الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 683الرجوع إلى "الثقافة"

من يوميات كاتب، اللغة العامية في الحوار القصصى

Share

اعترف أبي ما من مرة شرعت في كتابة قصة أو صورة أدبية تحتم وجود حوار بين أشخاصها إلا وقعت في حيرة كبيرة : أأجري هذا الحوار باللغة الفصحى كما يقرها مجمعنا اللغوي الموقر وكما دأب أغلب القاصين عندنا على الكتابة بها في هذا المجال ، أم أجريه باللغة العامية التي يتكلم بها الناس عادة ويتفاهمون ؟ ! حوار بين رجل وامرأة في الطريق أو في البيت ، حوار بين صبيين ، حوار بين سيد وخادم ، حوار بين متحضر وفلاح ، حوار بين عالم جليل وطباخ ، حوار بين حشاشين ، حوار بين متهم ومأمور قسم . . بل حوار بين لغوى ولغوى آخر أو بين أديب وأديب أو بين اديب وشخص آخر لا يمت إلى الأدب بأية صلة ... ألا بد أن تجري هذه المحاورات ، في القصص التي تحتويها ، باللغة العربية الفصحى ؟ ! إني لأعجب ؛ ويجعلي هذا العجب أتساءل في الدور الذي " يجب " أن تلعب اللغة الفصحى في حياتنا الأدبية فلا تتعداه .

أنا أفهم أن يكتب كتاب أدبي يقصد به البحث الأدبي أو التحقيق الأدبى باللغة العربية الفصحى ، فهذا مجالها ، وأفهم أن يكتب كتاب علمي يقصد به البحث العلمي أو التحقيق العلمى باللغة العربية الفصحى ، فهذا مجالها أيضا ، وهكذا في كتب التاريخ والفلسفة والفنون وما إليها ؟ ولكني لا أفهم مطلقا أن تكتب قصة ، طويلة كانت أو قصيرة ، فيدور فيها حوار بين أب وابن مثلا في بيئة مصرية خالصة باللغة العربية الفصحى كما يقرها مجمعنا اللغوي الموقر وكما دأب أغلب القاصين عندنا على الكتابة بها في هذا المجال .

ولأمض في التساؤل فأقول : ماذا تعنى القصة وما المراد منها ؟ القصة عندي هي تصوير مجتمع ما ، أو فرد أو أفراد ما ، في مكان ما ، في زمن من الأزمنة تحت ظرف من الظروف ؛ هذا تعريف أرجو أن يكون كاملا شاملا ، وهو على ما هو عليه واضح لا يحتاج إلى شرح . القصة هي (( تصوير )) ... تصوير ماذا ؟ تصوير مجتمع ما ، أو فرد أو أفراد ما ... أين ؟ فى

مكان ما ... ومن ؟ في زمن من الأزمنة ... تحت ظرف من الظروف ، فماذا نجد إذا حاولا تطبيقي هذا التعريف على قصصنا اليوم ؟ لن نجد أركان هذا التعريف كاملة ، وقد أهمل واحد منها أري أن له أهمية كبري في الآداب العالمية كلها ، ألا وهو اللغة العامية في الحوار القصصى .

إذا طالعت قصص وروايات تشالز ديكنز مثلا لقرأت نفس اللهجة واللغة العامية الدارجة التي كان يتحدث بها أشخاص هذه القصص كما نطقوها ، كما خرجت من أفواههم في الحقيقة ، لا كما كان يمكن لديكنز نفسه أن يستنطفها إياهم بلغة صحيحة فصحى . عند ديكنز ، وعند أمثاله من القصصيين نجد أركان هذا التعريف الذي أوردته منذ حين كاملة ؛ فالقصة تصوير مجتمع وأفراد مجتمع وأفراد ((يتكلمون)) بلغة معينة في مكان معين وزمن معين ... تحت ظرف من الظروف .

أمامي خمس من أقاصيصنا وقصصنا ورواياتنا المصرية ، لم أخترها اختيارا ولكني انتزعتها من رف كتبي بالمصادفة بقصد البحث الخفيف والمقارنة . سأقلب في صفحاتها وسأنقل هنا بعض مقتطفات منها كما تأتي بالمصادفة أيضا .

