الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

ندوة القراء

Share

طلبت مني أيها الاخ الكريم أن اقدم لقراء " الفكر " نقدا للمجلة بمناسبة استئناف بروزها في فاتحة هذا الموسم . واني بقدر رغبتي في الاستجابة الى طلبك اشعر في نفس الوقت بمشقة المهمة التي ألفيتها على عاتقي وبالخطر الذي سيحدق بي أثناء ركوبي هذه المغامرة .

لانها مغامرة ومن الطراز الاول ! فكأني بأسرة " الفكر " وقرائها الغيورين على المجلة سيضيق صدرهم بكلامي فيتغاضون لبعضه وينقمون على البعض الآخر ويلعنون كاتب هذه السطور .. لانهم محبون والمحب لا يسلم أبدا بأن الحسناء " لا تعدم دامة " كما يقول المثل بل لا يزال المحبوب في عينه آية من آيات الكمال .

ولكن لا بأس فالحب انواع شتى واذا كان منه ما قتل فمنه ايضا ما اكسب المحب طباع السباع الضواري . فلا كن ضاريا ...

يستطيع المتأمل في انتاج ما يدعى بالمجلات " الثقافية الادبية الفنية الجامعة " سواء منها الاسبوعية او الشهرية ان يتبين فيه بصورة عامة صنفين كبيرين :

الاول وهو صنف المجلات الخفيفة الروح الشديدة التنوع في المواضيع والتي تعالج ما تعالجه من مطالب بروح ملؤها التشكك اللطيف مع القصد فى التعبير عن العاطفة مهما كانت مشبوبة صادقة . وهذه المجلات هى التى تدعو الى تحرر فى الحب ( الحب بين المرأة والرجل ) كثيرا ما يبلغ حد التفسخ الخلقي وهى التى تعتنق فى الادب مبدأ الفن للفن وتعطي الاولوية لمشاكل الفرد على مشاكل المجتمع وتدين فى الاقتصاد بقداسة رأس المال وحرمة المزاحمة وتدين فى الاجتماع بالمحافظة على النظام الطبقي وفي السياسة بالمذاهب " الاطلسية " وتحترم الاديان السماوية منتقدة فيها زيف التقاليد وبهرج الطقوس .

هى مجلات برجوازية لا شك فى ذلك ولكن اعداءها ينعتونها ايضا بانها

" رجعية متعفنة وخادمة ذليلة للاسياد الاميركان ! " وتمثل هذا الصنف في الشرق العربي مجلة " الاديب " البيروتية وتمثله بفرنسا مجلة " اسبري " أو مجلة " لوفيغارو ليترير " .

اما الصنف الثاني فيشمل تلك المجلات الوقورة التي تصادمك بالاحصائيات وجداول الارقام فلا يستطيع القارئ السليم المزاج ان يتم مطالعة اي فصل من فصولها بدون ان يصاب بصداع . هى مجلات المناطقة والمفكرين الاصيلين ( مضمونين مائة فى مائة ! ) هذه المجلات لا ترى فى الحب سوى النسل وانتشار العمران ولا تتصور الادب الا ادبا ملتزما وتعتبر الفرد " كمشة مجهولة " امام المجتمع " الالاه " وتدين فى الاقتصاد بالاقتصاد المسير وفي الاجتماع بالاشتراكية وان النظام الشيوعي فى روسيا هو القدوة والمثل لتحقيق هذه الاشتراكية وتعتنق اللائكية المطلقة وتعتبر الاديان السماوية مخدرات للشعوب وتعتنق فى السياسة مقررات باندونغ والتعائش السلمي . هى المجلات اليسارية التقدمية وتمثلها في الشرق العربي مجلة " الثقافة الوطنية " وتمثلها بفرنسا مجلة " لا بانسي : الفكر " او مجلة " لي لاتر فرانساز " ترى ما هى منزلة " الفكر " من هذين الصنفين ؟ ان البادرة الاولى التى تخطر على البال بمجرد اعتبار اسم المجلة هى ضمها الى صنف المجلات اليسارية . فالفكر هو شعار اليسارية بدون منازع . هو الآلة التى بها يريد اليساريون الوصول الى السلطان ومن ورائها يأملون تحقيق المثل العليا العقلية التى هى الحرية والعدالة والمساواة .

فهل مجلة " الفكر " بقطع النظر عن اسمها مجلة يسارية ؛ ان استعراضا عاجلا للسوانح التي تتوجه بها الى القراء في فاتحة كل عدد كفيل بان يرشدنا في هذا الخصوص :

بعد ان سجلت هيئة التحرير وجود " فراغ مريع فى روحانيات مجتمعنا وفى شؤونه المذهبية والعقائدية " ترى ان الفكر هو الوسيلة الوحيدة لسد هذا الفراغ الذي ينبغى ان يقوم مقامه " مذهب تونسي صميم يزيل حيرتنا ويسمو بنا " ( العدد الاول ) . ولكننا نراها بعد ترتيل الصلوات في هيكل " حرية الفكر " تهاجم باسم هذه الحرية المرء الذى يرتاح الى بعض الاوهام او التصورات اعتقدها الحق ويعرض عن المناقشة والنقد ويهرب من " مأساة " الفكر في

