حينما كتب المؤرخ الإنجليزى المعاصر . ا - ل - راوس - "A L Rowse" كتابه الأخير عن العصر الأليزابينى استقبلته الدوائر الأدبية الناقدة بتقدير كبير وأثنت على منهجه فى البحث التاريخى، حتى قالت فيه مجلة شهرية مشهورة : " إن المؤلف فى هذا الكتاب لم يرض لنفسه أن يكتفى بالكتب والوثائق المكتوبة فحسب . . ولكنه انتقل فى البلاد من مكان إلى مكان لعله يعثر على بعض الدلائل الباقية الدالة على الحياة فى العصر الذى يؤرخ له، محاولا أن يصل إلى صورة حقيقية لأهل العصر الأليزابيتى " .
ولقد ذكر فى هذا الكلام الذى نشر من أشهر قليلة العدد بكلام آخر لمؤرخ عربى لمعشر والحضارة الإسلامية نشر من أكثر من نصف قرن كمنهج للبحث التاريخى عند هذا المؤرخ العربى الذى زود تاريخ الأدب العربى والتاريخ الإسلامى يكتب لا تزال إلى اليوم تعد مراجع عظيمة الخطر فى هذه الموضوعات .
ففى مقدمة الطبعة الأولى لكتاب تاريخ مصر الحديث، المرحوم جورجي زيدان تراه يضع خطة واضحة لهذه المعاينة التاريخية للآثار التى لا يتم بدونها بحت تاريخى . والتى تجعل من تاريخ الموتى قوما أحياء ، فتخلع الحياة على هذه الآثار والمواقع التى شهدت هؤلاء القوم وكانت مسرحا لأعمالهم . ومغدى ومراحا لحركاتهم . فنراء يقول فى عبارته :( وقد عنيت إتماما لمعدات التأليف بتفقد الآثار العربية بنفسى، بإذن من نظارة الأوقاف الجليلة . فزرت معظم جوامع القاهرة وضواحها ، ولاسيما ما كان منها قديما بجامع عمرو، وجامع ابن طولون، والجامع الأزهر، وجامع السلطان حسن، وجامع برقوق، وجامع ثابت باى، وجامع الغورى وغيرها . وزرت ما هنالك من البنايات القديمة كالقلعة وما جرى مجراها، وتسلقت ماصعب مسلكه منها. لا سيما أسوار القاهرة القديمة وأبوابها، كباب النصر ، وباب الفتوح، وباب الشعرية وغيرها .
ومن هذه الأماكن ما قد تداعت أركانه، وصعب الصعود إليه إلا بالمخاطرة. فكثيرا أما كنت أخاطر بحياتى لهذه الغابة . ومن الآثار العربية التى تفقدتها ما عدا الجوامع والمشاهد والتكيات والشوارع قصر الشمع أو دير النصارى فى مصر القديمة ، ودار التحف العربية فى جامع الحاكم بشارع النحاسين، وغير هذه من الأماكن فى القاهرة وضواحيها كالقناطر الخيرية وغيرها .
أما الآثار المصرية القديمة فقد تفقدتها كلها ايضا ولا سيما ما هو منها فى مصر العليا، مبتدئا من أهرام الجيزة بجوار القاهرة إلى ما وراء وادى حلفا آخر حدود مصر . . . كل هذه الأماكن تفقدتها جيدا إتماما لمعدات التأليف)
ومنهج " المعاينة التاريخية" ، قبل الشروع فى كتابة التاريخ هو المنهج السليم الذى تهدى إليه الحاسة التاريخية السليمة التى تتقرى الحقائق بلمس " الأشياء " التاريخية قبل الرجوع إلى الكتب، لأن هذه " الأشياء "عندها من صدق الواقع ما قد تخلو منه حادثة مكتوبة لغرض معين أو نموى فى النفس، وقد تكون الكتب واقعة فى خطأ مقصود أو غير مقصود، فلا يصحح الخطأ إلا " المعاينة" التى تقطع قول كل خطيب .
