تتمة
وبصرف النظر عن هذه الحملة الباطلة التى أثارتها عوامل الحقد والحسد والتى لم يكن لها أساس من الواقع والحقيقة فى شىء , فأن الذى نحب أن نستخلصه من الأفكار السابقة هو أن السيد يلتقي مع الفارابى فى نقطتين هامتين , فهو يوضح أولا مهمة النبى الاجتماعية والسياسية , وهذه مسألة يعد الفارابي من أول من صوروها فى الاسلام بصورة علمية نظرية , وربما تلخص كتابه " آراء أهل المدينة الفاضلة " فى إدعام فكرة النبوة على أساس من " جمهورية " أفلاطون وعلم النفس عند أرسطو . والسيد وهو مصلح دينى وسياسي لابد له أن يحتذى هذه الخطى ويسير على هذا النهج . ومن جهة أخرى لا يفوتنا أن نشير إلى أن النبى والحكيم يقتربان عند هذين المفكرين إلى حد كبير , فهما روح الجمعية ومبعث الحياة والاصلاح . نعم إن السيد يفرق بينهما من ناحية الكسب والعصمة , فى حين أن الفارابي لم يوضح القول فى الاول وأغفل الثانية بتانا , وبدا كأنه يسوى بين النبى والفيلسوف من جميع الوجوه . ولكن يجدر بنا ألا ننسى أن الفارابى كان يصعد بالحكيم إلى مستوى هو العصمة بعينها ولا يمكن أن يتصور فيه الزلل , ولهذا لم يفرق بينه وبين النبى فى هذه النقطة . وفوق هذا فأن السيد إذا كان قد جهر بهذه التفرقة فهو متأثر بعصره وبيئته والحملات التى وجهت من قبل إلى البحث العقلي , لأنه يعود إلى موضوع الحكمة بعد سبعة قرون قضاها المسلمون فى مطاردة الفلسفة والفلاسفة . فلم يكن في مقدوره أن يدعو للفلسفة دعوة صريحة ولا أن يثبت لها حقا فى الحياة مكتملا من كل نواحيه . وكيفا كانت الفوارق بينه وبين الفارابي فمما لا شك فيه أنه قرب المسافة بين النبي والحكيم , وعدهما معا مصدر تقويم وإصلاح ؛ وهاتان الفكرتان فارايتان فى أصلهما سواء
أكان السيد قد استمدهما مباشرة من كتب الفارابى أما بالواسطة من مصدر آخر . وقد ساهم السيد فى نصرة الفلسفة والآخذ بيدها وساعد على إحياء دراستها فى الشرق بعد أن كان الناس قد انصرفوا عنها زمناً
ولم يكن الأستاذ فى تأثره بالفارابى أقل وضوحا من شيخه وصديقه السيد جمال الدين , فقد قرأ ابن سينا واشترك بنفسه فى إحياء الدراسات الفلسفية القديمة المهجورة . وفى نشره لكتاب " البصائر النصيرية " ما يشهد بذلك . هذا الى إنه وإن اشترك مع السيد فى فكرة التجديد والاصلاح يخالفه فى الوسائل الموصلة الى ذلك . فبينما السيد مجدد طموح يريد الوصول سريعا وعن طريق السياسة , إذا بالأستاذ الامام يعتقد أن طبيعةالأشياء تأبى الطفرة وأن الاصلاح يستلزم خطوات رزينة , وتدرجا معقولا , ودعائم مثبتة من الأخلاق والدين . لهذا اتجه أولا وبالذات نحو التعاليم الدينية محاولا أن يصوغها فى القالب الذى يتفق وروح العصر , وأن يصعد بها الى ما كان عليه السلف الأول (١). فقد كان على يقين مما لحق الاسلام من أفكار فاسدة صورته بصورة معيبة شنيعة , ووضعت حجر عثرة فى سبيل النهوض والتقدم . ولم ير بدا من محاربة هذه الأباطيل والترهات والقضاء على البدع والخرافات , والأخذ بيد التفكير الحر الطليق تحت راية الدين الصحيح وأثره فى هذه الناحية أوضح من أن ينوه عنه . وفى رأيه أن العلم والدين لا يختلفان مطلقا ، بل يجب أن يتضافرا على غاية واحدة هي تهذيب الانسانية وترفيهها وإسعادها (٢). فالدين يحول دون الانسان والزيغ الذى يقود اليه عقل جامح ! والعلم يوضح الأصول الدينية ويبين أنها لا تتنافى مع المبادئ العقلية . ولن نستطيع الادلاء هنا بكل أفكار الأستاذ الامام الدينية , وسنكنقي بأن نلخص رأيه فى النبوة كى تتبين وجوه الشبه بينه وبين النظرية الفارابية
يقف الأستاذ الامام على هذا الموضوع ثلث " رسالة التوحيد " المشهورة او يزيد , وفيها يتحدث عن الرسالة العامة وحاجة البشر إلى الرسل و إمكان الوحي ووقوعه ووظيفة الرسل ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم . وبصرح بأن الانسان مدنى
