١٦٣ صفحة من القطع المتوسط - الناشر مكتبة الخانجي
هذا هو الكتاب الثاني الذي نقدمه في هذا المكان من الرسالة الغراء، رسالة الثقافة الرفيعة بين الناطقين بالضاد، ومؤلفه هو الأستاذ الشيخ محمد الطيب النجار، والكتاب الأول هو: (الموالي في العصر الأموي) وقد نال به درجة العالمية مع لقب
أستاذ في التاريخ الإسلامي من قسم تخصص الأستاذية بالأزهر.
والأستاذ النجار من علماء الأزهر النابهين، وقد ضم إلى التواضع المطبوع الذي حببه إلى كل إخوانه وعار فيه، العلم الجم
وحبه الدرس والتماس المزيد من العرفان، فكان بذا وذاك قدوة طيبة لإخوانه الشبان العاملين على نهضة الأزهر الحقة.
هذا، وللأزهر منذ سنوات مبعوثون إلى كثير من البلاد الإسلامية، يحملون إليها رسالته، ويفيضون فيها من علمه وثقافته التى اختص بها،ونعتقد أن هؤلاء المبعوثين الأفاضل يدركون تمام الإدراك أن رسالة المبعوث الأزهري إلى أي بلد إسلامي ليست فقط تدريس العلم الذي أوفد من أجله، بل هي قبل كل شيء عامل من عوامل الإحياء والبعث للعالم الإسلامي الذي طال نومه، حتى ليكاد يكون موتاً، وأن يدرس البلد الذي يحل به ويكتب عنه كتاباً يكون مرجعاً عنه في عامة أحواله كما يعمل الغربيون حين يتفرقون في بلاد الشرق باحثين منقبين دارسين.
ويسرنا أن نقرر هنا بأن الأستاذ الشيخ النجار قد فهم رسالته على هذا الوجه، وقد حقق جانباً كبيراً منها بكتابه هذا الكتاب الذي نقدمه الآن للقراء.
والكتاب مجموعة من الأحاديث والمقالات الاجتماعية التاريخية الإسلامية، وكلها تتسم بسعة النقد والتوجيه، وكلها يهدف إلى التمكين للإيمان في القلوب وتحبيب الفضيلة إلى النفوس وإصلاح المجتمع الإسلامي. ويلمس القارئ، وهو يتنقل في الكتاب من موضوع إلى موضوع، أن الكاتب يكتب من كل قلبه، فهو لذا ينفعل ويثور ثورة المصلح الصادق، حين يدعو الأمر إلى الانفعال والثورة.
ولنسمع له حين يتحدث (٨٥ - ٨٦) عن الذين يقومون بما أمر الله من شعائر لا تكلفهم شيئاً من المال، فإذا جاء من يطالبهم ببعض ما عليهم للفقير ولوا فرارا:
(وترى الرجل منهم وهو يمشي على الذهب، ويتبختر ويختال بين الحرير والفراش الوثير، ويبعثر الأموال لإشباع الشهوات الدنيا، ومع ذلك يضن بالمال اليسير على البائس الفقير؛ وإذا ما حاولت أن تستصرخ همته الوانية نحو إغاثة المعوزين،
أجابك في تبجيح واستهتار (وما من دابة إلا على الله رزقها) وكأنما يظن أولئك السفهاء أن الله سينزل على الفقراء مائدة من السماء! فيا للعجب، ويا لله لهذا المنطق السقيم والطبع الخبيث اللئيم!).
ونرى الكاتب الثائر في أمثال هذا الموطن، يعود إلى طبعه من الأناة والتريث والهدوء حين يتناول موضوعاً من الموضوعات التاريخية، فيبحثه من أصوله بحث العالم العميق النظرة، ومن باب التمثيل لهذا، نذكر من حديثه عن توزيع العطاء بين المسلمين في عهد الرسول والخلفاء الراشدين (ص٧٦ وما بعدها) إشارته إلى نظرية أبي بكر في التسوية بين المسلمين جميعاً، ورده على من كان يؤثر تفضيل أهل الفضل والسابقة في الإسلام بقوله:
(أما ما ذكرتم بين الفضل والسوابق والقدم، فما اعرفني بذلك، وغنما ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه. وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة)، ثم يعقب بنظرية الفاروق التي تقوم على تفضيل أهل السابقة في الإسلام، وفي هذا يقول قولته المأثورة: (لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه) ، وقد سار على هذه النظرية عثمان وعلي بعد الفاروق رضوان الله عليهم أجمعين.
على أني بعد هذا كله، أختلف تماماً مع الأستاذ الكاتب في بعض ما ذكره في موضوع: بين العلماء والملوك ص٩١ وما بعدها، إنه يقرر أن علماء الدين ورجاله قائمون حق القيام بما عليهم، ما داموا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيما يكتبون ويتحدثون؛ وما داموا ليس لهم شيء من السلطان التشريعي والتنفيذي. لا، يا أخي!
يستطيع العلماء ورجال الدين أن يغيروا إلى حد كبير جداً مما نحن عليه من آثام دينية ومظالم اجتماعية؛ لو تجردوا من طلب الدنيا وآثروا ما عند الله على ما عند أولي الأمر وأصحاب الجاه من الدنيا وزينتها؛ ولنا فيما صنع ويصنع آية الله الكاشاني في إيران دليل أي دليل! بل لنا فيما صنع بعض أسلافنا من رجالات الأزهر الذين لم يبعد بهم الزمن، الدليل الحاسم على قوة أثر الدين ورجاله إن تجردوا حقاً لله وباعوا أنفسهم في سبيله
ابتغاء رضوانه!
وبعد! فالكتاب أثر طيب للكاتب الفاضل؛ يحسب له عند الله وعند الأمة؛ وهو دليل على فهمه لرسالته وعلى عمله للخير والإصلاح، وهو مع هذا ينضح بالإخلاص وحب الخير والعمل له، ولا عجب فهو من وحي البلد الأمين! نفع الله به وبكاتبه، وجزاه خير الجزاء.
