الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "الفكر"

نحو ميسر وكتابة ميسرة

Share

سيداتى وسادتى . أريد ان اتحدث اليكم الليلة فى موضوع عسى ان يكون ثقيلا ، واعتذر اليكم من ثقله فالحق ثقيل دائما ، لا يخف الا على اولي العزم من الناس ، والعهد بكم انكم من اولي العزم لانكم من العرب الذين يؤثرون الجد على الهزل ، ويفضلون الصراحة على المداراة والمواربة وبيني وبين الذين سينكرون ما اقول كله او بعضه ما قاله ابو العلاء

خذي رايبى وحسبك ذك مني               على ما في من عوج وامت

وماذا يبتغى الجلساء      منى               ارادوا منطقي وأردت صمتى

ويوجد   بيننا     امد    قصى              فأموا سمتهم واممت سمتي

والموضوع ثقيل لانه يتصل باللغة العربية الفصحى ويتعليم الشعب فما اكثر ما نتحدث عن هذه اللغة العربية الفصحى . وما اكثر ما نعلن اعتزازنا بها واعتدادنا بتراثها وحرصنا عليها وعلى تراثها العظيم ويقيننا انها هى اساس وحدتنا وهى العروة التى تجمع الشعوب العربية على اختلافها وتباعد اوطانها والعروة التى لا انفصام لها . نتحدث عن هذا فنكثر الحديث ونقول فى هذا فنطيل القول ونملأ به افواهنا وتطمئن قلوبنا وتثور له نفوسنا ، واذا نحن نفيض إيمانا وثقة واملا ويقينا ، فاذا فرغنا من هذا كله ، وثينا الى نفوسنا او ثابت نفوسنا الينا وهدات عنا الحماسة ، اكتفينا بما قلنا وبما سمعنا وبما صفقنا وبما صحنا ، ثم لم نكد نصنع شيئا .

ولست انكر ان علماء اللغة فى البلاد العربية على اختلافها يبذلون جهودا عنيفة وينفقون من اوقاتهم ومن نشاطهم اكثر مما يطيقون لحماية اللغة وصيانتها وحراستها والمحافظة عليها من كل عبث او كل شر يمكن ان يصيبها ولكن السؤال الخطير الذى القيه الان واريد ان يلقيه كل واحد من حضراتكم عن ثقة هو :

لمن نحفظ هذه اللغة ولمن نصونها ولمن نريد ان نخلدها ؟ ولمن ننفق كل ما ننفق من جهد ووقت ومال فى سبيل هذا كله ؟ انفعل هذا كله لانفسنا لنستأثر بالعلم وليقال اننا علماء ، حفاظ ، نتصرف فى اللغة العربية بعد ان طوعناها بقدرتنا

ونستطيع ان نصرفها كما نحب ونهوى ؟ ام نحن نفعل ذلك لتكون هذه اللغة ملكا للشعوب العربية كلها . لا لطبقة معينة منها هى طبقة العلماء الائمة ، الحفاظ ، ولكن لجميع طبقات الشعوب العربية ، الطبقات الممتازة او الراقية والطبقات الوسطى والطبقات الفقيرة .

وهذا السؤال هو الذى اريد ان ادير الحديث حوله هذه الليلة . اما ان فينا علماء ، فهذا ليس فيه شك ويكفى ان اكون في دمشق وان القى الاعلام من اعضاء المجمع العلمي دمشق وان القى هذه الطائفة الممتازة من المثقفين الشاميين لاقتنع بان اللغة العربية حية قوية وان لها حفاظا وان لها انصارا يذودون عنها ويحمونها ، يذودون عنها الشر والعبث والفساد وما اشك ان في البلاد العربية الاخرى شيئا يشبه ما فى الشام كثيرا او قليلا ولكن الشىء الذي لا شك فيه هو ان هذه اللغة العربية التى يبذل فى سبيلها كل هذه الجهود وينفق فى سبلها كل هذا الوقت هذه اللغة لم تصل بعد الى الشعوب ، او لا يكاد يصل منها إلى الشعوب الا اصداء لا تغنى عنها شيئا .

