الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

نحو جمهورية ديمقراطية !..

Share

. . . وكان ما ليس منه بد ! قال الشعب كلمته فحكم على الملكية ورضي الجمهورية نظاما للحكم . لقد اجتمع نوابه الشرعيون ، اعضاء المجلس القومي التأسيسي ، يوم ٢٥ جويلية المشهود بقصر باردو ونظروا فى امر العائلة المالكة التي تصرفت في حظوظ تونس تصرفا فرديا استبداديا مطلقا فى اول الامر ثم لم تلبث ان لعبت دور الستار الذى مسك الاستعمار وراءه بجميع دواليب الحكم وساس هذه البلاد سياسه الاستثمار والقسر والقهر ، ثم نظروا فى نظام الملكية وفي مدى ملاءمته لواقع تونس اليوم ، غداة استقلاها ، فكان حكمهم واضحا وقرارهم باتا في هذه اللائحة التاريخية المعلنة للجمهورية :

" نحن نواب الشعب اعضاء المجلس القومي التأسيسي بمقتضى ما لنا من نفوذ كامل مستمد من الشعب " وتنفيذا لاركان استقلال الدولة وسيادة الشعب " وسيرا في طريق النظام الذي هو وجهة المجلس فى تسطير الدستور " نتخذ باسم الشعب القرار التالى النافذ المفعول حالا: " ١ ) نلغى النظام الملكى إلغاء تاما " ٢ ) نعلن ان تونس دولة جمهورية  . . . الخ "

وقد اختار ممثلو الشعب رئيسا للجمهورية احد ابناء هذا الشعب البررة عرف بحبه واخلاصه للشعب وتفانيه وتضحياته في خدمة الشعب . . . الحبيب بورقية . . .

وان المؤرخين المقبلين اذا هم راموا الالتفات الى هذه الحقبة التي تعيشها تونس والوقوف عند خصائصها وتياراتها ، ملاحظون - بدون ريب - ان اعلان الجمهورية التونسيه لم يثر في داخل البلاد من التساؤل والتخوف والقلق مثلما اثار في الخارج ، ذلك ان الشعب التونسي لم يفاجأ ولا صودم بقرار المجلس التأسيسي بل تلقاه وكأنه ينتظره من امد بعيد ، امرا طبيعيا وظاهرة سوية لم تتأخر عن ميعادها ولا سبقت اوانها . فهو لم يتعد ان كان كالمتفرج فى المسرح تتسلسل امامه فصول الرواية وتجري حوادثها فى نظام واحكام ثم يسدل الستار فليس له

الا التعبير عما خلفت الرواية فى نفسه من الشعور بالرضا او السخط فيصفق او يصفر او يمسك عن هذا وذاك وتكون اللامبالاة . . . ولا تزال حياة الناس في جريانها والكرة الارضية فى دورانها .

وليس معنى هذا ان الشعب التونسي لم يعبأ بهذا الحدث العظيم او ان مشاعره لم تتحرك له ولا اهتزت اليه فتلك سلبية ما عرفها فى تاريخه قط .

بل معناه ان البلاد التونسية لم تعش اياما حمرا ولا مرت بها اضطرابات وهزات عنيفة على نحو ما سجله التاريخ في مختلف الاصقاع على ممر العصور .

ومعناه ان الامة التونسية لم تعش ازمة نفسية كالتى تعانيها الشعوب عندما تختلط امامها القيم وتتوالد الحوادث بسرعة يعسر معها تبين الصالح من الاصلح والأكيد من الاوكد وتلتبس السبل وان اتضحت الغاية .

ومعناه ايضا انها لم تنقسم على نفسها بل ان مختلف طبقاتها الشعبية المتحفزة من تجار وفلاحين وشغالين وطلبة ومثقفين توحد اتجاههم مرة اخرى وتظافرت قواهم وتجاوب شعورهم وثبت عزمهم على كسر التقاليد ونسف العادات وقلب الاوضاع ما دام ذلك ممهدا الى الحياة الحرة الكاملة التى لم تزل غاية هذا الكفاح الجبار الذى قام به الشعب التونسى وضحى من اجله بالاموال والارواح . واذن فاعلان الجمهورية التونسية حادث تاريخى تم انجازه بصورة طريفة لم يسبق لها مثال وعلى اسلوب جديد لم يعتده المؤرخون .