١ - من أقصوصة فات القطار . محمود تيمور . مجلة الهلال ، عدد فبراير ١٩٥١ :

بين غلام المراسلة ووكيل البريد :

- الم تسمع بالخبر يا افندى  ؟ - أي خبر يا ولد ؟ - نقل حضرة الناظر . - نقل حضرة الناظر ؟ كيف ؟... من أين علمت بالخبر ؟

- من المحطة . ثم : بين وكيل البريد وناظر المحطة : - أي خير هذا الذي سمعته ؟

- هذا ما كان . . تلقيت أمرا بنقل عاجل . سأرحل في الغداة .

٢ - من أقصوصة : الباب الذهبي . إبراهيم المصرى ،

في كتابه نفوس عارية بين موظف وزوجته :

- أليس هذا حقها ؟ - أنا لم أقل إني سآكل حقها - إذا كان يجب أن تدفعي . - كنت أريد أن أريها .

- وماذا فعلت ؟ هل سرقت ؟ هل طلبت أكثر من حقها ؟ لقد اتفقتما أمامي على أجرة الفستانين ، ولقد أعطيتك المبلغ ، وأملك تذكرين ، فأين ذهب ؟

٣ - من قصة : من النافذة . إبراهيم عبد القادر المازني . مجموعة اقرأ :

بين صبي حلاق وعاملة في مصنع : - أين كنت ؟

- ياله من سؤال ! وأين أكون إلا حيث تعلم ؟ وأين كنت أنت ؟ ولماذا تركت الدكان ؟ وما هذا العرق المتصب ؟!

٤ - من رواية : دعاء الكروان . طه حسين : بين فتاتين فلاحتين من الأقاليم :

- ماذا فعلت إذا ؟ وما هذا الشر الذي دفعت إليه ؟ وما هذا اليأس الذي تغرقين فيه ؟ وما هذا الهم الثقيل الذي صب علينا صبا ولم نكن تنتظره ولم نتوقع له مقدما .

- لست أدري أأحدثك بذلك أم أكتمك إياه ! إنى لأعتدي على سنك إن تحدثت إليك ، وإني لأعرضك لمثل ما أنا فيه إذا كتمتك الحديث .

* - وأخيرا . من رواية : الرباط المقدس . توفيق الحكيم :

بين كاتب مفكر وامرأة عابثة

- هناك أمر يحسن أن أنبهك إليه . - ما هو !

- سوف يدعوك بالضرورة زوجي إلى زيارتنا . حيث يقدمك إلي ، فحذار أن يبدو عليك ...

- أيتها السيدة ؛ لن أسمح لهذا العبث أن يمتد إلى أبعد من هذا . إنك من غير شك تعبثين وتلعبين . وأنا الذي أحسنت الظن بتصرفك ...

- ما الذي حدث مني ؟ ما الذي أغضبك ؟ - عجبا ! ألا تعرفين ماذا أغضبني ؟ - أتتهمني بالعبث واللعب ؟

وماذا أسمى طلبك إلي أن امثل دورا روائيا يوم يقدمني إليك زوجك ؟ أنظنين أن رجلا جادا مثلي خليق أن يفعل ذلك ؟ .

هذه خمس مقتطفات قصيرة نقلت الاثنتين الأوليين منها من أقصوصتين والثالثة من قصة والاثنتين الأخيرتين من روايتين . ولأمد من عمري خمسين سنة أخرى ، أي لأسبق الزمن بنصف قرن ولأتوجه إلي دار الكتب ، ولعلها أن تكون عندئذ قد نقلت إلي مكان قريب بوسط البلد وفي مبني آخر اكثر لياقة وفخامة واتساعا مما هي عليه الآن ، ولأستعر كتابا لتوفيق الحكيم وليكن الرباط المقدس )) مثلا ، ولأقرأ هذا الأثر القديم الباقي ، ماذا سأجد سأجد الكاتب المفكر ، بطل الرواية ، يتكلم العربية الفصحى - وله العذر - ولكنه يتكلمها مع من . مع امرأة متزوجة لعوب . عندئذ سأتساءل : أكان الناس يتكلمون هكذا في سنة ١٩٥٠ أو ما حولها : الأديب والمرأة اللعوب وزوجها والبكبائي والخادم وغيرهم وغيرهم ، بلغة عربية فصحى ! عجيب ! عندئذ سأقول : ربما وجدت بغيتي عند طه حسين . هات كتابه (( دعاء الكروان )) ؛ وعندئذ سأرتد في ذعر ، هذا أعجب ؛ فيلوح لي أن كل سكان مصر من بنين وبنات وشباب وشيوخ من مختلف الطبقات ومتباين الهن كانوا يتلقون علومهم على ما أري في القسم العربي بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول ! أنري إلي هاتين الفلاحتين من الأقاليم تتحدثان في لغة عربية فصحي مثالية في الفصاحة ! وسأعرج على رواية من رواياته الأخرى : " شجرة البؤس " لأري أني مازلت في موقفي حائرا ، فسأجده بصور طبقة متوسطة من الناس بالقاهرة قبل قرن من الزمان يدور الحديث أو الحوار بين شخصياتها بنفس اللغة العربية الفصحى التي قرأتها في الرواية السابقة . عندئذ سأعود ولم أعرف كيف كانوا يتكلمون حقيقة أبطال هذه الروايات في الواقع في منتصف القرن العشرين أو مستهله مثلا .