وليس ادل على هذا من اننا اذا استقصينا امر اللغة العربية فى الاقطار العربية ، فسترى ان اكثر الذين يقرؤون ويكتبون لا يستطيعون ان يقيموا السنتهم بهذه اللغة الفصحى وسنرى شرا من هذا سنرى كثيرا من الشباب فى غير قطر من الاقطار العربية بفكرون ويعلنون ان هذه اللغة اصبحت عاجزة عن ان تساير الحياة الحديثة ويفكرون ويعلنون ان هذه اللغة اصبحت عاجرة عن ان تعرب عن ذات النفوس فى هذا العصر الحديث .

ويفكرون ويعلنون ان هذه اللغة اصبحت لا تصلح لتكون لغة الكتابة ، ولغة الادب فى بعض البيئات ، وما اكثر الذين اخذوا ينحرفون عن هذه اللغة الى اللغة العامية التى يتحدثها الناس فى الشوارع ، وفي القرى ، وفي اعماق الريف يكتبون بهذه اللغة ، يرون الكتابة بها ايسر من الكتابة بهذه اللغة العربية الفصحى ويرون هذه اللغة العامية اطوع لهم واقدر على تصوير عواطفهم واهوائهم وميولهم وما يجول فى رؤوسهم من الخواطر والمعاني من اللغة العربية الفصحى .

ويعللون ذلك باسباب كثيرة اهمها انهم لا يستطيعون ان يتعلموا اللغة العربية لا نهاية عسيرة ولانها مملة ولان التلميذ اذا ذهب الى المدرسة واستمع إلى دروس الاستاذ فى اللغة العربية فى النحو او فى الصرف او في البيان لم يستفد

من استاذه ولا من دروس استاذه الا شيئا واحدا وهو النفور من الاستاذ والنفور من اللغة العربية والانصراف الى اى شىء اخر يلهيه ويريحه من هذا العناء الثقيل ولا تظنوا اننى ابالغ ، او اتكثر ، فهذه حقيقة واقعة لا ينكرها الا المكابرون ، ولا تقولوا ان المدارس قد اخرجت طائفة من الكتاب والادباء الممتازين فهؤلا هم الشذوذ الذى يثبت لقاعدة او الاستثناء الذى يحقق القاعدة كما يقال ولكن التلاميذ فى المدارس لا يبغضون شيئا كما يبغضون دروس اللغة العربية وهم مع ذلك اذا استمعوا لمحاضرة عن اللغة العربية ومجدها القديم وتراثها الخالد العظيم ، ثاروا حماسية وامتلاؤوا نشاطا وايمانا واعجابا بهذه اللغة ولكنهم حين تسقط عنهم الحماسة يعودون الى تذكر الاستاذ وكلامه الثقيل . . الذى كان يمليه عليهم او يلقيه عليهم فى المدرسة وهذه الاسئلة الشاقة التى كان يمتحنهم بها بين حين وحين .

والامر اشد من هذا كله خطورة فنحن فى هذا العصر الحديث الذى نعيش فيه قد امنا بان التعليم حق للشعب كله ، منذ السنين المبكرة ، الى ان يبلغ الفتى او تبلغ الفتاة الرشد واذن فنحن لا نبيح التعلم للقلة التى وقفت نفسها على ان تتعلم واتاحت لها الحياة ان تفرغ للتعليم وان تنفق فيه شيئا من الجهد والوقت والمال وانما تفرض هذا التعليم على الاغنياء والفقراء وعلى الاقوياء والضعفاء وعلى القادرين والعاجزين . نفرض هذا التعليم على الشعب كله ، ونعاقب الذين يقصرون فى اداء هذا الواجب ، وهو تعليم انفسهم اولا وتعليم ابنائهم وبناتهم بعد ذلك .