والذى يعلل ما سبق ان الحركة القومية لم تزل منذ نشأتها جمهورية شعبية فى صميمها موفية الى روح هذه الامة التى لم تلن قناتها قط منذ فجر التاريخ والتي لم تقل مقاومتها للاجانب الغاصبين المحتلين منذ الرومان الى اليوم عن مناوءتها للطغاة المحليين وزهدها فى الحكم الفردى الاستبدادي ونفورها منه ، وليس من باب الصدف ان سمى حزب الامة نفسه منذ نشأته بالحرب الحر الدستوري التونسي بل يدل ذلك على ان غاية الكفاح وهدفه الاسمى انما هو الدستور الذي يكفل للشعب الحرية ويضعه فى مأمن من اهواء الطغاة ونزوات الملوك وتقلبات الدهر ويحدد لكل فرد حقوقه وواجباته حتى يتيسر التعايش السلمي بين المواطنين وتتوفر اسباب الاحترام المتبادل والتعاون المشترك على بلوغ الغاية القصوى . فالكفاح من اجل الاستقلال كان يرمى اولا وبالذات الى رفع الحواجز

التي كانت تعرقل سير الشعب نحو الديمقراطية وتحول دونه ودون وضع دستور تكتمل فيه شروط العزة والكرامة والحرية الحق . والاستعمار الفرنسي الى جانب ما كان ينطوى عليه من معانى القهر والنيل من الكرامة كان دائما حريصا على استبقاء النظام الملكى المطلق فى أبشع مظاهره حرصه على صون العادات الفاسدة والتقاليد البالية ما دام ذلك كله سدا فى وجه التقدم وأفيونا مخدرا لاعصاب الشعب وضمانا - بالتالى - لبقائه والمحافظة على امتيازاته .

وقد يحسن ان ندقق ان النظام الملكي ليس فى حد ذاته مدعاة للاستعمار ولا عنصرا من عناصر انتصابه وبقائه . فقد قاوم ملوك هجمات الاجنبي الزاحف وحموا عمى اوطانهم وآثر آخرون الموت الشريف على الحياة الذليلة المنقوصة .

وليس من شك انهم لم يقفوا - كلهم - تلك المواقف لوجه الله ولا حبا لشعوبهم وتفانيا في خدمة اوطانهم بل ان الانانية وروح الاستعلاء واحيانا الشهامة والكرامة الفردية كثيرا ما حملتهم على الوقوف فى وجه العدو ومكافحة الدخيل . على ان الذي لا شك فيه هو ان النظام الملكى بتونس قد سجل له التاريخ أحلك الصفحات سوادا قبل الحماية الفرنسية وبعدها مما يضيق نطاق هذا المقال عن  ذكر تفاصيله . لذا نشأت الامة " التونسية وتبلورت مقوماتها وانتشر الوعي القومي بين افرادها منذ ظهور الحركة الوطنية عامة وغداة مؤتمر قصر هلال الخالد خاصة ( سنة ١٩٣٤ ) الى يوم اعلان الجمهورية . . . كل ذلك وجد بل أوجد نفسه وفرضته طبيعة الأشياء في هذه البلاد بدون آن يقام للعائلة المالكة وزن ومن دون ان يأبه احد بالنظام الملكى او يذكر وجوده ويقرأ له حسابه . بل ان سلوك " البايات " سواء لسوء تفهمهم لمطامع الشعب او لمراوغاتهم ووضيع ألاعيبهم او احيانا لمناوءتهم لقادة الامة واستخفافهم بمصالحها العليا كثيرا ما اثاروا حفيظة التونسيين الاحرار وآلموهم واستحقوا سخطهم ونقمتهم . فانعدمت الصلة بين البلاد الشرعية " حينذاك " والبلاد الحقيقية " ، كما يقال ، بين بقايا الماضي وقوى المستقبل المتحفزة .

واذن فاعتماد الشعب التونسى على نفسه اثناء الكفاح المرير و " جهله " للعرش علماه ممارسة الجمهورية ومكناه من ان يحياها ويتشبث بمبادئها وينفذ اصولها وفروعها في واقعه اليومى : مؤتمرات الشعب والجامعات ، تأسيس

الجمعيات والمنظمات وشتى المشاريع وما يستتبعه كل ذلك من مناقشة وتداول وتشاور وانتخاب وانتباه وتفكير في الانتخاب بحيث يمكن القول بدون مجازفه بان الجمهورية التونسية واقع ملموس وحقيقة ماثلة منذ عشرات السنين انما اقتصر نواب الشعب فى جلستهم التاريخية يوم ٢٥ جويلية على اكسائها الثوب الشرعي وصبغها بالصبغة القانونية . وهذا كله يعلل ما ذهبنا اليه من ان اعلان الجمهورية لم يهز البلاد هزات عنيفة ولا احدث بلبلة وتطورات اجتماعية او نفسانية كما هز وأحدث فى بلاد اخرى في عصورنا الحديثة وقبلها .

