تذكر لنا الرواية اليونانية أن سقراط حينما حكم عليه بالموت أشار عليه أصدقاؤه بمغادرة أتينا والنجاة بنفسه، فأبى عليهم ذلك، وآثر الموت على الفرار. ولما قدمت إليه كأس السم تجرعها بجرأة ورباطة جأش، ولم يكد يفرغ من تناول ما فيها حتى أجال نظره بين أصحابه، فلمح عبراتهم تتساقط على وجناتهم حزناً عليه، وألماً لما حل به؛ فآلمه هذا المشهد، ووقف فى أصدقائه خطيباً وهو فى نزاعه الأخير، يشرح لهم الموت ونظرته إليه، ويطلب إليهم أن يكفوا عن البكاء. وقد نظر الشاعر الفرنسى الكبير لامارتين إلى هذه الرواية، فنظم حوادثها في شعر يفيض رقة وعذوبة وجمالا وسلاسة، وجعل عنوانها (موت سقراط) . وفيما يلى خطبة سقراط بعد تجرعه السم، وهى من أروع ما جاء فى هذه القصيدة الفذة (أحمد عيتانى)
ماذا؟! أتبكون أيها الأصدقاء؟! أتبكون وقد تحررت روحى من أثقالها الجسدية الدنيئة فهى كالبخور تحرقه الكاهنة على وشك الطيران نحو الآلهة؟! أتبكون أيها الأصدقاء حينما ترحب روحى بهذا اليوم الطاهر الذى كانت تطمح إليه؟! حينما توشك على السفر فى رحله مقدسة تبحث فيها عن الحقيقة فتعثر عليها، وتتعرف إليها؟!
إذاً علام الحياة إذا لم يكن مصيرنا للموت؟! علام أحببت الألم فى سبيل العدالة؟! علام كانت نفسى الحبيسة تقاوم حواسها وميولها الدنيئة العنيفة أثناء تلك الميتة التى تسمونها الحياة؟! ماذا عسى تكون الفضيلة بغير الموت أيها الأصدقاء؟! ذاك ثمن المعركة، ذاك تاج سماوى
يمنحنا إياه حكم زكى فى نهاية المرحلة
إن صوت جوبيتر يدعونى إليه ألا فلنقدسه أيها الأصدقاء فإنى أستمع إليه الآن! لقد كان بوسعى، لو رغبت فى بقية من الأجل أن أحمل السماء على ترديد ندائها إلى. ولكن، لِتحفظنى الآلهة من هذا! فأنا حين تدعونى إليها ألبيها عبدا مطيعا !
وأنتم أيها الأصدقاء: إذا كنتم تحبوننى فأريقوا على رؤوسكم العطور، شأنكم فى أبهج أعيادكم، وعلقوا على حائط سجنى قرباناً، ثم خذوا بيدى نحو ذراعى الموت، وقد توجتم جباهكم بأطواق الرياحين كما يؤخذ بيد العريس الشاب إلى سرير زفافه، وقد أخذت الجموع المتدافعة تنثر أمامه الأزهار، أمام عتبة عروسه!
وبعد، فما الموت؟ إن هو إلا تحطيم هذه العقدة الدنسة؛ إن هو إلا فسخ هذه الاقتران الشائن بين الروح والأرض؛ إن هو إلا إزاحة عبءٍ ثقيل نرمى به في القبر! إن الموت انتقال أيها الأصدقاء، وليس فناء! والإنسان مادام رازحاً تحت هذا الجسد المقيد به يزحف بعناء عظيم نحو الخير الحق. ومادامت رغباته السافلة تقطع عليه هذا المسير فسيسير وراء الحقيقة بخطوات راجفة، وربما أضاعها أيضاً! ألا إن من يصل إلى آخر حياته التى يرجوها ويبدو له شعاع فجر يومه الأبدى ليعودُ ثانية نحو السماء، وكأنه شعاع من أشعة المساء! ويرتدُّ ثانية إلى جوار الآلهة، بعدما أُقصى عنها حيث يحتسى بشَرهٍ ذلك الرحيق المسكر ويبدأ حياته من ذلك اليوم الذى يقضى فيه!
ألا إن الموت ألم، والألم شر أيها الأصدقاء! 20 . 10
ولكن ما يدرينا ذلك؟! ولو كانت ساعة الموت الرهيبة ساعةً يتألم فيها جسمنا الفانى كما تتألم الضحية الذبيحة أو ليس عن الشر يصدر كل الخير؟! إن الشتاء ليتمخض عن الصيف، وإن الليل لينكشف عن النهار! لقد وضع الله تعالى بنفسه هذه السلسلة، ونحن، وقد جئنا إلى هذه الحياة على الرغم منا؛ فليست هذه الميتة الهانئة التى يرهبها ضعاف النفوس إلا ابتداء حياتنا فى العالم الخالد!
ولكن، أيكفى أن نموت لنبعث ثانية؟! لا! بل يجب أن نحرر أنفسنا من نير حواسنا ونعملَ لنصرتها على ميولنا الفانية! يجب أن تكون حياتنا هذه موتاً طويلاً! إن حياتنا معركة، والموت انتصار لنا فيها! إن الأرض لدار يطهر فيها الإنسان نفسه؛ فعليه، وهو فيها على عتبة الموت قد تجرد عن حواسه، أن يقذف إلى النار بثوبه المدنس قبل أن يتقدم بروحه، ضحيةً طاهرةً إلى الآلهة الزكية فى الدار الصالحة!
إنهم (الأشخاص الصالحين) يلحقون بالأبطال والآلهة لدى الإشارة الأولى! يلحقون بهم فى السماء حيث لا يوجد موت! إنهم يلحقون بهؤلاء الذين دمروا شهواتهم إبان حياتهم القصيرة فأخضعوا المادة للعقل وأذلوها له. هؤلاء الذين خضعوا للشرائع والقانون، وأصغوا إلى صوت ضميرهم الداخلى، واتبعوا طريقاً سوياً بعيداً عن الناس، وخدموا الآلهة وعبدوها، وفى ذلك أصل الفضيلة، وأحبوا الحقيقة، وتألموا للفضيلة، فاستعادوا حريتهم من الآلهة ابنة السماء

