أخي صدقي. . . . . . إنك لتعلم رأيي في دموعك هذه التي نظمتها قصائد . تعلمه من هذه الانفعالات التي كنت أحاول أن أخفيها عنك فتظهر ، وأنت تسمعني هذه القصائد قبل نشرها فأسمع، وأنا أحس أنك تعيش في أثناء قراءتها وتتألم!
ولقد كنت أستزيدك منها كلمات هممت أن تطوي أوراقك الحبيبة في صدرك، وأنت تضمها إليك ضمة الحب والأسى، ريثما تزدرد عيناك دمعة ندّت، فلم تشأ أن تطلقها على سجيتها، لأننا لسنا وحيدين، بل حولنا الناس في المقهى أو في الطريق!
ولكن الذين يعرفون مثل هذا الألم ويقدرونه نادرون مثله في هذا الوجود. وأنت الذي تقول في صدق مفجع حزين:
كنت أشفق عليك أن تقرأها، وكنت أستزيدك من قراءتها. . . لأنني أعلم - وقد جربت من قبل تجربة شبيهة بتجربتك في الأم الصديقة - أن هذا الألم النبيل الكريم الذي تحسه وأنت تستعيد هذه الصور العزيزة، هو ألم كذلك عزيز مريح! والألم النبيل الكريم يا صديقي نادر في هذه الدنيا الحافلة بشتى الآلام! وما أحوج الإنسانية إلى مثل هذا الألم بين الحين والحين، يظهرها وينقيها، ويرفعها من ثقلة الأرض، ويطلقها ترفرف في السماء
كأنيَ بالأحزان غّيَرنَ طابعي ... وأن بوجهي ما تجن أضالعي
ظلال جحيم من دخان ولاعج ... وأشباح تعذيب دوامٍ دوامع
وإلا فما للناس يجتنبونني ... وقد كنت منشوداً بتلك المجامع؟
وإني لألقاهم كعهدي مرحباً ... وأبسط كفي في سلام مسارع!
أفرّج ما بين الشفاه تبسما! ... وأدعو أساريري وأجلو مطالعي!
وأضحك أحياناً وأظهرنا جدي! ... وآخذ في أسمار غِرّ وخالع!
فما لهم لا يطمئنون؟ ما لهم؟ ... وضحكي عالٍ مسمِع ذو قعاقع
ابِشْرِيَ غير البشر في عين ناظر! ... أضِحْكَي غير الضحك في سمع سامع؟
أجل صدقوا، مذ مُتِّ يا سرَّ فرحتي ... طُبعتُ كتمثالٍ على الحزن فاجع
أجل يا صديقي، لأن الناس في هذا الزمان يريدون أن يضحكوا دائماً، ويا ليتهم يعرفون كيف يضحكون! أما أنا فلست بناصح لك أيها الصديق - كما لم أنصح لك في فورة الألم - أن تتسلى، فما أرخص السلوى في الحياة، وما أعز الألم الصادق النبيل؟ وما أفدح الخسارة حين نمسي ونصبح، فإذا أيدينا خالية من هذا الألم الذي يربطنا بأعز أحبابنا، ويصلنا بذلك الماضي الذي لن يعود وإنني لأقرأ ثم أقرأ في احترام بالغ قصيدتك (تساؤل) :
أتغلبني هذي الحياة على حزني .
.. فاصبح مثلوج الحشى ضاحك السن؟
أيأتي زمان تخطرين بخاطري ... فلا يسبق الدمع الهتون إلى عيني؟
أيجري لساني باسمك الحلو صادحاً ... مبيناً فلا يومي إليه ولا يكنى؟
وقد كان في حلقي يجف ويلتوي .
.. ويهمس مبحوح الصدى مجهش اللحن!
أيحلو لطرفي أن يطالع صورة .
.. لحسنك من بعد الفجيعة في الحسن؟
وقد كنت أخفيها وكانت بناظري .
.. إذا عرضوا عفوا - كغاشية الدجن
أيخلو مكان من خيالك ماثلا
... بكل مكان - أينما سرت - أو ركن؟
ويطغى على نفسي شعور وفكرة .
.. ولم تشركيني في شعوري وفي ظني؟
ويشغلني شيء ولو بعض ساعة ... فلا أنت في قلبي ولا أنت في ذهني؟
نشدت زماناً يورث الناس سلوة ... ليكفينني برد السلو ويستأتي
بديلي منك الحزن لم يبق غيره ... فلا حبذا السلوان غبناً على غبن
وإني لأستحييك إن غب مدمعي ... وأحزن يوماً إن غبت على حزني
إنك لغني يا صديقي بهذا ال ... كنز من الألم الرفيع النبيل
فكن أمينا عليه، فمثله نادر في هذا الوجود!