وإذا أشاد نقاد التاريخ الإنجليزى الحديث بمنهج المؤرخ " راوس " فى كتابه الحديث عن العصر الأليزابينى، فإن لنا أن نشيد بمنهح المؤرخ جورجى زيدان الذى يعتمد على المعاينة، والذى يقلب كل حجر فى سفح المقطم أو فمنه، والذى يتسلق أماكن صعبة المرتقى ليرى مواقعها الحقيقية وليقرأ فى صفحاتها التى عفاها البلى يمض سطور حية تعين أكبر العون على تصحيح حقيقة تاريخية، أو تتفخ الحياة فى الحوادث المسطورة فى الكتب والمؤلفات فتحيلها إلى قطع من التاريخ الحى المتحرك.
على أن هذا المنهج الذى ارتضاه المؤرخ جورجى زيدان لنفسه حين أخذ يكتب تاريخ مصر وتاريخ الحضارة الإسلامية
كان منهج بعض مؤرخى المسلمين الذين لم يكتفوا من الأخبار بالقراءة والسماع، ولكنهم شاهدوا وصححوا بالمشاهدة والمعاينة كثيرا من الأخطاء التى وقع فيها غيرهم ممن لم يأخذوا أخذهم، ولم ينهجوا نهجهم .
فهذا المؤرخ السعودى صاحب كتاب " مروج الذهب " ينادى منذ أكثر من ألف عام بمنهج "المعاينة"، ويعتمد فى المناقشة على المشاهدة والرحلة، ويخلط فى السماع، فتراه مثلا يقف أمام الجاحظ - وهو من هو - فيناقشه فى بعض الحقائق الجغرافية التى ذكرها الجاحظ غير معتمد على رؤية، ولا مستوثقى من خير فيقول : ( وقد زعم عمرو ابن عمر الجاحظ أن نهر مهران - الذى هو نهر السند - من النيل ؛ ويستدل على أنه من النيل بوجود التماسيح فيه . فلست أدرى كيف وقع له هذا الدليل ؟ وذكر ذلك فى كتابه المترجم بكتاب الأمصار، وهو كتاب فى نهاية القتانة، لأن الرجل لم يسلك البحار، ولا أكثر الأسفار، ولا يعرف المسالك والأمصار؛ وإنما كان خاطب ليل، ينقل من كتب الوراقين، أو لم يعلم أن نهر مهران السند يخرج من أعين مشهورة من أعالى بلاد السند من أرض القنوج إلى مملكة بوروه وأرض قشمير " كشمي" والقفندار، والطافر حق يقتهى إلى بلاد المولتان، ومن هناك يسمى مهران ) .
ولعل الحاسة التاريخية قد جاءت إلى المؤرخ السعودى من ناحية رحلاته وأسفارة العديدة، فهو قد يسمع الحكاية هنا والحكاية هناك، وقد تختلف الحكايات عن شئ واحد، فإذا وقع له أن يرى الشئ بنفسه فهنا ينقض الخلاف وتقرر الحقيقة التى تؤكدها فى النفس قوة المعاينة . وهنا يدرك المسعودى مبلغ تخبط أصحاب الأخبار فى أخبارهم، ويقف للجاحظ مرة أخرى وفى موضع آخر كأنما هو راسد له ، فيناقشه فيما زعمه وأورده فى كتاب " الحيوان " من أن الكركدن يحمل فى بطن أمه سبع سنين. وأنه يخرج رأسه من بطن أمه فيرعى . . ثم يدخل رأسه فى بطنها . . ويقول المسعودى بعد إيراد قول الجاحظ : ( فيعنى هذا الوصف على مسألة من سلك تلك الديار من أهل سيراف وعمان، ومن رأيت بأرض الهند من التجار، وكل يتعجب من قوله - يعنى من قول الجاحظ - إذا أخبرته بما عندى
من هذا وسألته عنه، ويخبرونى أن حمله وفصاله كالبقر والجواميس؛ ولست أدرى كيف وقعت هذه الحكاية للجاحظ ؟ أمن كتاب نقلها ؛ أو مخير أخبره بها ؟ ) .
