الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 165الرجوع إلى "الثقافة"

ميدان الحرب فى الشرق الأقصى

Share

تدور اليوم في الشرق الأقصى حرب واسعة المدي ، فسيحة الميدان فسحة تتضاءل بجانها ميادين الحرب في أوربا . وقد توزيع هذا الميدان وتناثرت أجزاؤه ، بحيث بات من الصعب علي من يدرس تطورات هذه الحرب أن يتابع أحداثها ، وأن يساير مجراها وهي تدور في أرض لم تألف التحدث عنها ، والالمام بمواقعها وبلدانها وأنهارها وجزرها . لهذا قد يكون من النافع أن نحاول شرح هذا الميدان قبل التحدث عما يدور فيه من قتال .

وربما كان مما يسهل فهم الموقف الحربي ، ويساعد على إدراك أهمية تطور الحوادث في كل موقع أن نقسم ميدان الحرب في الشرق الأقصي إلي قسميه العظيمين : الميدان الجزري ، والميدان القارى ، مع التسليم بأن القسمين مرتبطان أشد الارتباط ، متصلان اتصالا وثيقاً

إن تأمل الميدان الجزري الهائل وحده كاف لان يروعنا . وحسب القارئ ان يذكر أن جزر الفلبين وحدها تشتمل علي نحو سبعة آلاف جزيرة ومع أن كثيرا من هذه الحزر ليس له اسم ، وكثيرا منها غير مأهول ، وبعضها صغير الحجم بحيث لا يسهل ان نجده في الخرائط التي بين ايدينا . ولكن أحداث الحرب من الخطر والتعقيد بحيث لا يجوز الاغضاء عن جزيرة مهما كانت صغيرة ، مأهولة أو غير مأهولة . وقد يكون الموضع القليل المساحة شأن أي شأن حين تنصب فوقه المدافع ، أو تختفي بجانبه الغواصات

وتمتد جزر الفلبين شمالا بحيث تصبح أطرافها الشمالية قريبة جدا من فرموزا التابعة لليابان ، وليس بن الاثنتين سوي نيف وستين ميلا . وتمتد اطرافها

الجنوبية بحيث تصل إلي مدى ثلاثين ميلا من جزيرة بورنيو ، وهي اضخم جزر الهند الشرقية وأعظمها مساحة .

والحقيقة ان جزر الفلبين - برغم تبعيتها للولايات المتحدة ، وبرغم اللغة الأسبانية التي يتحدث بها السكان ليست سوى جزء من ذلك المجموع الهائل من الجزر الذي تدعوه جزر الهند الشرقية ، وهي بالنسبة لليابان مفتاح تلك الجزر جميعا ، والطريق الذي يوصل إليها . وجزيرة فرموزة التابعة لليابان وهي اقرب ممتلكات اليابان إلى الفلبين ، كانت من غير شك محتشدا للقوات اليابانية ونقطة الوثوب ، التي بدأ منها هجوم اليابان المفاجيء منذ شهرين ونصف شهر

إن مساحة الغلبين نقل عن مساحة بريطانيا العظمي قليلا ( ١١٥ ألف ميل مربع ). ولكن سكانها لا يزيدون علي اربعة عشر مليونا من الانفس . وفي وسعنا ان نتصور هذه الجزر العديدة ، وشواطئها المتناهية في الطول وان تدرك اية قوة بحربة يتطلبها الدفاع عن تلك الجزر .

فإذا ذكرنا مع هذا كله أن الدولة العظيمة التي ترعي الفلبين وتحميها ، هي دولة الولايات المتحدة الأمريكية التى يفصلها عن الفلبين أكبر المساحات المائية في العالم ، وهي المحيط الهادي . أدركنا أن الدفاع عن تلك الجزر ليس من الهنات الهيئات . وان الجمهور الأمريكي الديمقراطي الذي أمن بالسلم ، واطمأن إلى أن عظمة الولايات المتحدة كافية لدرء كل خطر ، ووجد بين قواده من يخدر أعصابه ، ويرقده على فوهة البركان ، هو آخر من يتحرك لبذل مجهود عنيف . استعدادا لعدوان قد يقع وقد لا يقع . .

