الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 322الرجوع إلى "الثقافة"

من وحى التاريخ :، الصلات بين مصر وتونس

Share

ليس أدل على إخاء الشقيقتين " مصر " و " تونس " - إخاء وثقه الماضي البعيد - من أن تكون " مصر " مهدا للحضارة الباقية شواهدها على الزمن تراثا يدفع من شرق البحر الأبيض إلي الدنيا ثروة متجددة من الكمال التالي . وأن تكون إلي جانبها " تونس " مظهرا يتمثل العالم فيه صورة يشهد فيها على الجانب الغربي من هذا البحر أكمل مثل للتمدين القرطاجني العجيب

وإذا كانت مصر ومعها تونس قد أورثتا هذا العالم احفل ما ينطوي عليه سجل الحضارات من ضروب التمدين وعوامل التوجيه النافع ، فذلك لأنهما قد اتيح لها أن تعيشا على كفتي البحر وعلى رأس الصحراء ، وكانهما صدرنا عن بيت واحد له المزاج الذي لا يستطيعه إلا من كان من أهل الدار

وما احسبني أجافى منطق التاريخ إذا أنا انتهيت إلي القول بأن الحضارة العربية في فجرها الأول قد سجلت الحقيقة التي يعرفها كل تونسي ، وهي ان البلاد التونسية عرفت أول ما عرفت من المصريين ، وان هذه المعرفة لم تكن وليدة المصادفة وإنما كانت وليدة الإخاء . فإننا حين نلتمس النقوش المصرية نراها لم تخل من صور إفريقية متى وضعناها إلى جانب الاسانيد المعبرة عنها الفينا حيالها أول رسالة مكتوية عن " البربر " وهم الذين كان يعرفهم الفراعنة باسم " اللو " وما البربر إلا أولئك الذين يتألف منهم أصل الأهل الأفريقيين

ومن الظواهر التي تؤكد اتحاد الشعبين وتلاقيهما على مزاج واحد ، ان الفنيقيين حين ابتنوا مدينتهم قرطاجنة "

عمدوا في تشييدها إلي الأخذ بأسلوب المصريين في فن البناء والنقوش والرسوم ولقد كشفت الحفربات عن هذا التقليد الذي يثبت لنا قدم الصلات بين الشعبين .

فإذا انتقلنا من عهد مصر الفرعونية إلي عهد مصر الإسلامية العربية ، رأينا القطر التونسي تنتهى إليه اضواء الإسلام وافدة عليه من طريق شقيقته مصر ، وكانها تسعي اليه بسرعة البرقي فلم يكد الفتح الإسلامي يدفع إلي العرب في الصدر الأول من كنانة الله في أرضه ثروة يعتز بها الإسلام ، حتى أخذ الفاتحون يتعقبون الشقيقات اللواتي يتصلن بمصر اتصال فكر وراي وعمل . وكانت تونس في طليعة الشقيقات ، فلم يستشعر العرب الفاتحون في الباسها ثوب الإسلام شيئا من الوصب ، ولم يتعرضوا لمكابدة جهود شاقة . ذلك بأنهم وفدوا قوادا وجنودا من مصر إلي تونس ، ولقد تعود التونسيون اقتفاء اثر إحوانهم القائمين على ضفاف النيل ، فأنتجت العادة ومعها مشيئة الله - لهم هداية وتوفيقا .

واستروحت البلاد الإفريقية مع انفاس الإسلام أنفاس إخاء مصري جديد ؟ ففي سائر القرن الأول للهجرة كانت تونس - في غير غصاصة عليها - تابعة للفسطاط ، يقيم عليها امير مصر الولاة والعمال ، ويزودها بالمال والجند . ولقد عمد العرب - بعد أن طاب لهم المقام في تونس إلي التأثر باخوانهم الذين انشأوا على النيل مدينة الفسطاط فشيدوا - هم الآخرون - مدينة " القيروان " التي اصبحت مبعث خير للاسلام ، ومنبع قوة لنشر الفصحى ، ومنبعا لعدد جم من الأعلام الذين تفتخر بهم العروبة مدى الزمان .