على أن هناك مؤرخا إسلاميا آخر من رجال القرن السادس الهجرى قد اهتم بالآثار وقيمتها فى كتابة التاريخ والاستيثاق منها على حوادثه، وهو عبد اللطيف البغدادى الذى زار مصر فى العصر الأيوبى ودون ملاحظات تدل على الفطنة والوعى التاريخى، والعقلية العلمية فى كتابة التاريخ، فقد لاحظ إهمال المصريين للآثار المصرية وإغفال القيمة التاريخية العظيمة لها، وانصرافهم إلى البحث عن الكنوز المخبوءة فيها، طمعا فى المال، وتحصيلا للغنى ، ولو كان ذلك على حساب هذه الذخيرة التى لا تقوم بمال مهما عظم، فقد شاهد بعينيه المعابد تحطم، والهياكل تخرب والتماثيل تكسر رءوسها أو تقطع أطرافها، ويصف الذين يفعلون ذلك بأنهم متلصصون يدخلون البيوت من غير أبوابها . . ويفسدون صور الآثار إفساد من يرجو عندها المال ويخاف منها التلف، ويقول فى ذلك بنص عبارته : (ومازالت الملوك تراعى بقاء هذه الآثار وتمنع من العبث فيها والعبث بها، وإن كانوا أعداء لأربابها . . وكانوا يفعلون ذلك لمصالح : منها لتبقى تاريخا يتنبه به على الأحقاب، ومنها أن تكون شاهدة للكتب المنزلة، فإن القرآن العظيم ذكرها وذكر أهلها، ففي رؤيتها خير الحبر، وتصديق الأثر، ومنها أنها مذكرة بالصبر ومنهة على المأل، ومنها أنها تدل على شيء من أحوال من سلف وسيرتهم وتوافر علومهم وصفاء فكرهم وغير ذلك. وهذا كله مما تشتاق النفس إلى معرفته وتؤثر الإطلاع عليه . . وأما فى زماننا هذا فترك الناس سدي ، وسرحوا عملا وفوضت إليهم شئونهم، فتحركوا بحسب أهوائهم، وجروا نحو ظنونهم وأطماعهم، وعمل كل امرئ منهم على شاكلته. فهم يحسبون كل علم يلوح لهم أنه علم على مطلب، وكل شئ مقطور فى جبل أنه يقضى إلي كنز، وكل صنم عظيم أنه حاصل لمال تحت قدميه وهو مهلل عليه، فصاروا يعملون الحيلة فى تخريبه . ويألفون فى تهديمه) .
(البقية على الصفحة التالية )
وقد يكون المؤرخون المسلمون أو مؤرخو العرب الذين اعتمدوا على عنصر " المعاينة الآثرية " قلة لا تحاول هذا العدد الجسيم من مؤرخى الإسلام الذين اعتمدوا على الكتب أو الروايات التاريخية التى قد تتضارب فى الواقعة الواحدة تضاربا يوقع القارئ فى حيرة . . ولكن قليلا أيضا من مؤرخى الغربيين هم الذين اعتمدوا على عنصر المعاينة فى كتابة التاريخ . . فإن أغلب اعتمادهم على الكتب والوثائق المحفوظة . وقد أشار المؤرخ "راوس" نفسه إلى هذه الحقيقة حينما قال فى اعترافاته المنشورة حديثا : ( أغلب الذين يكتبون
التاريخ - كما يبدو لى - إنما يسطرون كتبهم نقلا عن كتب غيرهم .
ولهذا لم يكن غريبا أن هذه الكتب يلوح عليها من سمات الموت ما يلوح على الضأن البارد . . كما لاحظ " وايلد" " ليبتس " فى بعض المناسبات) .
ولكن هذه القلة القليلة من مؤرخى العرب فى القديم والحديث تؤكد لنا أن وراء الحقيقة والحق طلابا يلتمسونها حتى فى حفنة من تراب، بدلا من أسطر فى كتاب . .

