فوق الإطار
من الغريب أننا نعيش مع هؤلاء المثلين بقلوبنا وارواحنا ، نبتسم لسعادتهم ، ونبكي علي شقائهم ، نلقي بأنفسنا على هذه الحياة التي يمثلونها فتذهب عواطفنا وعقولنا حيثما أرادت هذه الحياة ، بينما نحن ندرك كل الإدراك أن هذه ما هي إلا رواية ، وأنهم يقولون شيئا موضوعا ، وانهم يمثلون لا أكثر ولا أقل ، وأنهم مهما أجادوا ومهما سلبوا من عواطفنا ، فها هي جدران المسرح ومقاعده لا زالت تصيح : إنها رواية
من الغريب أننا نبكي علي حوارهم ثم نصفق لهم ، ويذيبون قلوبنا فنزيد بهم إعجابا ، يصورون لنا الجمال فنصفقق . ويصورون لنا الدمامة فنصفق ، نعجب بهم اشقياء ، كما نعجب بهم سعداء ، ثم نخرج لنقول : لقد كان شيئا رائعا ثم نمضي إلى حياتنا ، لنجد فيها الجمال والدمامة ، فنسعد ونشقي ونقهقه حينا وتسيل دموعنا حينا ، ثم نخرج منها ولا نصفقق . .
نعيش مع هؤلاء الممثلين فنمتدحهم على كل ما يسيلون من دموع ، فلا نتحدث عنهم إلا وقد نسينا كل هذه الدموع التي ذرفناها وكل هذه الضحكات ، فلا تذكر إلا هذه الروعة التي وقفوا بها علي المسرح فأضحكونا بها وأبكونا . ثم نمضي إلى حياتنا ، ونعلم أنها رواية ، ولكننا نبكي ونضحك دون أن نصفق ودون أن نتحدث عنها بكلمة طيبة ؛ فإذا تحدثنا بكلمة طيبة فهي حين نضحك ، وقد كنا في المسرح نمتدح ضاحكين عابسين .
نحن نعلم أن هؤلاء يمثلون ويغرقون في الخداع ، ولكننا نغشي دور التمثيل ونصفق للممثلين ، ونفرأ الشعراء فنفطن إلى الاعيبهم فلا نملهم مهما أغرقوا في الكذب ، ولكننا تكفر مع ذلك بالحياة ، نعيشها ونبحث عن حقائقها فإذا وجدناها سخرنا منها وانصرفنا عنها دون أن نصفق .
لست أدري لم كفرنا بالحياة وآمنا بالتمثيل ، ولا لم كفرنا بالناس ولم نكفر بالممثلين ، والجمال في الحياة هو الجمال في المسرح وربما أجمل ، والبشاعة في الحياة أشد منها في المسرح ، والعواطف في الحياة أكثر وضوحا وأكثر تضخما وأصدق ، ولكننا نصفق للممثلين ونكفر بالحياة ونمتدح الممثلين ونلعن الأحياء .
ما الذي يحرك قلوبنا نحو العظمة على المسرح ويعمي ابصارنا عن العظمة في الحياة ؟ وما الذي يحرك ألسنتنا بمعنى الشقاء في الحياة ، ويحرك أيدينا لتصفق للشقاء علي المسرح ؟ نعم أعلم أننا نصفق للفن لا للشقاء ، ولكن من قال إن هذه الحياة تخلو من الفن ؟ ومن قال إن هذا الشقاء في حياتنا خال من العظمة ؟ حقا ما أتفه هذه الحياة وما أحقر هؤلاء الذين يحبونها ، ولكن من قال إن هذه الحقارة تخلو من الجمال ، ومن قال إن هذه الصورة البشعة في حياتنا لم ترسمها يد فنانة ؟
كلا لا تخلو حياتنا من عظمة ولا تخلو منها هذه التفاهة وكل حقارة ، بل نحن نؤمن أحيانا بهذه العظمة فلم لا نؤمن بها دائما ، كما نؤمن بها دائما علي المسرح ؟
ذلك لأننا نحن الممثلون في هذه الحياة ، ومعذورون إذ نخرج منها دون أن نصفق ، ودون أن نتحدث عنها بكلمة طيبة ، فهل تحدث الممثلون يوما وهم على خشبة المسرح بكلمة طيبة عن أدوارهم ؟ وهل صفقوا ؟ إن فيهم العظمة كما هي فينا ، ولكننا صفقنا لهم ولم يصفقوا ، صفقنا لأننا نشرف عليهم ، ولم يصفقوا لأنهم لا يشرفون على أنفسهم
كل ما في الأمر أننا نمثل ولا نشرف ، ننظر إلى الناس ولا ننظر إلى أنفسنا ، نرى الحياة ولا نري مسرحها ، نتحدث بالحوار دون أن نرى ما فيه من فن ، نأتي بالعظمة والحقارة دون أن نرى العظمة في العظمة ولا في الحقارة ، وهكذا كفرنا بالحياة ولم نصفقق
لا أحسب الممثل ينجح لو عاش حياته كلها على المسرح ، دون أن يخرج يوما لينظر إلى مسرحه ويري مكانه منه ومكان الناس ، سيري كل شئ بعين جديدة ، ليست عين الممثل الذي يريد ، ولكن بعين المشرف الذي ينقد . . فهل حقا لا ينقص الناس إلا شئ من الإشراف على الحياة ؟ وهل هم حقا رأوا كل شئ إلا ذلك الإطار الهائل الذي يجمعهم ؟
رجل فوق الحياة . .