قوانيننا تعاقب الذين يقصرون فى تعليم ابنائهم وبناتهم ومعنى هذا اننا نفرض التعليم على هذه الملايين الكثيرة التى تتألف منها الاجيال فى هذه البلاد العربية

واذا فرضنا التعليم على كل هذه الملايين فيجب ان نبتغى الى هذا التعليم وسائله الصحية التى تنتهى به الينا حقا ويجب ان لا نكلف الكثرة الضخمة التى نعلمها الان فى مدارسنا . يجب ان لا نكلف هذه الكثرة الضخمة من البنات والبنين ما نكلف به القلة التى يتاح لها الوقت والجهد ، والمال . واذن فلا بد من ان يكون التعليم يسيرا ، ومن ان يكون قريبا ، ومن ان يكون سائغا ، لا تجد فيه هذه الكثرة مشقة ولا عنفا ، ولا تحتاج فيه الى هذا العناء الثقيل الذى يفرض على ابنائنا فرضا .

واخرى ليست اقل من هذه خطورة وهى اننا نعيش الان في القرن العشرين اى فى العصر الذى تغير فيه التاريخ ، وتغيرت فيه الحضارة المادية تغيرا تاما

وتغيرت فيه الثقافة العقلية تغيرا يوشك ان يكون تماما ايضا وتغير فيه العقل نفسه بيحكم ما طرأ على الحضارة والثقافة من تغير وما زلنا نعلم اللغة العربية في مدارسنا ومعاهدنا كما كان القدماء يعلمونها فى معاهدهم ومدارسهم منذ اكثر من الف عام وقد نستطيع ان نطلب الى القلة القليلة جدا ان تحتمل هذا العناء وان تتكلف هذا الجهد وان تخرج من القرن العشرين لتعيش فى القرن الثامن او التاسع للميلاد ، لتتعلم النحو والصرف واللغة كما كان القدماء يتعلمونها . ولكنك لا تستطيع بحال من الاحوال ان نطلب الى هذه الملايين الكثيرة ان تبذل هذا الجهد وتحتمل هذا العناء وتخرج من حياتها التى تحياها بالمشقة والكد والعناء لتعود الى حياة اخرى لعلها لا تعرف من امرها شيئا ، فعند ما تريدون ان تعلموا هؤلاء الاطفال في المدرسة الابتدائية او هؤلاء الشباب فى المدارس الثانوية ، عندما تريدون ان تعلموهم النحو ، تعلمونهم النحو كما كان المبرد واستاذه المازنى وتلاميذهما المختلفون يعلمون فى مساجد البصرة ، وكما كان الكسائى والفراء يعلمان في مساجد الكوفة ، او فى مساحد بغداد والفرق بعيد بين المدرسة الابتدائية التي تنشئها في اعماق القرى وبين مسجد البصرة ، او مسجد الكوفة او مسجد بغداد ، والفرق هائل جدا بين القرن العشرين وبين القرن الثامن او التاسع حين كان يعيش هؤلاء العلماء

وكان القدماء يعيشون عيشة خاصة ويتأثرون من ناحية البداوة العربية الاولى ومن ناحية اخرى بالفلسفة اليونانية الطارئة ومن ناحية ثالثة بالحضارة الفارسية المادية التي أحاطت بهم وشملتهم شمولا . أما نحن فقد صرفنا عن البداوة العربية الاولى واغرقتنا الحضارة الحديثة الى آذاننا وقد أنستنا فلسفة ارسطاطاليس وغيره من قدماء اليونان واصبحت هذه الفلسفة لا يعرفها الا الاقلون من امثال الصديق الدكتور منصور فهمى والدكتور جميل صليبا واصبحت الحضارة الفارسية شيئا يعني الفرس حين يدرسون تاريخهم ، أما حضارتنا الان فهي الحضارة الحديثة ونحن نعني بحضارتنا القديمة لنستبقى منها ما يصلنا بالقديم حتى لا تفنى شخصيتنا وحتى لا نفقد عروبتنا وحتى يظل الاتصال قويا بيننا وبين ماضينا المجيد ، فاذا اردتم ان تعلموا النحو لهؤلاء التلاميذ المساكين فكيف تريدونهم ان يفهموا ان قولك -قرىء الكتاب- فعل مبنى للمجهول والكتاب نائب عن الفاعل لان الفاعل قد حذف لغرض من الاغراض التى تذكر فى علم المعانى وعلم النحو وانيب عنه المفعول به . كيف تريد من التلميذ المصرى او الشامي او العراقى الذى لم تتجاوز سنه الثانية عشرة