طلبه وسعيه ومعاناته " ثم تصدر هذه الجملة التى ترشح بالفحولة : " ونحن فى هذه المجلة آثرنا العظمة على السعادة " ( العدد الثاني ) وتجود بالتفاتة الى مسألة العدالة الاجتماعية فترى وجوب تحقيق نظام ديمقراطى حسب " المبادي الانسانية التى اقرتها التجربة وحكم لها التاريخ " ( العدد الثالث ) ثم تمعن النظر فى الديمقراطية فتحذر من الديمقراطية الزائفة التى " ليست لها من وظيفة سوى در الرماد في العيون واخفاء قيود الجهل والبؤس والحيف الاجتماعي واختلاس المحظوظين لجد الكادحين " وتختم التحذير بهذه الجملة الاخرى من الجمل المتفخمة المتفحلة التى - تروق - على ما يبدو - لهيئة التحرير : " نحن لا نريد حرية زائفة نحن نريد " الحربية " ( العدد الرابع ) ثم تتعرض من جديد الى مسألة الديمقراطية بمناسبة تكوين المجلس التأسيسي التونسي فتقول : ان معنى ذلك ( اي تكوين المجلس ) ان الشعب صاحب السلطة المطلقة وصاحب السيادة الكاملة و . . ان الامة التونسية تتجه اتجاها ديمقراطيا واضحا لا التواء فيه ولا غبار عليه . و - انها ( الامة التونسية ) تحافظ بذلك على اسلامها وعروبتهما في اشرف معانيهما وانبل مقاصدهما . .. ( العدد السابع )

كل هذا كلام غامض اشد الغموض بل هو كلام أقرب الى العاطفة منه الى الفكر . تدعو المجلة الى حرية الفكر والى العدالة الاجتماعية والديمقراطبة الحق وتحذر من الديمقراطية الزائفة . ولكن من الذى لا يحذر من هذه ولا يدعو الى تلك ؟

المسألة ليست مسألة ترغيب وتحذير بل المعضلة كل المعضلة هى الاجابة عن هذا السؤال : " كيف " نحترم حرية الفكر و " كيف " تضمن العدالة الاجتماعية و " كيف " نحقق الديمقراطية ؟ ذلك انه ليس ثمة من حقيقة تكون فعلا حقيقة اذا اعتبرناها خارج المجهود الذى يبذله الشخص " الموجود " لتصورها والزمن الذى يباشر فيه هذا المجهود . ف " الكيف " اي صيغة النسبة هو الذى يخلق المادة والفحوى . وهذا ما عبر عنه الفيلسوف كيركفارد احسن تعبير بقوله " ان الوجدان يخلق من ذاته ما هو حق " أو عند قوله " الحقيقة هى " فعل " الحرية " . (١)

هذا " الكيف " لم تطرحه مجلة " الفكر " واعتقد انه من الغبن انها لم تطرحه منذ اليوم الاول من بروزها لانه بدون شك سؤال هذا العصر !

ليس الخلاف القائم اليوم بين الديمقرطيات الغربية والديمفراطيات الشرقية ( الشوعية ) خلافا فى الغايات فالجميع يعلن انه يدين بالحرية والعدالة والمساواة ولكنه اولا وبالذات خلاف حول المسائل والاساليب التى بها تبلغ هذه الغايات .

وهذه الوسائل والاساليب معروفة لا داعي الى بسطها فى هذه العجالة بل اكتفي بالاشارة الى خطورتها واهميتها الحاسمة لفهم العالم العصري فهما جذريا فما هو الاسلوب الذي اختارته " الفكر " ما هو على الاقل الاتجاه الذي اتجهت اليه ! اني لم اتمكن مع الاسف وبالرغم من حسن استعدادي الى تبين اي اسلوب قائم الذات أو اي اتجاه واضح المعالم فى موقف المجلة .

نعم ، تحدثت مرة عن مذهب تونسي صميم يزيل حيرتنا ويسمو بنا ( العدد الاول ) ولكنها وقفت عند هذا الحد ! وتحدثت مرة اخرى عن وجوب تحقيق نظام ديمقراطى حسب " المبادي الانسانية التى اقرتها التجربة وحكم لها التاريخ " ووقفت أيضا عند هذا الحد كأنها لا تعرف أن التجربة وحكم التاريخ أقرأ الضدين والمتناقضين وانه ينبغي عليها ان تختار بينهما بل انه لا مناص لها من أن تختار بين اسلوبي العيش والحكم والتفكير اللذين تقتسمان العالم في هذا النصف الثاني من القرن العشرين ! وهما بصورة اجمالية الاسلوب الروسي والاسلوب الاميركي .

هذه ايها الاخ الكريم بعض خواطر خطرت لي في خصوص مسألة اعتبرها جوهرية بالنسبة للمجلة وهي مسألة اتجاه المجلة العام .

لقد اصبحت شؤون الانسان اليوم على جانب من الارتباط والتماسك يجعل كل شأن منها يؤثر على الآخر بل ويتحكم فيه الى ابعد حد . والثقافة والادب والفن بعض هذه الشؤون فهي مؤثرة فى الشؤون الاخرى ومثاثرة بها تابعة لها ومتبوعة بها فى آن واحد .

لقد تولى عهد الابراج العاجية بلا رجوع واصبح من المتحتم على المثقف والاديب والفنان ان تشمل شواغلهم لا ميدانهم الضيق فحسب بل مخلف ميادين

نشاط الانسان من سياسة واقتصاد واجتماع وتربية الخ ... وأن يتخذوا في خصوصها جميعا موقفا صريحا .

هذا ما اود وآمل أن تضطلع به اسرة " الفكر " بدون تريث . لقد دقت ساعة الاختيار وهي ساعة امتحان ومحنة . ولكن عهدي بأسرة " الفكر " قد آثرت العظمة على السعادة ...

: هذا رأي زميلنا واخينا حسن عباس حول المجلة واتجاهها وهو صريح غاية الصراحة واضح كل الوضوح . فما هو رأي القراء في رأيه فينا ؟

اشترك في نشرتنا البريدية