لقد تحدث وزير من وزراء أمريكا بأن الدولة قد اتخذت العدة التي حسبتها كافية للدفاع من الفلبين ، ولكن تلك العدة كانت دون ما يتطلبه العدوان الياباني الهائل ، الذي لم تقدر ضخامته قدرها الصحيح وقد استطاع الفائد الأمريكي أن يعتصم بقواته بشبه جزيرة باتان إلى جانب خليج مانيلا ، حيث يقاوم بجيشه الصغير مقاومة تبعث

الاعجاب ، أمام حيوش يابانية لا تزال تتدفق على الجزر ويزداد عددها كل يوم . وقد انقطعت الصلة بينه وبين موارد الامداد ، ومع ذلك فهو يقاتل مستبسلا في شبه جزيرته بعد أن سقطت الجزر كلها في أيدي العدو .

وجزر الفلبين هي كما قدمنا مفتاح جزر الهند الهولندية بالنسبة إلى الغزاة الوافدين من الشمال ، ولم يكن بد بعد الاستيلاء على الفلبين التي هوجمت من كل جانب ، من أن يتحول العدوان نحو سائر جزر الهند الشرقية ، بعد أن تتخذ جزر الفلبين قاعدة ينبعث منها العدوان الجديد

تمتد جزر الهند الشرقية - بقطع النظر عن الفلبين - من الطرف النهائي لآسيا الجنوبية الشرقية - عند شبه جزيرة الملابو ، وتستمر في امتدادها نحو الشرق بإنحراف قليل إلي الجنوب - حتى تنتهي إلي جزيرة غينا الجديدة - وهي من أكبر جزر العالم - الملاصفة لاستراليا . وليس في العالم كله مجموعة هائلة من الجزر تضارع هذه الجزر المحتشدة كلها في مساحة عظيمة ، وكل جزيرة ملاصقة لصاحبتها ، وكثير منها ذو حجم عظيم - وهي تصل ما بين قارة آسيا وقارة أسترالية اتصالا مستمرا ، لا يقطعه سوي مضابق صغيرة المساحة من المياه الدافئة التي يحترقها خط الاستواء .

إن امتداد هذه الجزر من الشرق إلى الغرب يبلغ زهاء ثلاثة آلاف من الأميال ، وهي منحصرة ما بين خط العرض العاشر شمال وجنوب خط الاستواء . وتشتمل على جزر نتيجة المساحة مثل سومطرة ، وبورنيو وغينا الجديدة . وجزر متوسطة الساحة مثل جاوه وسيليس ، واخري صغيرة المساحة نسبيا ، وعددوها كبير جدا . وهنالك مجموعات عديدة من الجزيرات الصغيرة لا تقع تحت حصر . على أن أهم هذه الحزر جميعا من غير شك هو جزيرة جاوه الغنية بمعادنها وثروتها الزراعية . ويزيد سكانها على اربعين مليونا من الأنفس ؛ وموقعها

في جنوب المجموعة ، وفي وسطها ، جعلها آخر الجزر اصطلاء بنيران تلك الحرب ، ولو انها لم تسلم من الغارات الجوية المتتالية

تؤلف هذه الجزر العظيمة ، ميدانا غريبا من ميادين الحرب ، ليس لنا عهد بمثله في تاريخ الحروب . ميدان اجزاؤه متصلة منفصلة ، ومساحته من الشرق إلى الغرب تزيد على ثلاثة آلاف ميل ، ومن الشمال إلى الجنوب زهاء ألف من الأميال . وقد نالته الحرب من أطرافه جميعا ، من سومطره إلي استراليا ؛ وهكذا نري لهب القتال في هذا الميدان وحده قد اندلع في مساحة تبلغ ثلاثة ملايين من الأميال المربعة

ذلك هو الميدان الجزري لهذه الحرب ، اللهم إلا ما يكمله من حزر عديدة تمتد وسط المحيط الهادي ، بعضها تابع للولايات المتحدة الامريكية ، وبعضها تابع لليابان ، ومنها التابع لبريطانيا واستراليا وفرنسا الحرة وهذا الميدان على اتساعه قابل للامتداد والاتساع ، فقد يمتد نحو الجنوب إلي أستراليا ، فتتضاعف بذلك مساحته ، وتزداد رفعته اتساعا وبعدا