وبعد أن انقضي القرن الأول للهجرة ، واستقام الأمر للعرب الفاتحين ، تجلت أذواق جديدة تتصل بالعلم الذي كان مهوي الفؤاد في ذلك العهد ، أعني به فهم القرآن

وطلب الحديث ، لان حاجة الذين اعتنقوا الإسلام إليهما حاجة يلوح لي ان الإسهاب في تصويرها فضول ولغو فأي المناهل يرد التونسيون وأبناؤهم ؟ إنهم كانوا يرون في المدينة المنورة " دار الحديث " ويشهدون في العراق " دار القياس " ويعرفون في مصر مقر المحدثين والفقهاء . فلا غرو ان يرتحلوا افواجا افواجا إلى تلك المواطن ، ليعودوا إلي ديارهم هداة مرشدين . ولقد ارتحل منهم كفاة اعلام " كأسد بن الفرات " و سحنون فكان الفسطاط هو المقر الذي انتهت إليه كثرتهم . لان مصر كانت محشودة بالعلماء المجتهدين ، مثل الراوية الجليل " الليث بن سعد " وكبير تلاميذ " مالك بن انس " اعني " عبد الرحمن بن القاسم " و محمد بن عبد الحكم " و عبد الله بن وهب

وقد كان " الليث بن سعد " أستاذا لمواطننا " ابراهيم بن الأغلب التميمي الذي صدر من تونس إلي مصر قاصدا الدرس ، ثم عاد إلي بلاده وتحت جناحه جارية جميلة اسمها "جلاجل " أهداها إليه استاذه الليث حين توديعه ، فكانت أما لأبناء إبراهيم بن الأغلب جميعا ، ولم يكن واحدا من العامة ، فقد انتهت إليه مقاليد الحكم أميرا على إفريقية في عهد الرشيد ، يحكمها ولا يحد استقلاله بها إلا تلك التقاليد التي كانت تمنح مقر الخلافة ظلا من السيادة ، فكان  ابراهيم أول مؤسس لدولة نونسية عربية هي دولة الأغالبة ، سنة ١٨٤ . ولما فكر امراء بني الأغلب آخر عهدهم بالحكم في أن ينشئوا " دار حكمة " في القيروان ، كان أول ما عنوا به انهم زودوها بكفاة من البنغداديين والمصريين في علوم الطب وفنون الحساب والتنجيم

وما يقال في روعة الإخاء المصري التونسي في عهد بني الأغلب ، يقال أكثر منه على التحقيق في المهد

الفاطمي . فإن عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية سنة ٢٩٦ شيد في إفريقية مدينة " المهدية " ليجعل من الدولة والمدينة تراثا لحفدته الذين استطاع واحد منهم أن يسجل لنا جديدا من الخطوات المقربة بين تونس وضفاف النيل . فمن مدينة المهدية تحرك الأسطول الإفريقي ومعه الجيش الإفريقي ، وعقد لواؤهما لجوهر الصقلي ، فاتجه بهما إلي مصر ففتحها للفاطميين ، وأحكم بهذا الفتح وشائج المقايضة والتبادل . وإذا كان العز لدين الله - يفضل قناطير الذهب التي حملها معه من تونس قد جعل القاهرة شيئا جديدا علي ضفاف النيل ، فإن تونس قد ظفرت من ذلك بكسب عظيم ؛ إذ نقل المعز إلى عاصمة المصريين كثيرا من معالم أختها المهدية التونسية ، " فباب زويلة " هو اسم المهدية القديم ، وهو الآن علم على حي من أحيائها ، و " باب الفتوح " هو الباب الوحيد لمدخل المهدية ، و " باب كتامة حفظ الفاطميون به لقب القبيلة البربرية التي آزرتهم في الفتح . وكذلك الروضة " و الجيزة " فإنهما من أعلام المهدية الباقيات ، وإذا جاز لي أن أذكر الأموال التونسية التي شيد بها المعز جامع " الأزهر " في رابع رمضان سنة ٣٦١ ، فإنه لا يجوز لي أن أغفل ما تزود به التونسيون - وما زالوا يتزودون به - في الأزهر من معارف تهون إلي جانبها ثروة الدنيا جمعاء .

