها .
وقد اشتهر في محلة الشماسية وفيما جاورها من أنحاء ، مواطن عديدة ، منها : دير درمالس ودير سمالو ، وقد مر بنا ذكرهما . ومنها : " شارع الميدان " الذي كان ممتدا من الشماسية إلي سوق الثلاثاء ١ . و " سوق العطش كانت بين باب الشماسية والرصافة2 و " سويقة خالد " منسوبة إلي خالد بن برماك 3 و " قصر الطين " بناه يحيى بن خالد البرمكى بباب الشماسية ) ٤ (
وذكر ابن النديم في ترجمة سند بن على اليهودي المنجم المأموني ، أنه بني الكنيسة التي في ظهر باب الشماسية في حريم دار معز الدولة ) 5 ( . وحكى القفطي أن هذا المنجم اتصل بخدمة المأمون . وندبه المأمون إلي
إصلاح آلات الرصد ، وان يرصد بالشماسية ببغداد ، ففعل ذلك وامتحن مواضع الكواكب ، ولم يتم الرصد لأجل موت المأمون ) ١ ( .
إن الموضع الوحيد الذي ما زال قائما معروفا في وقتنا من كل ما ذكرنا من مواطن ، هو " مشهد ) جامع ( الإمام أبي حنيفة ) ٢ ( وهو في أسفل الأعظمية إحدي ضواحي بغداد ، على بعد أربعة كيلو مترات من بغداد شمالا .
والمعروف في وقتنا هذا ، أن " الأعظمية " وهي في شمالى بغداد ، أرق هواء وألطف مناخا من بغداد ذاتها أو ما يليها جنوبا ، وهو كذلك كان في الزمان القديم . فقد روي الجوزي أنه في سنة ٣٧٩ ه " انتقل السلطان شرف الدولة ) ابن عضد الدولة البويهي ( إلى قصر معز الدولة بباب الشماسية ، لان الأطباء اشاروا عليه وزعموا ان الهواء هناك أصح ، وكان قد ابتدأ به المرض من سنة ثمان وسبعين من فساد مزاج ) ٣ ( " .
نستنتج من جميع ما تقدم ، ان الشماسية كانت تقوم في اعلي الأعظمية ، اي في البقعة المعروفة اليوم باسم " الصليخ " كما أن الدار المعزية كانت بإزاء ذلك علي ضفة دجلة البسري .
يتبع

