الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 684الرجوع إلى "الثقافة"

نظرية شوبنهور فى الفنون

Share

] العمل الأدبى كالمرآة . . فلا تنتظر من المرأة أن تعكس صورة ملاك إذا نظر فيها حمار ؟ [.                                                   ) شوبنهور(

كان شوبنهور فنانا بطبعه إلى جانب ما عرف عنه من أنه فيلسوف . كان فنانا فى أسلوب كتابته كما امتاز بالروح الفنية فى طريقة تفكيره ؛ ولعله لم يؤثر عن فيلسوف قط جمال أسلوب وحيوبة تعبير وروعة أداء ، كما أثر عن شوبنهور ( وأفلاطون الذى كان دائما مصدر وحى لشوبنهور كما يقول هو نفسه ) . وإن دل تغلغل الروح الفنية فى عمله الفكرى على شىء . فإنما يدل على مدى ماتمتع به عقله من قوى وملكات ومقدار ما أثرت فيه ظروف حياته الخاصة . فشوبنهور فيلسوف مفكر ، ولكنه شذ فى الحقيقة عن الطريقة الأستاذية ، التى اتبعها بوضوح كت ، وهجل ، فى رسم مذاهبهم الفلسفية ، وبناء كيانهم الفكري . كذلك لانعدم لدى شوبنهور ميلا أدبيا ظاهرا ، ولا يزال أسلوب الكتابة الذى اختص به موضع إعجاب المفكرين والنقاد ، ولا تزال طريقته فى التعبير محل ثناء كل من ألفي نظرة - ولو يسيرة - على مؤلفاته . فهذا عامل أساسى من بين العوامل التى ينبغى أن نتطلع إليها ونحن بصدد الكشف عن مقوماته الأدبية واتجاهه فى تفسير الفنون .

وكان شوبنهور متشائما كذلك . . ورث التشاؤم بمزاجه واعتقه يعد ذلك بفكره ثم جنح إليه بخياله . ويرد برتراند رسل تشاؤمه إلى ذوقه ومزاجه الخاص وإلى تكوينه الطبيعى ولكن باحثا مع ذلك لا يستطيع أن يهمل هذه الموجة العامة ، وأن يتجاهل ذلك الاتجاه السائد إبان النصف الأول من القرن التاسع عشر . . موجة التشاؤم والاتجاه السوداوى فى نفوس الشعراء والأدباء ، أمثال بيرون فى انجلترا وألمريد دى موسيه فى فرنسا وهينى فى ألمانيا . كذلك لابد من أن تربط بين روح شوبنهور ونظرته

وبين نبرات الحزن العميق فى ألحان شوبان وشويرت وبيتهوفن ، فمن الصعب أن تقصر تفسير التشاؤم عند شوبنهور على مزاجه الشخصى ، طالما كان من السهل إيجاد بذور تابعة لاتجاه عام فى الإحساس والتذوق . بل يصعب - إن لم يكن من المستحيل - أن نعزل شوبنهور عن الميول الرومانتيكية التى سادت حينئذ ؟ وقليل من التأمل فى تفكير شوبنهور نفسه سيكون كافيا لأن يردنا إلى عناصر وأصول عديدة من صميم المذهب الرومانتيكي .

وليس من الصعب على الباحث فيما أعتقد أن يقرن بين الحركي الرومانتيكية وبين فلسفات شوبنهور ونظراته وآرائه . فنحن نعرف من تاريخ شوبنهور ومن وقائع حياته الجارية انه عمل ، تحت تأثير الرغبة الشديدة التى أبداها والده . كانا فى إحدي المنشآت التجارية فى هامبورج سنة ١٨٠٥ ، ولم يستطع التخلى عن أوضاع حياته على ذلك النحو إلا بعد أن مات والده . كان يمقت تلك الحياة وينزع إلى حياة علمية يحقق فيها رغباته وميوله ، ولكنه تأثر مع ذلك بأشياء هامة ، وتركت هامبورج فى قلبه خيوطا قوية من نسج شخصيات كبيرة فى الحركة الرومانتيكية مثل إتسبيك ونوفاليس وهوفان ، وهنالك أيضا - على أيدي هؤلاء - هام باليونان القديمة وأقبل على حضارتها وعرف كيف يستفيد منها واعتاد - متأثرا برومانتيكى آخر هو إشليجل - أن يجنح إلى تفكير الهنود ، وأن ينظر فى آثارهم . ويعجب بدياناتهم .

ونحن نعلم من تاريخ الرومانتيكية أنها ليست مجرد نزوع أدبى وميل فنى . . ليست مدرسة شعر ومذهب نقد فحسب ، وإنما هى - بالإضافة إلى ذلك - طريقة خاصة فى الحياة وسلوك ذاتى فى المعيشة ، فهى - إلى جانب كونها

