الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 668الرجوع إلى "الثقافة"

ندوة القلم

Share

جون ستيوارت ميل وهاريت تايلر J.s.Mill & H.Taylor

من أروع ما خلفه لنا الأدباء الإنجليز في القرن التاسع عشر ، قصة جون ستيوارت ميل عن تاريخ حياته ، التي نشرت بعد وفاته بقليل ، وأهم ما يلفت النظر في هذه القصة هي أنها بالرغم من كونها صورة واضحة لتطور حياة ميل الفكرية منذ نعومة أظفاره إلي أن وافاه القدر في ستة ١٨٧٣ ، إلا أنها لا تحتوي علي شئ من قصة غرامه الذي دام عشرين عاما لعشيقته هاريت تايلر ، اللهم إلا بعض الإشارات إلي ما كان لها من أثر على كتاباته وعلى تطوره الذهنى والنفسى ، وإلى تأثيرها على ولعه بالفنون ، كالشعر والموسيقى والتصوير . كما لم تحو القصة أية إشارة إلى والدته أو إلى شقيقاته الخمس إلا تلك الإشارة السريعة إلى تدريسه اللغة اللاتينية لإحداهن وهو في سن الثامنة ؛ وكذلك خطابات ميل التي نشرت في سنة ١٩١٠ كانت تفتقر إلى ذكر تلك الناحية العاطفية التي كان لها أكبر الأثر على مؤلفاته وعلى تطوره من وجهة نظره الفردية البحتة إلى آرائه الناضجة عن ضرورة سيطرة الدولة على الفرد أحيانا لصالحه الخاص أو لصالح المجموع .

ولكن أعضاء أسرة ميل والمجتمع الذي كان يعيش فيه ، وحتي أصدقاؤه المقربون إليه لم يستطيعوا أن يتغافلوا عما كان بينه وبين هاريت من علاقات سببت اتقطاعه عن المجتمع وانزواءه عن العالم . وقطع الصلة بينه وبين والدته وإخوته وأصدقائه .

كان من بين هؤلاء الأصدقاء كارليل ، الذي وصف مقابلة ميل الأولى مع هاريت تايلر بلسانه اللاذع المعهود : " كان تايلر رجلا محترما جدا ، ولكن زوجته شعرت بغبائه . وقد كانت لها عينان سوداوان ولها نظرة عميقة ، وكان عندها ميل إلى الاستطلاع ، وإلى التفكير في مسائل

كثيرة . . وبصعوبة كبيرة أحضر ميل لزيارتها ؛ وذلك الرجل الذي لم يك حتى ذلك الوقت قد نظر في وجه أية أنثى ، ولا حتى بقرة ، وجد نفسه أمام هاتين العينين الواسعتين السوداوين اللتين انبعث منهما ما لم يمكن النطق به ، بينما كان هو يناقشها فيما يمكن ذكره في شأن شتي ألوان الموضوعات الجدية " .

مثل هذه الكلمات تدعو الباحث إلي الكشف عن سر تلك العلاقة وعن تطورها حتى وفاة جون تايلر ، ثم زواج ميل من هاريت بعد ذلك بعامين . وقد سد هذا الفراغ الكبير في حياة ذلك الأديب الفذ الكتاب الذي ظهر هذا العام بعنوان " جون ستيوارث ميل وهاريت تيلر : صداقتهما ثم زواجهما ، لمؤلفه الأستاذ الكبير فردريك آرثر هايك  F .A Hayek الأستاذ بجامعة لندن .

