الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 720الرجوع إلى "الرسالة"

مِن هنا ومن هناك

Share

الحكومات الأوربية:

(هذه فقرات من مقالة لم تكتب اليوم ولا عقب الحرب  الثانية ولا عقب الحرب الأولى. ولكن كتبت قبل ذلك كله،  كتبها سنة ١٩١٢ الأستاذ العلامة محمد إسعاف النشاشيبي  في حديث له مع صديق شكا إليه ما كانت البلاد العربية عليه  يومئذ، وبين له أن لا أمل إلا بالدول الأوربية وحضارتها،  اطلعنا عليها في مجلة النفائس فأردنا تسجيلها في الرسالة سجل  العرب، قائلين: ما أشبه الليلة بالبارحة!). (منقب)

.  . . فإن هذه (الدول) لا تسعى سعيها ولا تبذل مجهودها في  الاستيلاء على البلاد الشرقية لتنجيها من عذابها، وتنتاشها من  ضلالتها، وتسعدها بعد بؤسها، وتهذبها وتثقفها وتعلمها ما لم تكن  تعلم - ولو اتبعت ذلك لسلكت غير هذه السبيل، ولخالفت  عن بُنيّات طريقتها الاستعمارية المشهورة ولكنها جدّت في  تملك بلادك لتموت أنت وتحيا هي، ولتملق أنت وتثري هي،  ولتذل أنت وتعز هي. وإن يوماً تراك فيه استيقظت من هجوعك  وثبت إلى رشدك، وجرى في عروقك دم الوطنية ليوم عليها عظيم

ولقد لبثت فرنسا في الجزائر وتونس والتونكين وغيرها  ما شاء شقاء أهلها أن تلبث، وأقام الإنكليز في الهند ومصر  وأسترالية ما قدر القدر الجائر أن تقيم، ومكثت روسيا في القرم  وبخارى وخيوه ما أراد القدر القاهر أن تمكث، وظلت هولاندة  في جزيرة جاوا ما كتب لأهلها النحس أن تظل، ومكدت  إيطالية في الصومال ما حكم الدهر الوغد أن تمكد، وتملكت  غير هذه الدول من الأرجاء في المشرق والأقطار ما تملكته -  فلم نرها جاءت من الخير للذين سلبتهم سلطانهم ما كان يجب عليها  أن تجيء به، ولم نلفها بلغت هؤلاء المساكين من الإصلاح العلمي  والاجتماعي ما أمله المؤملون منها، ولم نجدها بدلت من خلائقهم  شيئاً، بل وجدناها كادحة جاهدة في إرداء شعورهم وإحساسهم

وإفساد كل صالح فيهم، ووجدناها ضاربة دونهم ودون  الرقي الذي ينشدونه بالاسداد ابتغاء ألا ينتبهوا من نومهم  ويرجعوا إلى أنفسهم فيردوا ما ألم بهم وما صبحتهم به  الليالي   (أقال الله عثرتنا من الليالي)  فيكبروه وينكروه،  وإن كل جريمة تحتقبها أوربة، وإثم تكتسبه حلال طلق في  شريعة السياسة ودين الاستعمار.

وإني لأقرّع القوم بأعمالهم كثيراً ولا أعذرهم على حال،  لأنهم موقنون جد الإيقان بفظاعة ما يأتون وشناعة ما يجترمون  وعالمون كل العلم بأنهم يجرحون فؤاد الإنسانية بما يجترحون  من الإثم بإذلال بنيها وإضراعهم؛ لكنهم متصلبون في عنادهم  مصرون، ومقيمون على ضلالهم لا يتزحزحون، وكافرون بدين  الرحمة جاحدون، ولو كان من عذر لما سمعت استيد وجوريس  وإضرابهما من الإنسانيين يصيحون ويجلبون، ويندبون  ويبكون، ويقولون في كل حين:   (أوربة، إنك ظالمة، أوربة،  إنك آثمة، أوربة إنك جارمة. . .) .

اشترك في نشرتنا البريدية