الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 745الرجوع إلى "الرسالة"

من وراء المنظار، ،

Share

أوشكت أن تنشق على الأفق الشرقي كلمة الصباح الوردية  عن جبين الشمس، وأنا جالس في مصلى على حافة ترعة كانت  تفهق بذلك الفيض الحبشي الذي حمله النيل من هضبات وادينا  الحبيب؛ وكانت تحجبني عن الطريق العريض على الضفة الأخرى  للترعة أغصان الصفصاف المتهدلة التي تمس الماء فتبدو كأنما تحنو  على هذا النضار الغالي؛ وجلست بحيث أتبين المارة في يسر من  خلال الصفصاف الحاني ولا يكاد يتبينني أحد إلا في مشقة. . .

ورحت أرقب طلوع الشمس على الأفق، ولعلي إنما طلبت  الفضاء في السماء حيث غطت الفضاء على الأرض عيدان الذرة  وقد استطالت واستغلظت على سوقها وأخرجت سنابلها، وعيدان  القطن وقد طالت فروعها وتدلت زهراتها، فلم يبق أمام ناظري  على الأرض إلا ذلك الطريق القريب على الضفة الأخرى للترعة  تتقاطر فيه أسراب الصبايا عائدات بجرارهن من الترعة الكبيرة  في هذه البكرة الرخية، خفيفات تتماوج قدودهن الممشوقة  الناهدة تحت الجرار الثقيلة الطافحة بالفرات العذب الذي  يجري به النيل. . .

وجاءت فتاتان فآثرتا أن تملآ جرتيهما على مقربة من المصلى  فكنت أراهما من حيث لاترياني، أما إحداهما فما لبثت أن عرفتها  فهي بهيجة بعينها!. . . بهيجة تلك البنية الريفية التي ما كنت  ألقاها وهي بين العاشرة والثانية عشرة إلا استوقفتها وضاحكتها  والتي كنت احدث نفسي يومئذ بما سوف يكون لها  من فتنة وسحر. . .

وها هي ذي في الثامنة عشرة أو فوقها قليلا شمس يضئ  جبينها الأبلج كما تضئ شمس الأفق، قد أفرغت فيها الطبيعة  الريفية سحرها إفراعاً كما يصنع الفنان بدميته حين يريد أن يبلغ بها  منتهى قدرته؛ وملأت ناظري من خصرها الدقيق وردفها المليء

 وصدرها الناهد؛ وشمرت عن ساعديها وكشفت عن ساقيها  لتنزل على حجر في الماء، فما حسبت ساقيها وذراعيها لولا تحركها  وتثنيها إلا صنعة فنان بالغ في تسوية مرمره ليتحدى به الطبيعة  أما وجهها فما تغنى اللغة عنه فلن يتصور جماله إلا أن يرى. . . وأما صاحبتها فسمراء لعوب في وجهها وفي هيكلها وفي  حديثها ما نسميه خفة الروح، وهى لا تفتأ تضحك وتداعب  رفيقتها ولا تزيد بهيجة على أن تبتسم ابتسامة طفيفة لا تلبث  أن تنطفئ. . .

وحيرني هذا الهم في وجه بهيجة، فعلى فمها الرقيق وفي  عينيها الواسعتين الزرقاوين الطويلتي الهدب، خيال الألم والحزن  الدفين، وفي خديها شئ من الشحوب لولا تلك الحمرة الشديدة  التي تمتاز بها صفحة هذا الوجه. . .

وقالت فاطمة - وهذا اسم صاحبتها كما تبينت - تحدث  بهيجة وهى فوق الحجر يغطى الماء ما فوق خلخالها قليلا:  أأدفعك يا بهيجة في الماء فتغرقين وتلتهمك الجنية؟ وقالت بهيجة  ليتني أغرق فلن ينجيني إلا الموت!

وعجبت مما أسمع وازددت تطلعاً إلى معرفة ما يحزنها فما أشد  ما يؤلم النفس مرأى الجمال الحزين، وأنصت إلى فاطمة وقد  ألقى في روعي أنها سوف تكشف هذا السر. . .

وقالت فاطمة، وقد خرجت صاحبتها من الماء بعد أن ملأت  الجرتين وجلست مستندة إلى جذع شجرة: فيم هذا الهم يا أختاه  وغداً ليلة الحناء؟ وحاولت بهيجة أن تبتسم، فما افتر ثغرها الجميل  حتى انطبق، وامتلأت مقلتاها الساحرتان بالدمع، وتسايل  الدمع فجرى فوق خديها، ثم دفنت وجهها في كفيها وأجهشت  إجهاشة كادت تطلق الدمع من عيني. . . . وما أيسر ما ينطلق  دمعي فلا أمسكه إلا بجهد. . .

وأمسكت فاطمة من الضحك وراحت تهدئ صاحبتها  وتقولك لعل الخير فيما تكرهين، وما عيب حسن وهو ابن الجمل  والناقة، في بيته الخير وزوجات اخوته من أحسن البيوت وإن  لم يكن جميلات، وسوف تكونين أنت زينة الدار. . . وبأي  شيء يمتاز إبراهيم عنه؟ وكيف تقوى الواحدة منا على مخالفة  أبيها؟ رأي أبوك أن يزوجك من حسن فهل تعصينه؟ وما  

جدوى البكاء وقد صرت في عصمته؟ وأثار كلام فاطمة حزنها كله فاسترسلت في بكائها وصحب  هذا البكاء أنين متقطع، كأنما كان ما ألقى في سمعها من كلام  طعنات خنجر شاعت في جسمها ففي كل موضع منه طعنة. .  

. ونظرت في وجه فاطمة تحسب أنها من أعدائها، ورأيت في  وجهها كأنها تريد أن تري فاطمة ما تعتزم عليه من عصيان. . .

ولمحتني فاطمة من خلال الصفصاف فغمزت صاحبتها وهمست  في أذنها؛ ومسحت بهيجة عينيها بذيل ثوبها الأبيض الذي  سحبته من تحت ردائها الخارجي الأسود، وأصلحت الفتاتان  جرتيهما ووضعتاهما على رأسيهما، ومر رجل فأعانهما على حمل  جرتيهما وانطلقتا صوب القرية. . . . ولاحظت على بهيجة أنها لا تكاد تقوى على حمل جرتها، ٢٩٠٣٠

 فكانت خطواتها أثقل من خطوات صاحبتها، وكان عودها اللدن  يتثنى من إعياء لا من عجب تحت جرتها الثقيلة، وما زلت أتبعها  بنظراتي حتى غيبتها عني في منعطف عيدان الذرة. . .

وبقيت ساعة يكرب نفسي ما يخزن بهيجة، كما تكدر  خاطري طيوف منكرة سوداء من السم والحريق والقتل وإتلاف  الزرع من جرائم الريف يمثلها لي هذا السبب الذي سمعته بأذني؛  وطاف برأسي الطلاق والنفقة والهجر والخصام وبيت الطاعة  والمعارك بين الأسر، بل ما روعني من صور الخيانة والفجور  وغيرها من أفعال الظلام، وما تجره في أعقابها من شر وانتقام.  كل أولئك مثلته لي ثورة بهيجة. . .

اشترك في نشرتنا البريدية