أما الميدان القاري ، فميدان لا يقل عن الأول خطرا ، ميدان لم يكن احد يتوقع أن يأتيه الخطر من الجهة التى اتى منها . ولولا انهيار فرنسا في صيف عام ١٩٤٠ ما كانت الحرب هنا امرأ ممكنا . فالميدان القاري عبارة عن مساحة واقعة في الطرف الجنوبي الشرقي من اسيا ، يبدأ من برما في الشمال إلى بلاء الملايو وجزيرة سنفافورة في الجنوب . مساحة طولها الف ميل ، ولكنها منحصرة بين البحار ، بحيث لا يتجاوز اتساعها في بعض المواضع خمسين أو ستين ميلا ؛ فهي في معظمها عبارة عن شبه جزيرة ضيقة تحتل بلاد الملايو ثلثها الجنوبي ، وبلاد سيام ثلثها الأوسط . والثلث الشمالي جزء من برما . . وتفصل هذه الأرض مياه

المحيط الهادي عن مياه المحيط الهندي ، والاستيلاء عليها . يمكن القوات اليابانية من أن تصل إلي بحر الهند ، وان تتناول بالأذي السفن الكثيرة التي تجري في هذا البحر .

هذا الميدان القاري ينتهي من الجنوب بجزيرة سنغافورة ، وهي رغم كونها جزيرة قريبة من جزر الهند الشرقية ، ولا يفصلها عن سومطرا سوى بوغاز ملفا الضيق ، فانها مع هذا جزء من قارة آسيا ، وليست من جزر الهند الشرقية . فجزيرة سنغافور ملاصقة تمام الملاصقة لشبه جزيرة الملايو ، لا يفصلها عنها سوى قناة طبيعية تسمى بوغاز جوهور ، لا يكاد يزيد اتساعها على ألف متر في أي جزء من أجزائها . وقد امكن وصل الجزيرة بالقارة بجسر .

ولكن جزيرة سنغافورة - على مساحتها الصغيرة التي لا تتجاوز مائتين من الاميال المربعة - ذات موقع من أجل المواقع الحربية وأبعدها خطرا ، فهي في الموضع الذي يتحكم في الطريق المائي الضيق الذي يصل المحيط الهادي بالمحيط الهندي ؛ فان اتصال جزر الهند الشرقية وامتدادها الهائل من سومطرا إلي استراليا ، يجعل من الصعب أن تجد السفن منفذا آخر بين المحيطين سوى هذا المضيق ولما لهذا الموقع من الخطر الحربي الجسيم ، ولعلو شأنه من الوجهة الاقتصادية . عنيت الحكومة البريطانية

بإنشاء قاعدة حربية فيه تتسع لأسطول عظيم من السفن ، وقد زودت بالأحواض وبالعدة الكثيرة اللازمة لخدمة السفن وإصلاحها وأنفقت عشرات الملايين من الجنيهات من اجل إعداد الجزيرة لتكون قاعدة بحرية من الطراز الأول ؛ ومع ذلك فان الاغارة على سنغافورة من ناحية القارة امر لم يكن في حسبان احد . ولهذا لم تحصن سواحلها الشمالية ، وبذلت العناية لتحصينها تحصينا متينا من جهة الجنوب ، وهي الجهة التي كان ينتظر ان يعتدي عليها منها بواسطة القوات الآتية من المحيط الهادي أي الجهة الوحيدة التي كان ينتظر منها العدوان .

إن الحرب في الميدان القاري باتت أمرا ممكنا منذ تدهورت فرنسا ، واستطاعت اليابان ان تحتل الهند الصينية ، وأن تفعل فيها ما تشاء . ولولا هذا الاحتلال لكان من المستحيل على اليابان أن تجد قاعدة تثب منها إلى بلاد الملايو . لقد قضت اليابان عاما وبعض عام تحشد الحدود وتنشئ القواعد في الهند الصينية . ولا شك أن ما حشدته من الجنود والمعدات كان فوق كل تقدير وجاوز كل حساب . بدأت الحرب القارية بالهجوم على شبه جزيرة الملايو وعلي سيام التي لم تلبث أن سلمت وتحالفت مع اليابان . ومنذ ذلك الحين أخذت الحرب القارية تتجه في طريقين