إني لأتساءل : ماذا لو أن المازني أجري الحوار الذي نقلته إلى هذه الصفحات . باللغة العامية الدارجة كما حدث . فعلا أو كما كان يمكن أن يحدث فعلا بين صبي الحلاق والعاملة في المصنع ، فيكون كالآتى :

كنتي فين ؟ - أما سؤال ! وحكون فين إلا في الحته اللي أنت

عارفها ( أو : ف المكان اللي انت عارفه ) ؟! وأنت كنت فين ؟؟ وليه سبت الدكان وإيه العرق ده كله اللى نازل منك ؟

أقسم أني كقاريء ، أحب هذه اللغة العامية الدارجة التي تدور هكذا بين هذين الشخصين دون كلفة ، ولا ((تنمر)) والتي أقرأها فأحس بأتي أقرأا عن أناس حقيقيين عاشوا حقيقة أو كان يمكن أن يعيشوا حقيقة في زماننا وفي مكاننا .

وماذا لو أن إبراهيم المصري أجري الحديث القصير الذي نقلته إلي هذه الصفحات . . باللغة العامية الدارجة كما حدث فعلا أو كما كان يمكن أن يحدث فعلا بين زوج وزوجته ، فيكون كالآتي :

هو ده مش حقها ؟ - أنا ما ألتش أني حكله عليها . - معني كده أنك كان لازم تدفعى . - كنت عاوزه أربها .

- وإيه اللى عملته ؟ هل سرئت ! هل طلبت أكثر من حسابها ؟ إنتو إتفأنو أدامي علي أجرة الفستانين ، وأنا أديتك المبلغ ، ولعلك فاكره ، فراح في ؟

أقسم للمرة الثانية أني كقاريء . أحب هذا الحوار البسيط " الدغري " الذي يجري بين زوج وزوجته دون أن يتلكأ عند " هذا ، وماذا ، واتفقتما . )) هذا الحوار الذي أقرأه فأقول إن هذين الزوجين موجودان فعلا ويعيشان حقا بين ظهراتينا .

وماذا لو أن محمود تيمور أجري الحوار القصير الذي نقله إلى هذه السفحات باللغة العامية الدارجة كما حدث فعلا أو كما كان يمكن أن حدث فعلا بين غلام المراسلة ووكيل البريد وبين الأخير وناظر المحطة ، فيكون كالآتي :

مادرتشي يا أفندي ؟ - إيه يا ولد ( أو : واد ، أو : وله ) ؟ - حضرة الناظر اتنقل .

- حضرة الناظر اتنقل ؟ إزاي ؟ . منين عرفت ( أو : مين اللي آل لك ) ؟

- م المحطة . ثم : - خبر إيه ده القي سمعته ؟

- أهو ده اللى حصل . . إتلقيت أمر بنقل عاجل ( ولنترك كلمتي (( نقل عاجل )) كما هما دون أن تمسهما أي

مس لأنهما أصبحنا (( كليشيه )) انطبع علي ألسنة موظفي الحكومة واندمج دون أن يدروا في لغتهم العامية الدارجة ) حسافر بكره .