كل ذلك لا يمنعنا من ان ننظر فى اعلان الجمهورية في حد ذاته كحادث طرأ على هذا المجتمع من شأنه ان يغير طبيعة العلاقات بين المواطنين بعضهم مع بعض اولا وبين هؤلاء واولي الامر ثانيا .

والحقيقة انه اذا نظرنا الى نشأة الجمهورية التونسية الفيناها ثورة باتم معني الكلمة وخطوة شاسعة قطعها الشعب التونسى في سبيل الديمقراطية الحق التي هي طريق الحرية والازدهار والسعادة .

واول ما يخالج نفس المواطن بعد انهيار عرش البايات شعور بالانطلاق والتحرر والرقي الى المنزلة التى هو مهيأ لها بالطبع والتي تجعله وبقية المواطنين على صعيد واحد وفى مرتبه واحدة ، لا أعلياء ولا أدنياء ، يستمدون جميعا حرمتهم وكرامتهم من انتسابهم الى جنس واحد ، جنس الانسان الذي خصه الله والعقل السامي وأفرده بالشعور الراقي وألهمه التعلق بالكرامة والتشبث بالمساواة .

النظام الملكي - لو حللته - يقوم على اساس التفاوت في المنزلة بين الافراد  ويوطد اركانه على إيهام الناس بانهم ليسوا من طينة واحدة بل خلقوا بعضهم ليسوس ويسود وبعضهم ليطيع ويخضع . لكن التاريخ يشهد بأن انتصارات الجماهير فى اطراد وان وعى الشعوب والافراد في نمو لا سيما في القرنين الاخيرين ، بحيث يشعر التونسيون بانهم اليوم اجتازوا مرحلة ودخلوا ثانية فيها اسباب العزة والكرامة وفيها اسباب الانعتاق والحرية والمساواة .

والى جانب ذلك ، ولانهم احرار متساوون ، فقد ادركوا معنى " المواطنية " ادراكا اعمق واوسع من ذى قبل . والمواطنية هي الشعور بالانتساب الى جماعة على

اساس عقد مبرم بين جميع افرادها يحدد ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات فتصبح العلاقات التى تربط بعضهم ببعض " عضوية " ايجابية بعد أن كانت " آلية " سلبية ، وعن ذلك تنبثق طبيعة دواليب الحكم وانواع السلط وعلاقاتها بعضها ببعض وما الى ذلك مما هو معروف ، وانما الذى اتاحته الجمهورية هو مستوى الرشد الذي يجعل كل فرد مسؤولا عن نفسه ومسؤولا عن غيره ومسؤولا - فى آخر الأمر - عن مصير بلاده وتلك ارقى منزلة يطمح اليها المواطنون فى الامم الراقية ، ولا يشير " جوريس " الزعيم الاشتراكى الكبير الى سوى ذلك عندما يقول فى " خطابه الى الشباب ": "الجمهورية تقتضى ثقة كبيرة وجسارة عظيمة ، فاعلان الجمهورية معناه الاعلان بان الملايين من البشر سيعرفون كيف يضعون الخطة المشتركة لعملهم وكيف يوفقون بين الحرية والقانون ، بين الحركة والنظام ، وانهم سيتناقشون من دون ان يمزقوا بعضهم بعضا وان خلافاتهم لن تبلغ حد الهيجان الذي يفضي الى الحرب الاهلية وانهم اخيرا لن يلتجئوا ابدا الى ديكتاتورية ولو محدودة في الزمن لينعموا براحة مشؤومة .. "

ومن كل ذلك نستنتج ان اعلان الجمهورية اذا كان فى حد ذاته حدثا عظيما في تاريخ الامه التونسية الا انه ليس غاية تقصد لذاتها بل هو فى حقيقة الام نقطة نقطة انطلاق ، بالنسبه للشعب ، وتحرر امكانيات ، وفرصة الى بلوغ اعلى مراتب الى الرفعة الانسانية . هو عمل يرشده ويلقي مسؤولية مصيره على عاتقه ؛ ولنا في ماضي هذا الشعب وحاضره ، خير ضمان لمستقبله الزاهر.

اشترك في نشرتنا البريدية