لم تستطع الحياة بكل ما بذلت له من هبات ، وبكل ما رمت إليه من الحبائل ، أن تستل من قلبه شيئا من الحب ، أو شيئا من الرضا .
ولم تستطع الحياة بكل ما أسقطت عليه من الأحداث ، وبكل ما رجمته به من الكوارث ، ان تستل من قلبه شيئا من البغض ، أو شيئا من السخط .
ربما استطاعت حقا أن تسلبه كثيرا من الفكر ، وان تدفعه في طريق طويل من البحث ، وربما ألقت إليه في طريقه بسيل عظيم من الهبات . ونظرت إليه في دلال ، وكشفت له كل ما تملك من الجمال ، ولكنه لم يحبها . وربما استطاعت أن تجمع له كل حياتها وتكشر له عن أنيابها ، ولكنه لم يهبها ولو شيئا ضئيلا من البغض ! . وهب الحياة عقله ، ومضى يبحث فيها عن الحقائق واستطاع أن يكشف منها لنفسه شيئا عظيما ، واستطاع أن يرى ما فيها من جمال ، وكل ما فيها من دمامة ، ولكنه نظر إلى الجمال وابتسم ، ونظر إلي الدمامة وابتسم ، ولم يحب منها جمالا ، ولم يكره منها دمامة .
نظر إلي الناس ، فإذا نفر منهم يسعون نحو قلبه ، يريدون أن يملكوا من حبه كل ما يستطيع هو أن يهبه ، وإذا نفر منهم يسعون بعيدا عن قلبه ، يبذلون كل ما استطاعوا بذله ليكسبوا شيئا من سخطه ؛ فابتعد بقلبه عن هؤلاء وأولئك . وأتى عقله لينظر إليهم فندر منهم ما استطاع ، واحتقر منهم ما استطاع .
لم تقم علاقته مع الحياة والناس على الحب ، أو الكره قط ، وإنما قامت على التقدير أو الاحتقار ، فهو لا يستطيع أن يحب غير شيء هائل كل ما فيه جمال ، يهب ولا ينتظر هبة ، يوحي بالجمال ولا يوحي إليه بشيء ، يحب كل شئ ، ولا يبغض شيئا .
والحياة لا تستطيع أن تهبه كل هذا ؛ فهي جميلة ودميمة ، تهب لتأخذ ، وتوحى بالخير كما توحى بالشر ، لا تحب أحدا ، ولا تبغض أحدا ، لأنها عمياء صماء ، لا تعدل لأنها لا تفقه ، ولا تسمع ، ولا تري شيئا ، وإنما تهب وتمنع كما تريد ، لا كما يريد العدل .
والناس كالحياة ، فهم جمال ودمامة ، لا يهبون إلا ليأخذوا ، خيرون وشريرون ، محبون لأنهم محتاجون للحب ، ويكرهون لأنهم محتاجون للكره أيضا ، فهو لا يستطيع أن يهب الحياة أو الناس شيئا من حبه ولا من بغضه ولكنه يستطيع أن يقدر ويحتقر .
استطاع أن يتقبل كل شئ من الحياة في يسر ، وان يترك لها كل شئ في يسر ، فهو لم يترك شيئا من نفسه للحياة . ولم يضع شيئا من قلبه فيما تهبه له ، فهو يستطيع أن ينال ويفقد ويأخذ ويعطي ، لا يأسف لفقد أو عطاء . لأنه أعاد شيئا ولم يهبه من نفسه .
سيترك الحياة كما أتاها عاريا ، محتفظا بكل شئ كان له . ولم يأخذ شيئا لأنه عاش فوقها يستعير منها ليرد إليها دون أن يتأثر
يرحم الناس ولا يحبهم ، ويسخر منهم وليس ساخطا عليهم ، بل هو يرحم الحياة نفسها ويسخر منها ، لأنها لا تعي ولأنها عمياء ولأنها مغرورة ، ولقد ساعدها الناس علي هذا الغرور . .
رأي الحياة لحنا والناس عازفين ، عزفوا له اللحن جميلا ولكن منقطعا . . يقطعونه ويوصلونه وفق هواهم ، ويسعد السامعون باللحن إذا ووصل ، ويبكون عليه إذا قطع أما هو فيقدر اللحن ولا يبكي عليه ، يقدره إذا عزف ، ولا يكي عليه إذا قطع ، لأنه كان يقدر انساق النغم ولكنه لم يحبه