الأول نحو الجنوب وجهته بلاد الملايو وغايته الأولى سنغافورة . ولكن من الممكن ان يتسع بعد ذلك لكى يساعد الغزو على سومطرة وجزر الهند الشرقية

أما الإتجاه الثاني فغايته المزدوجة غزو برما ، وقطع طريق الامداد عن الصين . وقد بات هذا الغزو ممكنا منذ " المحالفة " بين سيام واليابان . وقد قضت القوات اليابانية مرحلة كبيرة نحو الوصول إلي رانجون ، ولم يبقى دونها سوى مائة ميل . ولقد كانت منطقة الحدود بين سيام وبرما شديدة الوعورة ، تحتطها الجبال الوعرة ولكن القوات اليابانية استطاعت ، بمجهود شاق أن تتسلق هذه الجبال وان تصل إلى الاقليم السهل بالقرب من مولين على مصب

نهر سالوين ثم اخترقت هذا النهر عند مصبه ، ووصلت إلى مرتبان في الجانب الغربي من النهر ، ثم أخذت تزحف على مهر بلين ، في الطريق إلي رانجون عاصمة برما ، التى اصبحت اليوم الهدف المباشر للهجوم الياباني ولكن الاستيلاء على رانجون ، بل على برما كلها لاينهي الحرب في هذا الميدان ، فمن وراء وما بلاد الهند العظيمة ، ومن وراء الهند بلاد السند ، ومن بعدها بلاد الأفنان والشرق الأوسط كله . ولهذا سمعنا أقوالا بأن القوات اليابانية تريد الزحف حتى تقابلها القوات الألمانية الآتية من

القوقاز أو من لوبيا . وسواء كان هذا القول جدا أو عبثا ، فانه مما لاشك فيه ان الميدان القاري الذي دخلته اليابان ميدان لا يزال بعيد المدي مترامي الاطراف وإذا كان من الجائز لليابان في الميدان الجزري ان تقنع بالاستيلاء على جزر الهند الشرقية ، ثم تقف موقف الدفاع . فان من الصعب أن نتصور خطأ للدفاع في الميدان القاري تقف وراءه الجيوش المغيرة

لقد حاولنا أن نشرح ميادين الحرب في الشرق الأقصى بتقسيمها ، على هذه الصورة إلى قسمين ، ولكننا لابد أن نذكر دائما أن الميدانين متصلان ، وكل منهما يساعد الآخر . والنصر أو الهزيمة في شطر له اثره البليغ في الشطر الآخر .

وهذه الميادين على تعددها ترتكز كلها على امر واحد ، هو في النهاية الحكم الفصل في هذا النزاع ، وهذا الأمر هو القوة البحرية . فان قاعدة التموين الكبرى لليابان كانت - وستظل دائما - جزر اليابان ، التي تبعد عن ميادين القتال بآلاف من الأميال ولو ضعفت القوة البحرية لليابان لانهارت كل هذه الفتوح الواسعة الهائلة انهيارا سريعا

من المأثور عن اليابان في حروبها السابقة شدة التكتم في استعداداتها وادخارها قوات احتياطية عظيمة . ولاشك في أن أحدا من الناس لم يقدر أن تكون استعداداتها عظيمة بهذا المقدار . ولليابان اليوم السيادة البحرية في المحيط الهادي . ولا ينتظر ان يجازف الحلفاء بحرب بحرية حتى تستكمل الولايات المتحدة عدتها البحرية . ولا شك في أن فقدان الجزر العديدة يفقد دول الحلفاء القواعد

البحرية التي تستطيع أن تعمل منها . ولكن هنالك ناحية ناحية واحدة في التوسع الباباني تبعث على التفكير ، وهي ان احتلال هذه الجزر العديدة يتطلب دفاعا قويا ، لا بد أن يستوعب كثيرا من قوات اليابان المدخرة . وقد كان الدفاع عن هذه الجهات المتباعدة الاطراف ، التى يفصل بعضها عن بعض آلاف الكيلومترات امر شاقا لدولة هولندة وأمريكا وبريطانيا ، وهذه الصعوبات لابد لليابان ان نعد العدة لمواجهتها والتغلب عليها

اشترك في نشرتنا البريدية