الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 492الرجوع إلى "الرسالة"

ميليزاند الأميرة

Share

تمثلتها في قصرها الضاحك، فوق صخور الشاطئ،  رافعة يدها تومئ   (أن هلموا إلي. . . أنا ميليزاند، أنا الأميرة  الحسناء)

إنها أسطورة ملؤها الخيال والجمال، والمغامرة والشعر  إنها حلم زاهٍ رفاف، ومعنى بعيد بعيد

في بلدة هادئة من     (بلاي)   كان   (روديل)  الفتى الجميل،  ذو الجسم القوي، والوجه الصبيح، يرسل أشعاره الملأى  بالشجو والحب والأنين. لقد كان يحب ميليزاند الحلوة  كالصبح، المشرقة كالنور، الرفافة كالورد. فكان يتمثلها  في خاطره، ويداعبها في خياله، ولا يستطيع أن يراها.  ما أبعدها عنه. . . هي في الشرق المسحور القاصي، وهو  في  (بلاي)

ولم يطق صبراً عنها، فقد كانت نفسه ناعمة يهزها كل شيء  ويؤثر فيها كل شيء. كانت كالقيثارة تمر عليها النسمة الخفيفة،  فتترك وراءها نغمة مطربة أو هزجة ناعمة

وكان يرسل أشعاره في هدأة الليل، تحت القمر. وكان  يحب تغريد العصافير، فإذا صمتت ذكرته حبه البعيد. يقول:

(عندما تطول أيام مايو، تلذ لي أغرودات العصافير.  فإذا صمتت هاجت في قلبي ذكرى حب بعيد. فأعود مفكراً  مطرقاً، فلا أناشيد الرفاق تفرح القلب الحزين، ولا رفيف الزهر  يبهج النفس الكلوم

(أي فرح سيشرق في نفسي عندما أراها وأطلب أن  تضيفني سأسألها الضيافة، بالله، وبالغربة. وعندئذ، يا ما ألذ  أحاديث العاشق البعيد، بقرب الأميرة البعيدة. وهو ينعم  بصفاء عينيها الحلوتين)

(ثم. . . ثم أتركها، وا حسرتاه، حزنان أو فرحان،  راضياً أو كارهاً، فلا أراها أبداً !

(لن أنعم بالحب إن لم أنعم بها، لأني ما رأيت سيدة أنبل  ولا أحسن منها. . . آه، يا ليتني كنت عبداً لها !

(اللهم يا من خلقت كل شيء. . . كل ما يموت ويحيا،  صل أسبابي بأسبابها، في أي مكان شئت !)

تلك كانت أغانيه. إن فيها حنينا ولوعة، كأنها نغمات من  نغمات مالارميه أو فيرلين

وما زال     (روديل)   يسعى حتى سافر مع أهل الصليب.  وقطع طريقه يغني، ويمني نفسه بحلاوة اللقاء. وما كادت  الباخرة تقرب من طرابلس حتى فاض سروره وزاد وجده. لقد  كاد يرى ميليزاند وهاهو ذا قصرها ينادي الناس. فيغلب  عليه الوجد، ويطغى عليه الفرح؛ فيعل ويمرض، ويحمل إلى  المدينة، ويوضع في كوخ حقير، وهو يلفظ أنفاسه

وأسرعوا إلى الأميرة الحسناء فحدثوها عنه   (لقد كان يغني  مع الموج أغنيات حبه، وكان ما يفتأ يلهج باسمك ويسبح  بجمالك. . .)  فخفت إليه. ولما اقتربت منه، وأسندت إلى صدرها  رأسه، دبت في جسمه الحياة ففتح عينيه، وأرهف أذنيه،  وتدفق الدم في خديه، وجلس يسمعها أشعاره، ويؤنسها بأغانيه  فتطرب ميليزاند، وتنحني فتيل بثغرها الريان فمه وشفتيه

وعجب الناس من الأميرة كيف تحيي الموتى، وعجبوا من  العاشق الميت كيف يحيا. . .؟

وما أشبه ميليزاند، بمحبوبة الأعشى التي قال فيها:

لو أسندت ميتاً إلى صدرها ... عاشَ ولم يُنقلْ إلى قابر

حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشر !

وأخذ     (روديل)   يحدثها عن تهيامه وتحنانه، وأخذت  تطرفه بأعذب الأحاديث، حتى إذا قص عليها كل شيء وأسمعها  كل شيء، عاد، فأغمض عينيه. . . ومات

وأعجب الناس بروديل، وجعلوا حبه أسطورة. فرنت  في أوربة ودوت؛ وهام الناس بالشرق. وجعلوا الأميرة ميليزاند  رمزا. . . وصوروها واقفة على شاطئ البحر، بين يدي الأمواج  تنادي الأمراء، وتنادي الملوك، وتنادي الناس   (تعالوا وانظروا  إلى الأميرة البعيدة. . . تعالوا إلى البلاد المقدسة)

اشترك في نشرتنا البريدية