ان يفهم هذا الكلام . ما هذا الفاعل الذي حذف ؟ وما هذا المفعول الذي أنيب عنه ؟ ما هذا المجهول الذى بنى له الفعل ؟ وعندما تريد ان تفهمه قول الله تعالى (او ان احد من المشركين استجارك ، فأجره حتى يسمع كلام الله ، ثم ابلغه مآمنه ) قلت له : - ان احد - فى قوله - وان احد من المشركين - فاعل لفعل محذوف تقديره استجارك وان تقدير الآية - وان استجارك احد من المشركين استجارك ، فيسألك التلميذ واين توجد استجارك الاولى هذه ومن اين نأتى بها ؟ وفى وجود هذا الفعل مرتين ، ولم لا نكتفي بهذا الفعل الذي اكتفى به القرآن الكريم ..كيف تجيبونه ؟ . أما انا فقد سألت احد الشيوخ عن اعراب هذه الاية فاعربها كما تسمعون فقلت له يا سيدى أتزيد فى كتاب الله ؟ فضحك ..

وعلة هذا ان النحاة القدماء قرروا فى قواعدهم أن حرف (ان) لا يدخل الا على فعل ، ولما جاء فى القرآن وفى كلام العرب (ان) وبعدها اسم لم يخضعوا لما جاء فى القرآن ولم يخضعوا لما جاء فى كلام العرب نثرا وشعرا ، وانما ارادوا ان يخضعوا القرآن للقاعدة التى قرروها ، وقد طوعت لهم فلسفتهم هذا النحو من التصرف واستطاعوا ان ينهضوا باثقاله ، لان عقولهم فى تلك الاوقات ، فى تلك السنين ، كانت عقولا فلسفية متأثرة (بالمتافيزيك) أو بالميتافيسقة - كما يقولون - التى تركها ارسطاطاليس ، وورثها العرب ، فكانوا يستطيعون أن يفهموا مثل هذا الكلام ، ولكن شبابنا فى هذه الايام يعيش فى عصر لا يكاد يحفل بالميتافيزيك وما بعد الطبيعة ، ويعيش فى عصر لا يكاد يعرف ارسطاطاليس منه الا المختصون ، فاذا قلت لهم بالفعل ، وحدثتهم عن الفعل المحذوف الذى يفسره ما بعده ، وذكرت لهم هذا الفعل حاروا فى أمره حيرة بعيدة ، واذا اردتم ان تعلموا التلميذ - فأما ثمود فهديناهم - فأفهمتموه أن ثمود ليست مفعولا لهديناهم ، وانما هى مفعول لفعل محذوف تقديره هدينا ، ثم قلتم معنى الآية أو تقدير الاية - فأما ثمود هديناهم - لم يستطع التلميذ إلا ان يضحك اولا ، ويسخر ثانيا ، وان ينصرف عن الاستاذ ودرسه بعد ذلك ، والحمد لله على انه لا ينصرف عن الاسلام ولا عن القرآن إذ الاسلام والقرآن أقوى من أن يؤثر فيهما مثل هذا العبث ، او اذا قلت للطالب أول للتلميذ نحن  المصريين نفعل كذا ، أو نحن السوريين نفعل كذا ، وطلبت اليه ان يفسر هذا أو يعربه ، افهمته أن هناك فعلا محذوفا تقديره أخص ، نحن أخص السوريين نفعل كذا ، ما موقع