ولقد شاء بعد ذلك ملوك تونس من " بني حفص " و " بني مراد " و " حسينيين " ان يعبروا عن إجلالهم للأزهر تعبيرا ماديا ، فحبسوا عليه الأوقاف الكبيرة ، وزودوا مكتبته بنوادر الكتب ونفائس المخطوطات ، على أن ذلك كله لم يذهب عبثا ، فقد خلد غير قليل من علماء مصر أسماء امراء تونس تخليدا ، فقد حفظ العلامة " الزركشي " في كتابه " أخبار الدولتين : الموحدية والحفصية " صحائف من تاريخ تلك المرحلة ، وأثبت خلالها القصائد والمقالات التي دبجتها براعات " بدر الدين

الدماميني " و " عبد الرحمن السخاوي " و " مرتضى الزبيدي" و "إبراهيم اللقاني " ، وغيرهم كثير

وليس أدل على ترابط الوشائخ بين مصر وتونس من هذه السفارات التي كانت صلات تعارف بين جلة من وجوه القطرين . ولقد بقي لنا من انباء هذه السفارات حشد كبير يباعد ببني وبين قصة ضيق المقام . وحسبي ما اذكره من امر شاعرنا القديم " إبراهيم الرقيق القيرواني " فقد اختلف إلى مصر ، واثارت مشاهدها في نفسه عواطف الحب والإخاء ، فنظم الشعر الطلي يصور فيه مصر تصوير من ملأ الحنين قلبه . ومنه قوله :

هل الريح إن سارت مشرقة تسري

تؤدي تحياتي إلي ساكني مصر

فما خطرت إلا بكيت صبابة

وحملتها ما ضاق عن حمله صدري

تراني إذا هبت قبولا بنشرهم

شممت نسيم المسك في ذلك النشر

ببال أنسناها على غرة الصبا

فطابت لنا إذ وافقت غرة الدهر

ممري لئن كانت قصارا أعدها

فلست بمعتد سواها من العمر

ولقد حفظ لنا التاريخ من أنباء هذا الشاعر ما يدل على مكانته من البلاط القيرواني والبلاط المصري معا ، فقد على معه إلي الحاكم بأمر الله " سنة ٤٠٥ ه - هدايا الأمير ديس الصهاجي أمير إفريقية ، ومعها هدايا أخرى زودته بها أم ملال " والدة الأمير ليقدمها إلي أخت الحاكم ست الملك ، وكانت تلك الهدايا من النفاسة بمكان . فلما أد الشاعر إلي وطنه حمل معه فيما حمل من مصر كتابا دقيقا من " ست الملك " إلي " أم باديس " فيه توكيد لأواصر التي تربط السيدتين ، وتشمل الشعبين .

وهل ننسي نزوح مؤرخ الإسلام الأكبر عبد الرحمن ابن خلدون ، من تونس إلي مصر ، وما لاقاه من الإكبار والحفاوة ، حتى أسندت إليه بوظيفة من أخطر الوظائف واعلاها ، وكذلك التي قبله في مصر التكريم والحفاوة عالم تونس محمد بن عزم " . ولقي مثل ذلك في العصر القريب العلامة الشيخ " محمد بيرم الخامس " رحمه الله . وما يقال في التونسيين النازحين إلى مصر يقال في المصريين الوافدين على تونس ، وما خير الشيخ " حمزة فتح الله " - أول مصحح المطبعة التونسية الرسمية - ببعيد ، وسواء كثير .

والحق ان التاريخ المدني والأدبي والعلمي محشود بما يوضح الإخاء بين القطرين ، ويؤكد التعاون بين الشعبين . والله المسئول ان يديم عليهما بركات المحبة الخالصة والود السرمدي في ظل العروبة المقدسة

اشترك في نشرتنا البريدية