بطبعه يحتاج الى المخالطة والعاشرة , وعلى كل فرد من أفراد الجمعية واجب يؤديه وحق يطالب به (١). بيد أن الأفراد قد يخلطون الحقوق والواجبات , ويتهاونون فيما كلفوا به مسرفين كل الإسراف فيما يدعونه لأنفسهم من حقوق ؛ فتعم الفوضى وينتشر الفساد , وتصبح الجمعية فى حاجة ماسة إلى قيام بعض أفرادها هداة ومرشدين , يبينون للناس النافع والضار , ويميزون لهم الخير من الشر , ويعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم , وما أراد أن يقفهم عليه من شؤون ذاته وكمال صفاته , وهؤلاء هم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم (٢). فبعثهم من متمات كون الانسان , ومن أهم حاجاته فى بقائه , ومنزلتها من النوع الانساني منزلة العقل من الشخص منحة أتمها الله لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (٣). وليس غريبا أن يختص الله بعض خلقه بالوحي والالهام , فقد سمت نفوسهم وأصبحوا أهلا للفيض الالهى والكشف الربانى ؛ وبديهي أن درجات العقول متفاوتة يعلو بعضها بعضا , ولا يدرك الأدنى منها الأعلى إلا على وجه الاجمال . وليس هذا التفاوت نتيجة الاختلاف فى التعليم فحسب , بل كثيرا ما كان أثرا من آثار الاختلاف فى الفطرة التى لا تخضع لقوانين الكسب والاختيار ؛ ولا يزال المرء يرقى فى الكمال حتى يبدو البعيد له قريبا , وتتفتح أمامه حجب الغيب (٤). يقول الأستاذ الامام " فاذا سُلم ولا محيص من التسليم بما أسلفنا من المقدمات فمن ضعف العقل والنكول عن النتيجة اللازمة لمقدماتها عند الوصول اليها ألايسلم بأن من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستمد به من محض الفيض الالهى لأن تتصل بالأفق الأعلى وتنتهى من الانسانية إلى الذروة العليا , وتشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إلى تعقله أو تحسه بعصا الدليل والبرهان , و تتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحا على ما يتلقاء أحدنا عن أساتذة التعاليم (٥).
..لا نظننا فى حاجة أن نشير إلى أن كثيرا من هذه المعاني التي يرددها الأستاذ الامام قال بها السيد جمال الدين . فمهمة النبى فى رأيهما أخلاقية اجتماعية , ووظيفته تنحصر فى تربية الشعوب والسير بها نحو الطريق القويم . وإذا كان السيد قد اعتبر النبى روح الجمعية الانسانية فالأستاذ الامام عده عقلها . ولا نظننا مغالين إذا قلنا إن الامام يعود بنا إلى عصر الفارابي وابن سينا اللذين كانا يفسران النبوة تفسيرا علميا سيكلوجيا . وهو يميل دائما , كما قدمنا , إلى أن يرجع التعاليم الاسلامية إلى الحال الزاهرة التى كان عليها السلف الاول ؛ وفى كثير من آرائه ما يقربه من هذين الفيلسوفين وما يدفعنا لآن ندرس العلاقة بينه وبينهما فى شكل أكمل وعلى صورة أوضح . فهو يقرر مثلهما أن التعاليم والأوامر الدينية يراد بها الشعوب وعامة الناس فى حين أن الفلسفة إن صلحت غذاء لطائفة معينة فليس في مقدور الجميع استساغتها . ويقول بالأسباب الطبيعية التى أنكرها أهل السنة ملاحظا , كما لاحظ فلسفة الاسلام من قبل , أنها لا تتنافى مع قدرة الله واختياره فى شىء . وفى اختصار يتفق الأستاذ الامام مع الفارابى فى محاولته التوفيق بين العقل والنقل , بين العلم والدين . وهذه المحاولة تدور عادة حول نقط تكاد تكون محدودة , ولعل هذا هو السبب الذى قرب المسافة فى بعض المسائل بين هذين المفكرين
تتبعنا فى كل ما سبق نظرية النبوة الفارابية منذ نشأتها , اعنى فى القرن العاشر الميلادي , إلى أن وصلنا بها إلى أوائل القرن العشرين ؛ ونأمل ان نكون قد وفقنا لبيان اثرها فى الشرق والغرب , فى التاريخ المتوسط والحديث ؛ و تعتقد ان فى هذا ما يحفزنا إلى إحياء الدراسات الفلسفيةالاسلامية , فقد قلت أن هناك صلة بين أفكار اليوم والأمس , وفى أبحاث القرون الوسطى ، كما لاحظ ليبنتز , درر نفيسة لا يصح إغفالها . على أن نهضتنا العقلية والفكرية لا يمكن أن تؤسس على أساس صالح إلا إن ربط فيها الحاضر بالماضى واتصلت سلسلة التفكير الاسلامى الصحيح ؛ ولنا فى الاستاذ الامام والسيد جمال الدين أسوة حسنة

