الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 223الرجوع إلى "الثقافة"

من ملاحق كتاب الديارات للمشابشتي :، ٢ - الدار المعزية ببغداد، 5 - بناء الدار وصفتها .

Share

أجمع المؤرخون على أن معز الدولة ، بدأ ببناء ، داره في سنة ٣٥٠ هجرة . قال ابن تغري بردي : إن في هذه السنة " شر عم معز الدولة بن بويه في بناء دار هائلة عظيمة ببغداد ، وخرب لأجلها دورا وقصورا . . وألزم الناس ببيع أملاكهم ليدخلها في البناء " ) ١ ( .

ولكن في معجم البلدان المطبوع ، غلطا قد يكون مطبعيا أو تصحيفا نسخيا ، حيث ذكر سنة البناء ٣٠٥ ه ) ٩ ( . وأول من تنبه لهذا الوهم المستشرق الانكليزي الشهير لسترنج Guy le Strange المتوفي سنة ١٩٣٣ بيد أنه لما حاول تصحيحه ، زعم أن السنة الحقيقية هي ٣٤٥ ه ) ٣ (، وليس هناك ما يدعم هذا الزعم .

غير أن هذه الدار التي بناها معز الدولة " بناء صرف إليه عنايته ، فعظم المجالس وفخم البناء " ) ٤ ( حتى جعل منها دارا " في غاية الحسن والكبر " ) ١( ، لم يكن تشييدها ممكنا في سنة واحدة ، بل إن معز الدولة ) مات ، وهو يبني فيها ، ولم يسكنها " ) ٦ ( . وقد مر بنا أن وفاته كانت سنة ٣٥٦ ه .

كان معز الدولة ، قبل أن يبني هذه الدار ، ساكنا في داره الأخري بسوق الثلاثاء ) ١ ( ، وهي هذه الدار التي قرأنا في غير مرجع أن المستكفي الخليفة العباسي ، اعتقل بها في سنة ٣٣٤ ه ) ٢ ( على ما أوردناه في حاشية من هذا المقال .

ويحدثنا مسكويه أن الوزير أبا محمد المهني ، بعد أن أفلح في حمل معز الدولة على سكني بغداد " أنزله في البستان المعروف بالصيمري ) ٢ ( ، وهو في أعلي بغداد من الجانب الشرقي ، بقصر فرج ) ٤ ( ، وأخذ في عدم ما يليه من العقارات وابتياعها من أهلها إلي حدود ربيعة الدور ) ٢ ( . وكلف أبا القاسم بن مكرم وأبا القاسم بن جستان العدلين بابتياع العقارات المجاورة له ) ٦ ( .

وهكذا ، فانه بعد أن ابتاع الأراضي اللازمة له " اصلح ميدانا ، وبني دارا علي دجلة في جوار البيعة ،

ومد المسناة ، وبني الاصطبلات " ) ١ (

ومن الطبيعي ، أن هذا العمل تطلب من مواد البناء على اختلاف أجناسها الشئ الجسيم ، ما حمل معز الدولة على أن يلتمس هاتيك المواد من مختلف الجهات وبأي وجه كان . ولم يتردد في أن يهدم ما عمره غيره ، فقد " نقض قصور الخلافة بسر من رأي ، وسور الحبس المعروف بالحديد ، وبني به داره بالآجر الذي استعمله وطبخه في الأتاتين " ) ٢ ( .

