نحن نعلم أن أقدم المدنيات التى عرفتها الانسانية وتدين لها بالشئ الكثير ، هى المصرية القديمة على ضفاف النيل ، والبابلية الأشورية فى وادى دجلة والفرات ، والهندية فى حوضى السند والكنج ، والصينية فى سهول هوائج هو وينج تسى كينج . ونحن نعلم إلى جانب ذلك أيضا ، أن المدنيات الغربية حديثة عهد بالنسبة للشرقية ، وأن هناك أثرا عظيما تركته القديمة فى الحديثة متى وجدت عوامل الاتصال وتوفرت الظروف الاجتماعية . ففى الألف الثانى قبل الميلاد ، شعت المدنيتان الشرقيتان المصرية والبابلية الأشورية ، أشعتهما على أوربا : الأولى عن طريق كريت والثانية عن طريق آسيا الصغرى . وفى الألف الأول قبل الميلاد أيضا ، نجد أن هذا الاختلاط بين الشرق الأدنى وبلاد اليونان أخذ ينمو ويزداد ، فكانت ثمرته الأولى أن استعار اليونانيون عن
الفينيقيين ، الذين تربطهم والعرب رابطة العنصر والعقائد واللغة ، الأبجدية الفينيقية التى أخذت فى الانتشار بعد ذلك فى كثير من البلاد المتمدنة ؛ واهتم فيثاغورس بالحكمة الشرقية ، وهيرودوت بالشرق شعوبا وبلادا . ولما ظهر الاسكندر وقام بفتوحاته ، تزاوجت العقليتان تزاوجا ترك أعمق الأثر وأبعده فى حياة العالمين الشرقى والغربى . ثم جاءت المسيحية تحمل طابع العقلية الشرقية فى ذلك الحين ، ووفقت فغزت أوربا ؛ واستعمرت العقلية الأوربية استعمارا أصبح من العسير عليها التخلص منه .
ولم يقف أمر العلاقات عند هذا الحد ، بل تجد أن لغات تلك الشعوب الشرقية التى ذكرتها ، والتى تعرف عند علماء اللغات بالأسرة السامية الحامية ، تشق طريقها إلى الغرب فتعرض نفسها على اللغات الغربية قديمها وحديثها ، فهذه الصلات ، وتلك العلاقات ، إلى جانب العوامل السياسية ، دفعت بعض الأوربيين إلى الاهتمام باللغات السامية الحامية اهتماما عظيما ؛ وذلك لأن العالم
الحديث أدرك أنه لن يستقيم له بحث علمى يتصل بتدرج التفكير البشرى وتطور الحضارة الانسانية ، إلا إذا عنى باللغات السامية الحامية عناية خاصة ، تمكنه من دراسة تراثنا العقلى المكتوب منه والمنقوش ؛ ففى مصر ظهر الضمير ، وطلع الفجر ، وفى أرض بابل وأشور عثرنا على أقدم وثيقة قانونية فى تاريخ البشرية ، أعنى شريعة حمورابى ؛ وقد نهض الغرب بهذا النوع من الدراسة نهضة مباركة مكنته من أن يخطو بالعلوم العقلية خاصة خطوات موفقة ، فعلوم اللغات تقدمت تقدما تغبط عليه ، حتى أصبح من اليسير علينا الآن ، لا أن تقارن بين اللغات السامية الحامية فحسب ، بل بينها وبين اللغات الهندية الأوربية أيضا ؛ وهذا يساعد عالم اللغات على تتبع الظواهر الصوتية وتدرجها وتاريخ الألفاظ وتطورها ؛ كذلك الحال مع التاريخ والأدب والفلسفة والديانات وتاريخ سائر العلوم والفنون ، والتى مهدت للغرب أن يتبوأ مكانته العلمية الحاضرة .
وإذا أردنا نحن أن ننهض نهضة علمية حقة قائمة على أساس متين ، وجب علينا أن نعنى باللغات السامية الحامية عناية الغرب باللغتين اليونانية واللاتينية . فكما أن الأوربيين ترجع لغاتهم وآدابهم - لحد ما - إلى هاتين للغتين وآدابهما ، كذلك الشعوب السامية الحامية ، أعنى سكان الجزيرة العربية ، ومعظم وادى النيل ، بما فى ذلك البلاد الحبشية ، والكثرة المطلقة من الشعوب الأفريقية النازلة فيما بين خط عرض ١٦ شمالا والبحر الأبيض المتوسط ، لأن لغاتنا وآدابنا ، تاريخنا ودياناتنا ، وحدة لا تتجزأ ، يجب الاهتمام بها جميعا إذا أردنا درس ظاهرة منها ؛ فاللغة المصرية القديمة مثلا ما كانت لتفهم على وجه التمام لو درسها علماء المصريات على غير ضوء بقية السامية الحامية كالبابلية الاشورية والكتعانية والارامية والعربية والحبشية . كذلك الحال مع دياناتنا الحالية ، سواء كانت اليهودية أو المسيحية أو الاسلام ، فجميعها لها علاقة بالملة
