الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 960الرجوع إلى "الرسالة"

موقف الفكر العربي ، من الحضارة الغربية

Share

دعانى الرجال الأكرمون إلى أن ألقى كلمة موضوعها(موقف  الفكر العربى من الحضارة الغربية)

ولقد نظرت فى هذا الموضوع فوجدت أنه لابد لى من أن أقف وقفة قصيرة عند الفكر العربى أتبين ما معناه، وأن أقف  وقفة قصيرة، عند المدنية الغربية أتعرف ما مبناها

الفكر العربى:

أما عن الفكر العربى فإنى أنظر إلى العرب والمستعربين جملة  فأجدهم يسكنون رقعة من الأرض خطيرة، وهى على خطرها  رقعة واسعة تمتد من الأطلسى إلى إيران، ومن تركيا إلى ما يقارب خط الاستواء. وأنظر إلى العرب فأجدهم أمما متباينة الخطوط من التقدم، مختلفة الأنصبة من الحضارة أيا كانت  هذه، مختلفة قرونها التى تعيش فيها، فبعضها يعيش فى القرن العشرين ويكاد يعيش فيمل بعده، وبعضها يعيش في القرن العاشر، بل فى القرن الأول، بل فيما قبل القرون. وأنظر فى هذه الأمم  فرادى، فأجد في الكثير منها رأسا أطل على هذا العصر الحاضر يرى ما فيه، ويعلم ظواهره ويعلم خوافيه؛ أما سائر الجسم فلا عين له، فهو يتبع الرأس كما تتبع الأحسام، وقد سهل الأمر  على الأجسام أن تتبع لو أن الرأس رأس واحد يتجه إلى غاية  واحدة، ولكنه رأس ذو شعب، رأس تشعب إلى رؤوس،  منها ما ينظر إلى الوراء فلا يرى فى الدنيا شيئاً خيرا من ورائها،  ومنها ما ينظر إلى الأمام فلا يرى من الدنيا شيئا خيرا من أمامها،  ومنها ما ينظر إلى الوراء ويفضل أن يقعد فوق السور يستمتع بموكب الزمان الجارى.

فأى رأس من هذه الرؤوس يتمثل فيه الفكر العربى الذى يراد لى أن أتحدث عنه.!

أم يراد لى أن أتحدث عن الفكر العربى متمثلا فى كتابه؟  فهؤلاء على قلتهم، كأرؤس في أممهم، صنوف وأهواء. منهم المتأثر بالماضى غاية التأثر، ومنهم المتحرر من الماضى غاية التحرر،  ومنهم أوساط بين هؤلاء وهؤلاء. وليس فى التأثر بالماضى ما يعيب، لأن الماضى بعضنا، ولأنه بعض الحذر، ولأنه الحفاظ  الذى فيه بعض الوفاء. والفكر فى كل العصور أمزجة، منها  المزاج المتحفظ. والفكر على إطلاقه لا يكاد يتحرر أبدا. أنه  عمل العقل ولكن تتنازعه القلوب. إن الفكر لا يكاد يخلو  من عاطفة، والعاطفة وليدة السنين الغوابر. كذلك ليس فى التحرر غاية التحرر ما يعيب المتحررين. إنهم ضيقون بزمانهم،  آسون لحال أممهم، ثائرون على ما يرون من بؤس وجهالة، فهم  يريدون أن يقفزوا فى الزمان قفزا ليعوضوا على أممهم ما فات

ففى أى هؤلاء الكتاب - وهم مختلفون - يتمثل الفكر  العربى.!

وليس فى الشرق فكر منظم.. ليس فى الشرق جماعات  من الناس لها أفكار ولها أهداف إلا فى السياسة. وحتى  جماعات السياسة لا تجمعها أهداف بينة، إن هى إلا غايات مبهمة  كثيرا ما يوحى إلى شيطان بأن أوضح غاية فيها إبهاما. إن الشىء  المبهم يجرى وراءه الأشتات من الناس، وفى الإيضاح التفرقة.  إنهم يطلبون بالإبهام الكثيرة، وتلك عندهم غاية الغايات

ولقد يتحدث الناس عن الفكر العربى الذى لم يتوحد بعد، فيقولون ويطنبون. ويأتون لك آخر الأمر بالشىء الجميل أو غير الجميل، فإذا بهذا الشىء من خلقهم، وإذا به، لا الفكر العربى،  ولكن ما يجب أن يكون عليه الفكر العربي عندهم، وما يجب  أن تكون فى حسبانهم خطة الحياة