وأقسم أيضا هنا أنه لا أحب عندي كقاريء . من هذا الحوار الساذج الطبيعي الذي يجري بين غلام المراسلة ووكيل البريد وبين الأخير وناظر المحطة دون أن يتعثر ، أي الحوار عند (( ألم ، نقل ، كيف ، من أين ، هذا الذي ، سارحل في الغداة . " هذا الحوار الذي أقرأه فأقول إن هؤلاء الأشخاص موجودون فعلا ويعيشون حقا بين ظهراتينا .

ولنحاول نفس المحاولات في حوار طه حسين وحوار توفيق الحكيم على التوالي :

- يعني إيه اللي عملتيه ؛ وإيه الشر ده اللي وقعتي فيه ، وإليه اليأس ده اللي انت غرقانة فيه ؟ وإليه الهم التقيل ده اللي نزل علينا ومكناش مستنينه ومكناش متوأعينه ؟

- مش عارفة أؤول لك عنه واللا أخيبه عليك ! فأنا أعتدي على سنك لو قلت لك ، وأنا أعرضك للى أنا فيه إذا خبيت عليك . (كل هذا في لغة عامية تظهر فيها لهجة الإقليم الذي عاشت فيه الفتاتان وانطبع بها لساناهما .

ثم :

- فيه حاجه يبأى أحسن إذا نبهتك لها . - إيه هي ؟

بالضرورة حيدعوك زوجي ( أو : جوزي ، إذا أردت الدقة ) لزيارتنا . وطبعا حيأدمك لى ، فإوعي يبان عليك حاجة .

- أينها السيدة ( كما هما ، أولا لأن قائلهما كاتب مفكر ، ثانيا لأني لم أجد ما يقابلهما بالعامية) أنا مش حسمح للعبث ده أنه يمتد لأبعد من كده . أنت من غير شك يتعبثي وتلعبي ، وأنا اللي كنت أحسن الظن بتصرفك .

- إيه اللي حصل مني ؟ إلى غضبك ؟ - عجيبة ! يعني مش عارفة إيه اللي غضبي ؟ - بتتهمني بالعبث واللعب ؟

- وإبه معنى طلبك أن أمثل دور روائي يوم سيئأدمني جوزك ؟ هل تظني أن راجل جد زيي ممكن كده ؟

تعجبني هذه المحاورات العامية الدارجة لأني أري فيها الناس حقيقة وأتصورهم على هداها . أعتقد أن لغة المتحدث

ولهجته في الحوار القصصي تساعدنا على فهمه اكثر مما يساعدنا وصفه بقلم القاص نفسه .

هذه مشادة وقعت بين بائعي جرائد في الطريق العام وتدخل فيها عسكري المرور ليفرق بينهما :

- إيه الحكاية انتو لتنين ؟ - الواد ده شتمني مرتين من غير سبب . - آل لك إيه ! - يا ابن الكلب .

- طب معلش ، وكل واحد يروح لحاله والمسامح كريم ! عندي أن السؤال (( إيه الحكاية ائو لتنين ؟ )) به معنى يمكنني الإحساس به على حقيقته أكثر ما يمكنني الإحساس بمعنى السؤال ماذا هناك من الأمر يا أنتما ؟ )) كما يمكن أن يقول طه حسين ، أو (( ماذا حدث بينكما ؟ )) كما يمكن أن يقول محمود تيمور وإبراهيم المصري والمازني وتوفيق الحكيم . ((إبه الحكاية إنثر لتنين ؟ )) سؤال بسيط لا تعقيد فيه ولا التواء لأنه خرج على لسان شخص غير مثقف لم يسمع باسم سيبويه ، ولم يقرأ الجاحظ ، لأنه يعيش في بيئة متواضعة جدا ، ولا يقرأ غير جريدة يتيمة جدا وقد لا يقرأها ؛ ولكنه يمضي وقت فراغه في لعب الطاولة في (( قهووة السعادة )) أو (( يكركر )) في الشيشة مع زملائه بائعي الجرائد . كيف أتوقع خروج (( ماذا هناك من الأمر ياأنتما )) أو (( ماذا حدث بينكما )) من بين شفتي رجل عادي كعسكري المرور مثلا ، وكيف أتوقع خروج (( شتمني هذا الصبي مرتين ، دون سبب )) على اسان صبي لم تجئه أخبار المجمع اللغوي ولم يقرأ نشراته ولم يسمع بمختار الصحاح ولا بالمصباح المنير وماذا كنت أظن ؟ ! أكنت أظن أن يسأل عسكري المرور (( ماذا قال ؟ )) ثم كيف بانه سأضع ، أو يضع اللغويون عبارة (( معلش ، وكل واحد يروح لحاله والمسامح كريم )) في لغة عربية فصحي على شرط أن يحافظوا على معناها وفحواها ! أن أحاول - أن أحاول وضع هذه الجملة في عربية فصحي لأني لن أصل إلي ما أريد من معناها .