وما ذكره مسكويه بشأن نقض قصور سامراء ، أوضحه غيره بعض الإيضاح . فقد روي ابن الجوزي أن معز الدولة " نقض المعشوق بسر من رأي وحمل آجره " ) ٣ ( وزاد ابن كثير على ذلك انه " خرب أشياء كثيرة من معالم الخلفاء ، ببغداد في بنائها . وكان مما خرب المعشوق من سر من رأي " )

وبعد أن استحوذ معز الدولة على المواد المطلوبة " وثق البناء ، واختيرت له الآلات والجص والنورة " ) ٥ ( ، وبالغ في الإحكام ، وجلب له البناءون الحذاق المشهورون من جميع البلدان الكبار : من الأهواز والموصل وأصبهان وبلدان الجبل وغيرها " ) ٦ ( . . " فكان العمل في ذلك متصلا وكان الصناع فيه متفرقين " ) ٢ (

ومن غريب ما جري أثناء تشييد هذه الدار ، ما حكاه القاضي التنوخي بصدد غضب معز الدولة على وزيره المهلبى . وإليك روايته ننقلها لطرافتها ولصلتها الوثقى بموضوعنا :

" بعد أن كان ) معز الدولة ( عمل ) على ( بناء مدينة

لنفسه ، وخرج إلي كلواذي ، ليتخذها هناك ، ثم أراد اتخاذها حيال كلوا ذي ، ثم رحل إلي قطر بل وأراد أن يبنيها عندها ، ثم تقرر رأيه على بناء دار بباب الشماسية ، حصينة يستغني بها عن المدينة وتخف عليه نفقتها ، وقدر لذلك ألوف ألوف دراهم ، وزادت النفقة على التقدير أضعافاً ، وكان يطالب وزيره أبا محمد المهلبى بتوجيه وجوه الأموال لذلك مع قصور الدخل عن الخرج ، فتلقي منه عبثا ، ثم كلفه تولي البناء بنفسه وكتابه ، فكان وهم يتولون ذلك . فسعى بعض أصحاب معز الدولة إليهم انهم يشفقون ) أى يقللون ( البناء في السوية ليتعجل بنفقة خفيفة ويسرقون الباقى ، ووقفه على موضع منه كان فيه ساف لبن لم يحكمه ، ومشي عليه بحضرة معز الدولة ,

لأنه ركب إليه ، فانقلعت منه لبنة ، فحمى طبعه وكان حديدا جدا سليم الباطن مع ذلك ، وإذا أخرج حدته وانقضت سورة غضبه تندم على فعله ، ولكن من يقوم على تلك الحدة ؟ فأحضر المهلبى ووقفه على مارآه ، فأخذ يحتج عليه ، فحمى ، وأمر به فبطح وضرب مقارع كثيرة ، ثم قال : اخنقوه ! فجعل في عنقه حبل ، وامسكه ركابيون فوق السور ليشيلوه ليخنق . وبلغ الخبر قواده الاتراك وخواصه ، فبادروا إلي تقبيل الأرض بين يديه ومسألته الصفح عنه ، فأنزل وأطلقه . فمضي إلي داره كالميت ،

وأظهر قلة حفل بذلك لئلا يشمت أعداؤه ويطمعوا في صرفه ويقولوا عليه بانكسار إن بان منه ، ولئلا يبلغ صاحبه أنه مستوحش من ذلك فيستوحش منه ، وكذا كانت عادته أن يشرب في تلك الليلة النبيذ ويدعو الغناء ويجمع الندماء ليري قلة الاكتراث بما جري عليه . فعاد إلى داره وقد قرب المساء ، فدعا بما يأكله ، فأكل وندماؤه معه ، وليس فيه فضل لشدة الألم ، وهو يتجلد ويتحدث . ثم دعا بنبيذ فقالوا له : أيها الوزير ، لو استرحت وطرحت ) البقية في ذيل الصفحة التالية (

نفسك كان أولى من النبيذ ، فليس هذا وقته ، وذموا له من هذا . فأخذ يعزيهم على ما جري عليه ، ويسلبهم وتمثل لي كلامه بهذا البيت :

فإن امير المؤمنين وفصله .. لكالدهر ، لا عار بما صنع الدهر

ثم شرب أقداحا وقام . أخبرني بذلك من حدثه إياه من ندماء أبي محمد عن مشاهدة " ) ١ ( . ) يتبع (

اشترك في نشرتنا البريدية