اخص هذه ؟ لا معنى لها مطلقا الا اننا وجدنا هذه الكلمة منصوبة ووجدنا هذا التعبير يدل على التخصيص ، فقدرنا هذا العقل ولنا ان تقدر ما نشاء ، ولكن التلاميذ لهم ايضا عقول صغيرة ساذجة ، لا ينبغي أن نكلفها ما لا تطيق . واذا قلت للتلميذ - اياك والكسل - وطلبت اليه اعراب هذه الكلمة ، اخترعت له فعلا مقدرا لا ادرى ، ولا يدرى هو أين يكون ولا من أين جاء - أحذرك - ونظرا لانك حذفت الفعل فقد اضطررت الى ان تستعمل الضمير المنفصل مكان الضمير المتصل فلم تقل -كالنار - وانما قلت - اياك والنار.

كل هذا كلام انا شخصا أحبه أشد الحب ، واؤكد لكم أن النحو أحب علوم اللغة العربية الى واؤكد لكم اننى آجد لذة لا تعدلها لذة حين اجلس الى الصديق ابراهيم مصطفى ونتذاكر بابا من ابواب النحو ، ونحاول اعراب آية من آيات القرآن على قواعد النحويين ، ولا انسى انى تذاكرت معه غير مرة في اعراب الآية الكريمة : - ولا على الذين اذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا اعينهم تفيض من الدمع حرنا أن لا يجدوا ما ينفقون - كيف يكون اعراب هذه الآية ، ولا هناك : - اذا ما أتوك لتحملهم قلت : - ثم تولوا - فعلان فـاذا - محتاجة الي جواب ... أين يكون الجواب بين هذين الفعلين ، بين - قلت لا اجد - او بين - تولوا - ويكفى ان تنظروا الى اعراب القرآن لابن حيان لترو ما يقال هناك ، ولكن كل هذا العمل ما يعمل به التلميذ في المدارس .

هذا فصل ، وفصل اخر ليس اهون منه الاصل ، ان الناس يكتبون ليقرؤا ويقرؤن ليفهموا ، ونحن نكتب لنقرأ ، ولكننا لا نقرأ لنفهم ، وانما نفهم اولا لنقرأ بعد ذلك ، وادا كان هذا جائزا بالقياس الى الممتازين النابهين النافذين ، فهذه الملايين ما الذى تطلبونه اليها ؟ كيف تطلبون من هذه الكثرة من الاطفال الصغار ، فى هذه السن المبكرة ، ان يفهموا الكتب التى تعطى اليهم بالمدارس ليقرؤوها كما ينبغى ان تقرأ ، ويجب عليهم ان يفهموها قبل ان يقرؤوها ، او ان يقرؤوها خطأ فيلقون من اساتذتهم ومعلميهم سخطا ، فلا بد اذن من ان نختار بين اثنتين اما ان نريد المحافظة على اللغة العربية فى مجامعنا العلمية على اختلافها فنود عنها كل شر ، ونحميها من كل بأس ، ونحيى تراثها القديم ، ونجتهد في ان نضيف اليه كل جديد ممكن ، ينفع ولا يضر .

اما ان نكون نفعل هذا كلة لانفسنا واشباهنا من المتخصصين ولا نحفل بالشعب ولا بتعليم الشعب ، واذن فنحن لا نصنع اكثر مما يصنع المتخصصون في اللغة اليونانية القديمة ، وفى اللغة اللاتينية القديمة ، اي ما يصنعه المتخصصون في اللغات الميتة .

اتريدون ان تكون اللغة العربية احدى هذه اللغات الميتة التى يفرغ لها المتخصصون ولا يحسها غيرهم .

