الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 398الرجوع إلى "الثقافة"

نظرات فى أدب المتأخرين

Share

الأدب والحرفة :

منذ احتاج الأديب إلي استكمال عدنه من الدراسة والثقافة اضطر إلي استدبار وجوه المكاسب  ، ونحى عنه الصوارف ، وراح يمتص رحيق الآداب ليخرجه للناس أدبا مصفي . واتخذ كثير من الأدباء بعض آدابهم بضاعة نافقة في سوق المدائح ، فطافوا بها علي القصور وانتجعوا الغني . وقد جعل ابن الرومي مكافأة الأديب حقا لازما إذ قال :

إن امرأ رفض المكاسب واغتدي

                  بتعلم الآداب حتي أحكما

فكسا وحلي كل أروع ماجد

                 من حر ما حال القريض ونظما

تقه برعي الأكرمين  حقوقه

             لاحق    ملتمس بألا يحرما

فاجتمع لأولئك وإحكام الآداب . على أننا لم نعدم من عزف عن ذلك المورد ، وعكف على منهل الادب ينهل منه ويمل ، ويفيض على خاطره ، فيرسله غزلا وتشبيبا أو حكمة وفلسفة .

وكثيراً ما حاق البلاء بالمشتغلين بالأدب لما شغلهم عن تدبير أمرهم ودفع ما نزل بهم ، حتى عدت (حرفة الأدب ) مجلبة للبؤس وشؤما على من أدركته . قال يعقوب الخزيمي

ما ازددت في أدبي حرفا أسر به

           إلا تزيدت حرفا تحته شوم

وقرئها  شاعر آخر باجادة الخط ، فشكا من اصطلاحهما عليه :

لما أجدت حروف الخط حرفتي

             عن كل حظ وجاءت حرفة الأدب

أقوت منازل مالي حين وطنها

              عقيما سقط الأقلام والكتب

ولقد وصل ما جرته حرفة الأدب إلي قصر الخليفة الشاعري ابن المعتز حين قتله المقتدر ، وزعم أنه مات حتف أنفه ، فقال علي بن محمد بن بسام :

لله درك من ميت بمضيعة

           ناهيك في العلم والآداب والحسب

ما فيه لو  ولا ليت فينقصه

                  وإنما أدركته حرفة الأدب

قال مؤرخو الأدب : ولما ولي الأمور أولياء من الأعاجم لا يقيمون للشعر وزناً أهملوا الشعراء ، فانصرف هؤلاء ، إلي الحرف والصناعات ؛ فكان منهم الجزار والحمامي والقصار ، وكثر قولهم في الأشياء التافهة كالمسبحة والمخدة والمروحة ؛ وعدوا ذلك نزولا بالأدب عن درجات وحطما له في دركاته . وقد رأيت أن هذا ليس صحيحا كله ، ولكن صح أن الشعر فقد شيئا ببعده عن ظل الممدوحين الوارق لقد كسب به  أشياء ، أولها أن هؤلاء الشعراء - وقد عدموا المدوحين المغدقين من الملوك والأمراء- وجدوا بديلا أجل منهم وأعود عليهم باللذة الروحية وهو سيد الخلق ، فهشت له نفوسهم ، وجعلوا ينشدون المدائح النبوية ، وازدهار هذا الفن في قصائد لا تتأخر قيد أنملة عن قصائد الفحول من المتقدمين ، وحسبك بردة البوصيري التي أولها :

أمن تذكر جبران بذي سلم

              مزجت دمعا جري من مقلة بدم

وقد كان من الشعراء ذوي الصناعات المعيشية من أجار وافنن في القول كابي الحسين الحزار ؛ وإلى جانب

إجادتهم في أغراض الشعر المختلفة وبرزت صناعاتهم في أشعارهم ، واستخدموا مصطلحاتها في معانيهم ، وأحسنوا وظرفوا ، قال الجزار :

لا تلومني مولاي في سوء فعلي

                  عند ما قد رأيتني قصابا

 كيف لا أرتضي الجزارة ما عش

                 ت   قديما  وأترك    الآدابا

 وبها صارت  الكلاب ترجم

               تي   وبالشعر كنت أرجو الكلابا

وكتب إليه العصير الحمامي :

ومذ لزمت الحمام صرت به

                 خلا يداري من لا يداريه

أعرف حر  الأسى   وبارده

                  وآخذ الماء    من بحاريه

فكتب إليه الجزار :

حسن التأني مما يعين على

               رزق الفتي والعقول تختلف

 والعبد منذ صار في جزارته

                  يعرف من أين تؤكل الكتف

على أنه لا يقدم الأدب ولا يؤخره - من حيث القيمة الذاتية  - أن يكون الأدباء من ذوي الحرف أو من أهل الرياسات

وصف الاشياء التافهة:

رأيت مما عابه مؤرخو الأدب على الشعراء المتأخرين وصفهم للأشياء التافهة ، ولست أدري كيف يعد هذا تخلقا في مضمار الشعر ! كان مقياس الإجادة في الوصف عندهم أن يكون الموصوف جليلا ، ثمن يصف الفيل مثلا

أشعر ممن يصف الصفور ، لمجرد أن العصفور صغير والفيل كبير ؛ وراصف جبال ( الهملايا ) - على هذا القياس - أشعر شعراء العالم ولا جدال ...! والهبل لأم عنترة القائل :

وخلا الذباب بها فليس ببارح

             غرداً ! كفعل الشارب المترنم

عزجا   يحك ذراعه بذراعه

          قدح السكب  على الزناد الأجذام

لأنه يصف الذباب فيشبهه في مرحه بالشارب المترنم ، ويمثله وهو يحك ذراعه بذراعه بمقطوع اليد مكبأ على الزناد ليقدحه ، وما الذباب ؟ وما الأجذم السكب ؟ أو لهما تافهين حقيرين ؟ ! وما إعجاب النقاد ومنهم الجاحظ بهذا التصور ؟!.