إن الفكر فكرهم، وهو عربى شرقى بمقدار ما هم عرب شرقيون. وفى غيبة الفكر العربى الموحد، وعلى تفرقه وتشتته لابد من قبول هذا الفكر، ولوا فكرا واحدا، وهو على الأقل

فكر آحاد؛ وهو على الأقل بمثل منحى من المناحى الفكرية الكبيرة

فإنا إذا تحدثت إليكم اليوم عن الفكر العربى، فلا أدعى  للذى أقول من التمثيل أكثر من أنه يشاركنى فى الذى أقول طائفة فى الشرق العربى غير قليلة

وبعد فما يجوز أن ننسى أن الفكر انفعال؛ وأن فكر الفرد  من صنع البيئة، وصنع النشأة، وصنع الزمان

الحضارة الغربية:

ثم ما الحضارة الغربية التى أبحث عن موقف الفكر العربى منها؟ لقد كان للإنسان حضارات بكل أرض وبكل زمان: حضارة مصرية، وحضارة آشورية وبابلية وفينيقية، حضارة  إغريقية ورومانية، حضارة هندية وصينية، وحضارة عربية  أثبتت وجودها وفرضت فروضها وشاركت فى الحياة على هذه  الأرض ألف عام. ولكل من هذه الحضارات فضل، ولكل  منها شيء وأشياء تميزها. . وهي كلها مجهودات للإنسان حميدة  فى سبيل غاية لا يدريها. والإنسان وهذه المجهودات غير فانية،  أو الكثير منها غير الفانى. وهى مجهودات خالدة بحسبانها أشكالا وأنماطاً وأساليب للعيش وقوالب للفكر تتوارث. كما أن الإنسان  خالد بحسبانه نطفا تتوارث، ومظاهر الحضارات ومن إظهارها  يفنيان جميعا كما قال المتنبى فى شعره المعروف

أين الذى الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع

تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع

إلا الفكر.. إلا الفكر الذى أنتجها، أو الفكر الذى أنتجته،  فهذان يخلدان؛ لأن الفكرة لا تموت. ولقد بقى من الحضارات  الماضيات أفكار ترقد فى أوراق، لا تزال نجتليها ونسرح  البصر البصيرة فيها

والمدينة الحاضرة إنما هى جماع تلك المدنيات جميعا. والمدنية الحاضرة تجد فى تلك المدنيات الغابرات فكرة ترضاها فتنتفع منها، أو تجد فكرة لا ترضاها فتتجنب أذاها؛ فهى فكرة تهدى  على كل حال حتى برفضها، كالطريق الذى لا تسلكه يدلك على  الطريق الذى تسلكه

والمدنية الحاضرة تميزت بصفات وتألفت من عناصر سوف أجتهد فى إخراج بعضها وإبرازه، صفة صفة، أو عنصر عنصرا،  وأدلى بموقف الفكر العربى، كما أراه منها

الحضارة والعلم:

إن المدنية الحاضرة ميزتها الكبرى العلم. العلم الطبيعى.  العلم التجريبى

والعلم ليس كالناس يولد فى ساعة. أنه يولد على القرون فلا  تكاد تعرف له ميلادا. وأنا إن ذكرت الميلاد، حلا لى دائما أن  أتخذ من حياة (لافوازيه)  للعلم ميلادا. وهو ولد عام ١٧٤٣ ومات عام ١٧٩٤، فحياته استغرقت النصف الثانى من القرن الثامن  عشر. ولا فوازيه أبو الكيمياء الحديثة لأنه كشف الهواء  وكشف عناصره. وما كانت مدينة مؤسسة على العلم الطبيعي لتكون والناس فى جهالة من الهواء الذى منه يحيون، وفيه  تحدث الأحداث للأشياء الأخرى والناس. أنه لولا أن تركيب الهواء اتضح، ما أمكن أن يكون علم ولا مدنية علمية. وإذن فإذا قلنا إن العلم، والمدنية العلمية، لم تقف على أرجلها إلا من  نحو قرنين نعد الصواب. والعلم قبل ذلك لعله كان يحبو، ولعله طال حبوه وطال كثيرا

وصفة العلم هذه هى الغالبة أكثر الغلبة على المدنية الحاضرة،  لأن الكثرة الكبرى من نتائج العلم مادية، وهى تتصل أكثر  اتصال بما يرى الناس، ويسمع الناس، ويحس الناس، وبما  يأكلون ويلبسون ويسكنون، وبوسائل بها ينتقلون على الأرض أو على الماء أو فى السماء. وهى تتصل بضرورات الحياة ورفهها. ولو أن رجلا من مدينة غارة نشر ونفض عن نفسه التراب،  وأخذ يمشى بيننا كما فعل عيسي بن هشام، لخفي عليه أول الأمر  من مدينتنا كل شىء، إلا هذه الظواهر المادية الكثيرة، فهى ستبدهه، وهى ستدهشه، وهى ستدهشه. وهو سيؤخذ بها  من أول يوم، أما مظاهر المدنية الأخفى فستتكشف له على  الأشهر، ومنها مالا يكتشف إلا على السنين، لأنها لا تتكشف  إلا بالدراسة الطويلة والممارسة