هذه واحدة والثانية ان نكون انما نفعل هذا كله لتكون اللغة العربية لغة حية حقا كما تحيا اللغات الالمانية والايطالية والفرنسية والانكليزية والاسبانية وغيرها من اللغات الحية التى يتكلمها الناس ويكتبون بها ويفهمونها حين يقرأونها ، او يقرأونها ليفهموها فادا قرأوها فهموها فى غير مشقة ولا عسر ، واذا تعلموها فلا يجدون فيها جهدا ، ولا مشقة ولا عناءا الا ما يجده التلميذ فى حياته العادية حين يتعلم أى شئ من هذه الاشياء التى يتعلمها فى صباه ،

ولم اذهب بعيدا ؟ .. انظروا الى تلاميذنا في المدارس الثانوية اننا نعلمهم اللغة العربية ونعلمهم لغة اجنبية او لغتين اجنبيتين .. فى اى اللغتين يتثقف هؤلاء التلاميذ إلى النطق والفهم والحديث.. اتظنون انهم ينثقفون باللغة العربية .. اتظنون انهم يسرعون الى التحدث بالعربية الفصحى ، ويسرعون الى قراءتها او فهمها ام الواقع شئ اخر.. اما انا فقد جربت كثيرا ، والذى اعرفه من التجربة ان تلاميذنا يتعلمون اللغة الانكليزية والفرنسية اسرع مما يتعلمون اللغة العربية ، لولا ان عواطفهم تفرض عليهم شيئا من التحفظ وتفرض عليهم شيئا من الجهد .

اوءكد لكم ايها السادة ان كل هذا الذى عرضته عليكم حتى الآن انما يصور خطرا محققا اشرت اليه فى افتتاح مؤتمر المجامع العلمية منذ يومين ، واضيف اليه ان هناك كتابا كبارا يقرأون فى الشرق العربي كله ، ويطالب بعضهم الان بإلغاء الاعراب والغاء قواعد .. انا اطالب بتيسير قواعد النحو وتيسير الكتابة العربية لتشجيع اللغة العربية ، وتصبح لغة الشعوب حقا ولغة حية حقا ولكن من الناس من كتبوا فى هذه الايام القريبة يطلبون الغاء قواعد الاعراب وتسكين اواخر الكلام لا لشئ الا لا نهم لم يتعلموا الغة العربية حين كانوا تلاميذ فى المدارس ، لا لشئ الا لان النحو القديم والكتابة الموروثة والاساتذة

الذين يعملون بالنحو القديم والكتابة الموروثة كل اولئك عجزوا على ان يحسبوا هذه اللغة الى الكاتب الكبير وبغضوا اليه العربية الفصحى ، وغرسوا في نفسه هذا البغض واصبح الان لا يكره شيئا كما يكره التكلم بهذه اللغة ، ولا يتحرج ان يطالب بالغاء قواعد الاعراب وتسكين اخر الكلمات ، وجعل اللغة العربية الفصحى كابى لهجة من اللهجات العامية .

انتم كذلك بين اثنتين اما ان تريدوا وحدة الشعوب العربية حقا وتكونوا مؤمنين بهذه الوحدة حراصا عليها مستعدين للجهاد في سبيلها بالحياة والنفوس والاموال والمنافع ، مهما تكن واذن فلا بد من ان تجعلوا لغتكم العربيه التي تكون وحدتكم لغة الشعوب لا لغة الخاصة .

واما ان يكون حديثكم عن هذه الوحدة كلاما لا اكثر - واعوذ بالله واعيذكم من ذلك - فدعوا اللغات العامية إذن تصبح لغة الكتابة وانظروا بعد ذلك اذا اراد السورى ان يقرأ لكاتب مصرى كيف يضطر إلى ان يترجمه الى لهجته السورية ويضطر العراقي اذا اضطر ان يقرأ لسورى ان يترجمه للهجته العراقية .