ويا ويح امرئ القيس ! ألم يجد غير قلوب الطير المتناثرة  والحشف البالي فيبني  لها بيتاً فخما كهذا :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

           لدي وكرها العناب والحشف البالي

والعجب العجاب  أن يكون العائبون مؤرخي الأدب المحدثين وهم يعلمون أن كل شئ يصلح موضوعاً للأدب ما دام موضع حس الأديب وانفعال نفسه ، ولا يهم بعد ذلك أن يكون هذا الشئ جبلا أو نملة . ثم لننظر ماذا قال شعراؤنا في أشيائهم  التافهة . قال شهاب الدين الحلبي في سبحة :

وسبحة مسودة   لونها

                   يحكي سواد  القلب والناظر

كأنني عند اشتغالي  بها

                     أعد أيامك يا هاجري

وقال محمد بن سوار بن إسرائيل في مروحة :

ومحبوبة  في القيظ لم تخل من يد

           وفي القر تجفوها أكف الحبائب

إذا ما الهوي المقصور هيج عاشقا        

         أنت بالهوا الممدود من كل جانب

وقال ابن نبانة في دواة فولاذ :

دواة لها جنس الحديد وبأسه

           وزادت عليه في الندي فهي أبهر

وكمل معناها يراعك  منشئأ

             ففولاذها في الحالتين مجوهر

على أنك تري هؤلاء الشعراء لم يتصدوا لوصف هذه الأشياء باستقصاء أجزائها وصفا مقصودا لذاته ، وإنما استثاروا بها خواطرهم فأنت بهذه المعاني الشعرية الجميلة ، فجاء قولهم متحركا نابضا بالحياة ، لا عيب فيه إلا أنه ليس مقولا في رضوي وثهلان .!

البديع :

يكاد ينعقد الإجماع على استهجان ما امتلا به أدب المتأخرين من ألوان البديع ، فهم يأخذونه جملة واحدة بأن العناية مبذولة فيه إلى الزخارف البديعية والتحسينات اللفظية ، مرتبين على ذلك انتقاصه وتهجينه وتنفير المتعلمين منه . ولعلهم يبتغون من وراء ذلك صرف الناشئين من التكلف إلي الإسترسال . ولكني أقرر أولا أن ثمة فرقا بين الصنعة والتكلف ، فالصنعة لابد منها في كل عمل فني يقترب من الكمال ، يزاولها الفنان فتكون من تمام جمال الفن . ولقد كان زهير يأخذ شعره بالصنعة إذ كان يعاود حولياته بالتنقيح والتثقيف . وتعاقب بعده شعراء تناولوا أشعارهم بالتصنيع والتحسين كالحطيئة وبشار ، حتى كان مسلم بن الوليد وأبو تمام وابن المعتز ، فالتفتوا إلى المحسنات اللفظية والمعنوية وحسن موقعها في الكلام ، فاتخذوها في صناعتهم الشعرية قصدا ، وكثيرا ما كانت تواني أسلافهم عفوا ومن قبض الخاطر ، وازدات بها آيات الكتاب وأحاديث الرسول أما شعرؤنا المتأخرون فقد زادوا  فيها وأكثروا

منها حتى صارت ركنا من أركان الأدب ، وأصبحت غرض كل أديب، وقد ترامي بها الحال حتى جاوزت  الألفاظ إلي الأشخاص في البيتين الظريفين الآتيين :

وقالوا يا قبيح  الوجه   تهوي

                    مليحا دونه السمر الرشاق

فقلت : وهل أنا  إلا أديب

           فكيف يفوتني هذا الطباق !

ولا ينبغي أن يغض المتكلف  المرذول من قدر البديع المحكم الصنع ، وما البديع الإ مادة زينة كالذهب والأزهار ، يختلف الزين بها باختلاف الصياغة والتنميق  ، وهنا الحد بين الصنعة والتكلف.

وكيف  نحمل  علي التخلي عن الصنعة في الآثار الأدبية ؟ أليس اختيار الألفاظ وإحكام النسج وترتيب الأفكار والمعاني صناعة ؟ ولو تخلينا  عنها لما استقام للشعر وزن ولا اطردت له قافية.

ويقولون : إن المتأخرين كانوا يتصنعون في أدبهم ليعوضوا فقره في المعاني ، ولو أنهم شعروا بشيء من ذلك لعملوا على تلافيه ، والشعور بالنقص مبدأ الكمال ، كما يقال . ولا يصح الخلط بين أدب عصر المماليك  وبين أدب العصور السابقة ، فإن الأول كان حقا فقيرا في المعاني والأفكار ، بل كان ففيرا في الصنعة نفسها ، وكان متكلفا غير مقبول ، وما عنه نتحدث

وبعد:

وبعد فقد قصدت إلي نفض الغبار عن محاسن في أدب المتأخرين عدت عليه مساوئ ، ولعلي بهذا قضيت بعض حتى لزمني من التمتع بقراءة بعض هذا الأدب زمناً لقيت فيه العنت من نيش قبور المخطوطات بدار الكتب المصرية ، وإلي القائمين على إحياء الآثار الأدبية يساق الحديث .

اشترك في نشرتنا البريدية