البابلية الاشورية ، أو المصرية القديمة ، أو الكتعانية ، أو بها جميعا ؛ والسبب سهل يسير ، وهو أن اختلاط هذه الشعوب وامتزاجها جعل تراثها العقلى ملكا مشاعا لهذه الأسرة البشرية ، وأصبح من البدهى أن نجد هذا التشابه وهذا التناسق بين الديانات السامية الحية الظاهرة من ناحية ، وبينها وبين السامية الباطنة من ناحية أخرى ؛ والقرآن الكريم مثلا مملوء بالآيات والاقتباسات التى تشير إلى موسى وشريعته ، وإبراهيم وملته ، وداود وزبوره ؛ كذلك الحال مع لغتنا العربية ، فلن نستطيع تأريخ ألفاظها ، وتذوق معانيها ، ودراسة تطور نحوها وصرفها ، والكشف عن سر نظمها ونثرها ، إلا إذا درسنا سائر لغات هذه الأسرة التى تنتمى إليها ؛ ففى النثر العبرى مثلا يجب أن نتلمس تاريخ النثر العربى ، وفى الشعر العبرى أيضا يجب أن نرى صورة من أقدم صور الشعر العربى والعروض العربى ، وتعليل ذلك أن الأدب العبرى هو تراث عقلية أمة سامية لازمت وما زالت تلازم العربية فى سائر عصورها التاريخية قبل الميلاد ، وقبل الاسلام ، بعد الميلاد وبعد الاسلام ؛ فالأمة العبرية عاشت فى الجزيرة قبل أن تنزل فلسطين حوالى ١٤٠٠ ق م ؛ وكان العبريون يتكلمون لهجة آرامية أقرب إلى العربية منها إلى أى لغة أخرى ؛ فهم إذا لما هاجروا إلى فلسطين واستوطنوها ، وتركوا لسانهم القديم ، وتعلموا لغة سكان البلاد التى نزحوا إليها أعنى الكتعانية ، حملوها خيالهم الاصلى وأسلوبهم القومى ، فنثرهم وشعرهم الذى حفظ لنا العهد القديم بعضه ، والذى فيه ما يرجع إلى عام ١٢٠٠ ق م . يجب أن نعتبره أقدم مظهر من مظاهر النثر السامى العربى الذى وصلنا ، ولا سيما إذا علمنا أن النتيجة التى وصل إليها علماء الساميات أخيرا ، هى أن قواعد هذا الأدب ونحوه لا تختلف كثيرا عن قواعد لغتنا ونحوها .
ففى العهد القديم إذا يجب أن نرى أقدم مصدر
من مصادر الأدب العربي واللغة العربية ، وذلك لأن ما وصلنا إلى اليوم من آثار الأمم السامية الأخرى ، لا يعادل ما لدينا فى اللغة العبرية من ناحية ، ولأنه ليس تراث بيئة خاصة ، أو نتيجة قريحة عقلية سامية خاصة ، حتى نقول عنه إنه أدب مركزى من ناحية أخرى . فالأدب العبرى أدب نكاد نقول عنه إنه مزيج من آداب الشعوب السامية الحامية . ففيه أثر مصرى ، وأثر بابلى وأشورى ، وفيه أثر صحارى الجزيرة وصفاوة سمائها ؛ وعلاوة على ذلك فهو خير مرآة للعقلية السامية والتاريخ السامى فى العصور المختلفة التى سجل فيها هذا الأدب ودون ؛ وهو بالرغم من قدمه ما زال يوحى إلينا كثيرا من صور الحياة وحالات النفس المختلفة ، كما يتبين لنا ذلك عند ما نعرض لكل سفر من أسفاره على حدة . ولا يمنعنا ذلك من أن نعجل ونقول إن شاعر ألمانيا الخالد ( جوته ) وجد فى أيوب مثاله فى ( فاوست) وتأثر ( دانتى ) بهذا الأدب فى كوميديته الآلهية ، واستعار ( راسين ) منه ( استير ) . وبينما نجد هذا الأدب يلعب دوره الهام فى سائر الآداب العالمية ، إذا بنا نحن الساميين نهمل هذا الكنز الثمين ، بل هذا النبع الذى لا ينضب ، ونترامى فى أحضان الآداب الأوربية ولغاتها ، رغما من الفوارق العظيمة بين مزاج الأوربيين ومزاجنا ، وبيئتهم وبيئتنا ، ونظرهم إلى الحياة ونظرنا ؛ وقد ذهبنا بعيدا ففرضنا معرفة اللاتينية واليونانية على كل طالب يريد أن يتفرغ للعربية ، كما لو أن آلهة الشعر لم تلهم عربيا . ويؤلمنى أيضا أن أقول هنا إن الفكرة السائدة فى مصر أن طالب الآداب العربية يجب عليه أن يعنى بالفارسية والتركية ، كما لو أن أدبنا العربى ينتهى إلى هضاب إيران وبلاد المغول . والواقع أن الفارسية والتركية لغتان آربتان من نتاج عقلية تخالف العقلية العربية السامية مخالفة تامة ، تخالفها فى العقائد والعادات ، فلا قرابة فى اللغة ولا صلة فى التفكير ، وكل
الذى حدث أن غزت العربية وغزا الاسلام هاتين اللغتين ، فأصبح الأثران العربى والاسلامى فيهما من القوة بمكان ، بحيث أفهم أن طالب الآداب الفارسية والتركية هو الذى يجب أن تفرض عليه العربية كما تفرض على طالب اللغة الاسبانية والأدب الاسبانى فرضا .
وإن كنا فى مقال اليوم أوجزنا فى عرض الأسباب التى تحتم علينا وجوب العناية بدراسة اللغات السامية ، فذلك الايجاز لا يمنع من أن نختم كلمتنا بالاعتراف أنه ان نوفق فى خلق أمة صحيحة قوية تصمد لحوادث الدهر وطغيان الطغاة إلا إذا ربطنا ماضينا بحاضرنا وكشفنا القناع عن تراث آبائنا وأجدادنا ، ليسهل علينا أن نوارى هذه الاختلافات السطحية التافهة فيتم التلاقى ، وهذا لن يتم إلا إذا عنينا بلغاتنا الأصلية .