اختاروا فلس لكم بد من الاختيار ، ان نحن مضينا فيما نحن عليه وابينا ان نيسر النحو والكتابة وان نتيح للشباب والصبية ان يقراوا ليفهموا لا ان يفهموا ليقرأوا ، ان ابينا ذلك لا بد ان تنشأ عن هذه اللغة العربية الفصحى القديمة الغات مختلفة كما نشأت الفرنسية والايطالية والاسبانية والبرتغالية عن اللغة اللاتينية القديمة .

ماتت اللاتينية وخلفها ابناؤها وبنانها ، فهل تريدون ان تموت اللغة العربية وان تخلفها بناتها التى نشأت بالفعل فى الاقطار العربية المختلفة . هذه هي المسألة : اختيار ، وانا اعلم انه ليس اشق على الانسان من الاختيار فنحن نحب القديم ولا نستطيع التفريط فيه الا بعد مشقة وجهد وعناء وبعد ان تتمزق قلوبنا حسرة ولكن لا بد مما ليس منه بد .

وبعد فاني لا ادعو العرب الى ان يهجروا القديم مطلقا وعسى ان اكون من اشد الناس محافظة على قديمنا العربي ، ولا سيما فى الادب واللغة ولكن لم لا يكون النحو القديم

والكتابة القديمة والبلاغة القديمة وكل هذه العلوم العربية التى انشئت فى عصر غير هذا العصر الذى نعيش فيه . . لم لا يكون هذا كله متطورا كما تطورت اللغة نحفظ قديمه لدرس المتخصصين فى الجامعات وفى المعاهد وتخصص للملايين البائسة من الصبية والشباب ان يتعلموا تعلما قريبا سهلا عسى ان يتخرج من بينهم من يضيف الى ثروة هذا القديم ويحسنه اكثر مما نحسنه نحن ويحيى هذا التراث القديم اكثر مما نحييه نحن .

انا اعرف ان هذا كله لا يرضى كثيرا من الناس لا فى دمشق وحدها بل فى مصر وغيرها من البلاد العربية ولكنى لا احب ان اكذب العرب وقد قيل ان الرائد لا يكذب قومه ولا احب ان اكون كهؤلاء الذين يقولون ان أمة محمد بخير ولا اريد ان اكون كهؤلاء الذين يطمئنون فى المكان القلق ، انما احب واحب للمواطنين من العرب ان يكونوا ايقاظا لا نياما وان لا يؤخذوا على غرة ، وان لا بنظروا ذات يوم قادا هم يدرسون ويجتهدون ويجدون ويكدون لانفسهم لا للشعوب ، لابد ادن ان ننظر الى هذا كلية وان ننظر فيه نظرة الشجعان الذين يواجهون الحقائق و لا يستخفون منها ونظرة الناصحين الذين لا يريدون ان يستاثروا بالعلم دون العامة ودون الشعب ، وحسب الدنيا شقاء ان يكون المستائرون بالمال ، والمستأثرون بالحياة المادية وشر الاستئثار هو الاستئثار بما خلقه الله ليكون شائعا بين الناس جميعا وهو العلم والمعرفة والثقافة ، لا ينبغي لعلماء اللغة العربية ان يؤثروا انفسهم بالعلم العربى ، بل يجب عليهم ان يشيعوه ولا ينبغى عليهم ان يظنوا انهم حين ينشرون كتابا من كتب القدماء يشعونه حقا .