" ولكن لا يجب هنا أن أنسي أن لبعض هؤلاء الكتاب الذين ذكرت إنتاجا أدبيا رائعا وفيما دارت محاوراته باللغة العامية الدارجة ، ويكفي أن أذكر تمثيلية توفيق الحكيم (( رصاصة في القلب )) .

ونحن القاصين ، المحدثين منا والقدماء ، حائرون :

فنحن نكتب الحوار بالعامية حينا وبالفصحى حينا آخر . وقد يختلط علينا الأمر في إنتاج واحد من إنتاجنا فنمزج العامية بالفصحى ، والنتيجة : أقصوصة أو قصة أو رواية لا تمثل أشخاصها ولا تصورهم تمام التمثيل والتصوير ، لأنهم لم يعبرا عن أنفسهم ولا عن أفكارهم ولا عن حياتهم بلغتهم الطبيعية ، أي بلغة الناس في الواقع .

لماذا تخاف كتابة الحوار في قصصنا المصرية باللغة العامية إذا كانت هذه اللغة العامية أصدق في التعبير وأدعي إلي الفهم والتصور بطريقها عن اللغة الفصحى أكان تشارلز ديكنز يصل إلي ما وصل إليه من البراعة في الصوير ودقة الأداء لو أنه أنطق شخصياته - التى كان ينتقيها في الأغلب والأعم من الطبقة الدنيا والوسطى - لغة الخليزية فصحى ؟ اعتقد ان نجاح القصة ، إلى جانب توقفه على الموضوع وطريقة العرض ، يرجع إلى اللغة التي تصاغ بها والحوار الذي يدور فيها ؛ فإذا كان الحوار مخلصا أي مطابقا تمام المطابقة ما كان يمكن أن يدور فعلا بين متحاورين عاديين ، أي إذا تحدث الفلاح في القصة بلغة الأرياف كما هي بدون تزويق حضري ، والمدنى بلغة المدينة كما هي بدون تزويق لغوي ، والصعيدى بلغة أهل الصعيد كما هي بدون تصحيح ... لكان إنتاجنا الأدبي أقرب إلي الكمال منه الآن .

يجب أن ننظر إلي القصة من جميع نواحيها وننقدها على هدى التعريف الذي ذكرت من قبل . فلكل مجتمع لغة ، ولككل فرد لغة ، ولكل مكان لغة ولكل زمان لغة أيضا . هذا فضلا عن اللهجات . ولكنا للأسف حتى الآن لم نهتم بتفاوت الطبقات بين الناس ، كما لم نهتم بالمكان ولا بالزمان ، فتنطق شخصياتنا كلها دون استثناء لغة واحدة لا تتغير . فكما يتكلم الجامعي يتكلم القروي ويتكلم الصعيدى ، وتتكلم الخادم وتتكلم البغى ويتكلم ماسح الأحذية .

إن اللغة العامية كفيلة أن تضفي علي أشخاص القصة المتحدثين بها طابعا قد يظل عالقا بذهن القارئ سنين طويلة . إنى إذا أكتب هذه الكلمات أتذكر (( العوالم )) لتوفيق الحكيم كما لو كنت قرأنها منذ ساعة فقط ، وإن كنت قرأتها لآخر مرة منذ سنين ، وأتذكر أشخاصها واضحة الخطوط : (( الأسطي حميدة المحلاوية )) و (( لابس الونش )) و (( الحاج محمد )) مثلا . تري لو أن حوار هذا العرض كتب باللغة العربية الفصحى أكان يعلق بذهني على هذا النحو ؟ أغلب الظن أن لا .

اشترك في نشرتنا البريدية