يروي لنا الأستاذ هايك أنه منذ عهد قريب أجرى بحث عن النبغاء من الأطفال حصل فيه جون ستيوارت ميل على أعلي معامل ارتباط للذكاء بين كل الأطفال الموجود عن تاريخ نموهم أية معلومات ، فلا عجب أن جذب ميل إليه قلب هاريت التي كانت قد اضطرتها ظروفها العائلية القاسية وحالة المجتمع وقتئذ إلى الزواج من جون تايلر الأقل منها ذكاء أما عن ميل نفسه فقد أعطانا الأستاذ هايك فكرة عن حالته النفسية قبيل مقابلته لهاريت ، كما بدت في خطاب من ميل إلى صديقه جون سترلنج J.Sterling في ١٥ أبريل سنة ١٨٢٩ ، فقد شكا ميل في هذا الخطاب من شعور بالوحدة وبأنه كان في حاجة إلى رفيق يعمل معه إلى الوصول إلى غاية موحدة ، صديق يشجعه ويعاونه على أداء الرسالة التي كان يعتقد بوجوب أدائها إلى المجتمع .

وقد وجد هذا الصديق في هاريت ، ففي سنة ١٨٣٤ نراها تشجعه ، وتحاول القضاء على خوفه من أن يصبح " غير معروف أو قليل الأهمية " . وفي خطاب منها لزوجها في ٢٣ سبتمبر سنة ١٨٣٧ تذكر هاريت كيف عملت على

لقاء ميل بالزعيم الإيطالي مانزيني ، وكيف أعجب به ميل ونصحه بتأليف كتاب عن السياسة الإيطالية منذ سنة ، ١٨٣. ثم تتلو ذلك فترة يقل فيها ما ترك ميل وهاريت من خطابات ، وذلك عند انقطاعهما عن المجتمع وشدة احتياطهما في المكاتبات لتجنب الإشاعات ، وكان ذلك من سنة ١٨٤٠ إلى سنة ١٨٤٧ . ومنذ سنة ٨ ١٨٤ بدأ بحثهما المشترك في الحالة الاجتماعية والسياسية للمرأة المعاصرة وعن موضوعات اخرى مثل الاشتراكية والشيوعية والدين وحرية الشعوب المستعبدة والانتخابات البرلمانية وامتحانات المتقدمين لشغل الوظائف الحكومية .

وقبل زواجه من هاريت أعلن ميل في أحد خطاباته ( ٦ مارس سنة ١٨٥١ ) عن عزمه في حالة زواجه منها على أن تحتفظ هاريت بكل مالها من حرية السلوك وحرية التصرف في نفسها وفي كل ما تملك كأنها لم تتزوج منه ، وبذلك رفض ميل أن يتمتع بأي حق يخوله له القانون يترتب على هذا الزواج .

وليس من العجيب أن يستمر أمر هاريت على جون ستيوارت ميل حتى بعد وفاتها . فبالرغم من أنه عاد بعض الشئ إلي بعض أفكار أيام صباه ، إلا أنه لم يلبث أن عرف واعترف بقدرها وأثرها العظيم على تطور أفكاره وعلى كتاباته . وسنختم المقال بفقرتين مما كتبه ميل عن هاريت بعد وفاتها : نقتبس الفقرة الأولى من إهداء كتابه عن الحرية " لذكرى العزيزة والمأسوف عليها لمن كانت الوحي ، وإلى حد ما المؤلفة لكل جليل في كتبى " أما القطعة الثانية فقتبسها مما كتب على قبرها في ٣ نوفمبر سنة ١٨٥٨ ، "إن قلبها الكبير المحب ، وروحها النبيلة وعقلها الذكي القوي ذا القدرة على التجديد وعلى الفهم قد جعل منها مرشدة ومساعدة ومعلمة في الحكمة ومثلا في الطيبة ، كما كانت منبع السرور الدنيوي الوحيد لكل من سعد بالقرب منها ، كما كانت حريصة على المصلحة العامة ، كريمة ، محبوبة من جميع من أحاطوا بها . . لقد كان أثرها ملموسا في كثير من التحديات العظيمة في عصرها ، وسوف يكون كذلك في العصور التالية .

ولو كان هناك عدد قليل من القلوب والعقول مثل قلبها وعقلها لأصبحت الدنيا الجنة المنشودة .

اشترك في نشرتنا البريدية