فالكتاب لا يشاع الا بين الذين يستطيعون ان يقرأوه او يفهموه او يتصرفوا فيه ، سلوا انفسكم كم عربيا قرأ هذا الكتاب او ذاك من كتب الجاحظ سلوا انفسكم كم عربيا قرأ كتاب البخلاء .. او كتاب التربيع والتدوير ؟ وما شئتم من الكتب القديمة التى نقرأها فنجد فيها المتعة والتى يقرأها المستشرقون فيجدون فيها المتعة . . سلوا انفسكم كم عربيا قرأ هذه الكتب ؟ .. قرآها العلماء واشباه العلماء وطلاب العلوم العالية ، فاما ملايين العرب فلا يعرفون عنها شيئا واعرف قوما اذا ذكرت لهم هذه الاشياء هزوا رؤوسهم ورفعوا اكتافهم ، واستهزءوا  من ذاكريها .. وقرأت ذات يوم في احدى الصحف من ينكر على دار الكتب

نشاطها فى مصر وقال ان هذه الدار لم تطبع الا كتابا واحدا وهو كتاب " الفاضل " لابي يزيد المبرد ، ينشر هذا ايها السادة في صحيفة يومية ، كتاب الفاضل لابي يزيد المبرد ، هذا الكتاب ينشر والصحيفة التى نشرت له لا تعرف ان المبرديسمى " ابا العباس محمد بن يزيد " وانما يجعله أبا يزيد المبرد والكتاب لا يسمى- الكامل- بل يسمى - الفاضل - وعلى هذا النحو.. وبالطبع فوق كل ذي علم عليم .. قد يكون للمبرد كتاب يسمى الفاضل ولكنى اعترف اننى لم اقرأه ولم اسمع به قبل اليوم .

ليس من شك في انى اتحدث فى هذا كله ، اتحدث الى فريقين من الناس اتحدث قبل كل شئ الى العلماء الذين يستطيعون الخير ولكنهم لا يقدمون عليه ، ثم اتحدث الى الشباب المتعلمين الذين من حقهم ان يطالبوا العلماء ان ييسروا لهم لغتهم وبان لا يباعدوا بينهم وبين عروبتهم ولا اشك ولا يجد الشك الى نفسي سبيلا بان الحكومات العربية اذا قال لها العلماء هذا هو النحو الجديد الميسر الذى يلائم الشباب فى هذا العصر ولا يمس جوهر اللغة العربية من قريب ولا بعيد ولا يغير من طبيعة اللغة العربية شيئا ولكنه يتيح للشباب ان يتعلموا اللغة وان يتقنوها وان يفهموها ، لا شك مطلقا بان الحكومات عندما يقدم اليها العلماء هذا النحو وعندما يقدم اليها هذه الكتابة اليسيرة التى تتيح للشباب ان يقرأوها قراءة صحيحة ويفهموا فهما صحيحا ويجعلوا اللغة جزءا من قلوبهم ويجعلوها جزءا من حياتهم اليوم اليومية لا لغة متكلفة يتكلفونها ان استطاعوا ان يتكلفوها فى اوقات الحاجة ، اذا قدم العلماء هذا كله الى الحكومات فانا مطمئن كل الاطمئنان الى ان جميع الحكومات العربية لن تتردد في اقرار هذا النحو وفي اقرار هذه الكتابة وفي اشاعة هذا النحو فى المدارس وفى اشاعة هذه الكتابة ايضا.

ولقد رأت مرة كتابا من كتب المطالعة فى المدارس الابتدائية عندنا في مصر طغت عليه (البداغوجية ) فزعمت ان اللغة العامية قد تكون ايسر لأفهام الصبية فادخلت بعض الجمل وبعض الالفاظ العامية فى هذا الكتاب فلما تحدثت في ذلك الى وزير التربية والتعليم لم يتردد فى ان يعدني بالنظر في تلك الثورة فقدموا ايها السادة العلماء ، والحديث هنا موجه الى مجامعنا الثلاثة التى تاتمر الان في هذه العاصمة العربية الخالصة ، قدموا ايها السادة العلماء الى الحكومات كتابات ميسرة ونحوا ميسرا وقربوا لغتكم من الشعوب وثقوا بانكم ان فعلتم فستبلون بلاء خيرا من البلاء العظيم الخطير الذى ابلاه نحاة البصرة والكوفة وبغداد فى العهد القديم .

اشترك في نشرتنا البريدية