وهنا نتسائل؟ ما موقف الفكر العربى من هذا الأصل الأول من أصول المدنية الحديثة

والجواب أنه المناصرة بغير شرط، وبغير حد، وفى غير احتياط. ذلك أن العلم وليد المنطق، والمنطق لا يرفضه ويرفض  نتائجه ذو عقل. وأحسب أنا جميعا، أهل الشرق العربى، من العقلاء

وسبب آخر لمناصرة العلم، أنه سبب للرفاهية ورغد العيش  ولينه، عظيم. وهو لتسهيل الحياة وتيسيرها، وليس بعقل كبير  العقل من يريد الحياة خشنة، أو من يريدها عسيرة، فى  غير ضرورة

وسبب ثالث، أن العلم يجعل الحياة أكثر امتلاء، وهى بامتلائها زمانا، فهى أطول. والذى يعيش اليوم، فى بيئة هذه الحضارة العلمية أربعين عاما، فقد عاش أربعين كثمانين  من العصور الأخرى. إن سنوات العمر، كورق النقد، تعلو  وترخص، ويصيبها التضخم على انحطاط قيمة، ويصيبها التقلص

وسبب رابع لمناصرة العلم، أن الناس، بسبب العلم، ولأسباب غير العلم، زادوا أعدادا، وزادوا فوق ما تسعهم  الأرض، وفوق ما تكفيهم غذاء، وفوق ما تكفيهم كساء.  وهذا الضيق يقوم بتفريجه العلم، فهو يفرض على الأرض  أن تنتج الكفاية من الطعام، والكفاية من اللباس، والكفاية  من ضرورات العيش

إن قوما يشكون الفقر قوم لا يأخذون بأسباب العلم.  وكذلك قوم يشكون المرض. إن العلم أسرع ذهاب بالفقر،  وأسرع ذهاب بالآلام. أنه ليجتث الآلام من أصولها، باجتثاث  أسبابها، وعنده أن الوقاية خير من العلاج

وسبب خامس لمناصرة العلم، ذلك أنه لأسباب خارجة عن  العلم، لا يزال الناس يأكل بعضهم بعضا، ويأكلونهم بالعلم،  ولا أحسب أن أحدا من الشرق العربى يحب أن يؤكل، والعلم  يمنعك من أن تأكلك الذئاب

لقد كدت أحس بشىء من فى تعديد ما للعلم من منافع،  ومن أسباب مناصرته. ذلك أن بعض السفه تعداد البدائه

والفكر العربى مناصر فى كل ما ذكر من هذه

الحقول المادية. وهو مناصر له فى سائر الحقول، فعلى العلم  وعلى نتائجه يجب أن تتأسس معانى الحياة، وعقائد الحياة وما بعد الحياة. إن العلم وحدة لا تتجزأ

وقد نضيق بالعلم وبنتائج العلم، فنطلب الترويح فى غيبته،  ونطالب للرفه بنفيه وإبعاده. وقديما نفى الناس العقول بالشراب  ليتروحوا، ولكن إلى حين، يعودون بعده إلى ممارسة الحياة  على العقل الواعى وعلى القلب الصاحى

ونحن نناصر العلم ونعلم أن من الناس من خلطوا بين أشياء أثبتها العلم فهى حقائق، وأشياء خالها العلم فهى ظنون، وأشياء  لم يمسها العلم لا بالظن ولا باليقين، فهى من خلق أصحابها

ونحن نناصر العلم ونعلم قصوره وقصور أداته. إن أداة العلم لا تزال الوزن والقياس، ولكن قوماً يريدون أن يقحموه غصباً فيما لا يوزن ولا يقاس؛ لا طلبا لشىء قد يكون وقد لا يكون،  ولكن إثباتا لشىء هو فى أذهانهم كائن قائم وقد يكون قائما،  وقد يكون كائنا، ولكن ليس هو مما يستطيع العلم أن يسير إليه بأداته الحاضرة

فهذا هو العلم، أظهره صفة من صفات المدنية الحاضرة

للكلام صلة

اشترك في نشرتنا البريدية