طريقة مذهبية فى النظم الفنى - تمتلك منهجا حبا فى الشئون الفردية وتقدم أصولا وضعية فى الحياة ضمن ما تقدمه من أصول نظرية فى الأدب . أو بعبارة أخرى يمكن النظر إلى الرومانتيكية على أنها مدرسة فن وحياة بمعنى الكلمة ، وعلى أنها طريقة فى النظر والعمل على السواء ؛ ولذلك نجد أن معظم الفنانين والأدباء المنتمين إلى النزعة الرومانتيكية قد جعلوا من حياتهم نفسها عملا فنيا وعاشوا أعمارهم بطريقة معينة توائم نظرتهم وتتفق وميولهم . فإذا كان شوبتهور قد تأثر بالرومانتيكية فهو لم يخضع لها فى معانيها ومبادئها فقط ، وإنما اجتذبته ملامحها إلى حد أن اصطبغ تفكيره ، فى الفلسفة ذاتها ، بأسلوبها ، وتكونت لديه عادة القياس إليها ، وأقل نظرة ترمى بها إلى المدرسة الرومانتيكية وإلى فلسفة شوبنهور ، ستكون كفيلة بأن تكشف لنا عن حقيقة لها أهميتها فى هذا المجال ، وهى أن ثمة اتصالا قويا وعلاقة واضحة فيما بين آراء شوبنهور عن الفنون وآراء زعماء الرومانيكية فى الحياة . وأعتقد أن الأمر فى هذا الاتصال ليس مجرد تشابه أو مجرد تناظر ، لأن العناصر الفكرية للبثوثة فى غضون التآليف الرومانتيكية قد برزت بروزا واضحا فى أعمال شوبنهور وارائه الفلسفية ، ولأن طبيعة الاتجاه الروحى المستكن فى أشعار لامارتين الغنائية الحزينة ، وفى قصائد نوقاليس الأسيانة هى نفسها الغالية على معتقدات شوبنهور .

يقول فاجيه فى بعض كلامه عن الحركة الرومانتيكية فى الأدب : إن الأصل فيها هو الإشفاق من الحقيقة ، والرغبة فى تخاشها . ولو أننا تابعنا تفكير شوبنهور وفلسفته الخاصة بالعالم كإرادة ومثال لوجدنا نفس التيار مترجما إلى لغة العقول وعثرنا على عين الحقيقة معبرا عنها بأسلوب الفلاسفة ؛ فالفن هو نوع من الهرب ، وسبيل من سبل النجاة والخلاص ، ولذلك يقول فيليب مديتشى فى كتابه عن نظرية العقل لدى شوبنهور - إن الهدف المقصود من وراء كل فكرة جمالية عنده هو التأمل ، وحسبنا أن حركة شروط التأمل لدى شوبنهور كما نعرف مدى ارتباطه فى ذلك التفكير بالنظرة الهندية ( الترقانا ) ، وبالطريقة

الرومانتيكية . ذلك أنه من الضرورى فى اعتقاده محاولة الانقطاع كلية عن الإرادة المردية وعن حدود الزمان والمكان وعن لوازم الحياة الدنيوية من أجل الوصول إلى معرفة الأفكار سواء ما كان منها متصلا بالمسائل العقلية أو بالحالات الوجدانية الجمالية

وحقيقة الفن كما تصورها شوبنهور مرتبطة ارتباطا وثيقا بمذهبه الفلسفى وبفكرته الخاصة فى تفسير الحياة والوجود ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تجزىء فكرته عن الفنون وان نفهمها بمعزل عن صميم اعتقاده فى الإرادة . وشأن شوبنهور فى ذلك شأن هيجل وشلنج ، فعندهما - كما هو الأمر عنده - يستحيل أخذ نظرية الفن جانبا أو النظر إليها بوصفها شيئا مضافا إلى أصول اعتقادهم الفلسفى . ولكن ما هى ملامح ذلك الاعتقاد الفلسفى الذى أدى إلى وجود هذه النظرة التى ارتآها ، وأمن بها شوبنهور فى تفسيره للفن ؟

رأي كنت فيما رآه أن حقائق العالم تنقسم إلى نوعين : نوع ظاهر ونوع باطن . فهناك عالم ظاهرى تدركه بالحواس والأفكار ، وهناك عالم باطن لا سبيل إلى إدراكه أو التوصل إليه . والحقيقة الباطنة أو الشئ فى ذاته لا يقع فى حدود التجربة البشرية ، وإنما هو بعيد عن النطاق الذى يؤثر فيه كل من الزمان والمكان ، وقد تناول شوبنهور عالم الباطن أو الشئ فى ذاته وأعطاه معنى جديدا واحتفظ له بصفات كثيرة من تلك الصفات التى كان قد أصبغها عليه كنت . . سماء الإرادة وقال إن هذه الإرادة لا زمان لها ولا مكان ، وإنها تختفى وراء كل مظهر من مظاهر الحياة فى العالم الدنيوي ، وهى واحدة على الرغم من التعدد البادى فى الأمور الرئيسة الجزئية ، وهى كلية عامة بحيث تشمل الوجود بأكمله وتتمثل فى تطورات الطبيعة بأسرها . وكونها ارادة فذلك معناه الشقاء ؛ فكل إرادة هى مصدر للشقاء وسبب من أسباب التعاسة وداع من دواعى الهم ؛ ولذلك فهذه الإرادة التى تعم الوجود شريرة . . وهى أصلى فى كل ضروب المعاناة والألم فى حدود معاشنا الأرضى . فالإرادة معناها الرغبة والانتهاء ، ولا وجود

للرغبة أو الاشتهاء بغير مطلب التحقيق . وهنا تصطدم الإرادة بعد المسافة بينها وبين الأمل . . وحتى لو تحقق الأمل ، فكم ذا من الآمال قد اندثرت فى الطريق إن النزوع إلى تحقيق هذا الأمل وحده ؟ وذلك فإن عالم الإرادة هو عالم شقاء ، لأن الرغبة لاحد لها ، بينما يسهل علينا جدا تحديد الأماد التى تنتهى إليها كل محاولة لتحقيق رغبة وفض إمكانية . وليس هنالك من يستطيع أن يزعم عن عملية التحقيق لأى هدف أو رغبة أنها مرضية ، بل - على العكس من ذلك - تحس فى قرارة نفوسنا بأن كل تحقيق هو ضرب من الإفساد للأمل المرجو ، وبأنه ما من شىء يؤدى إلى سخافة المطلب المنشود مثلها تؤدى إليه حيازته وضمانه .

هذا هو العالم الذى تستتر وراء مظاهر ، إرادة الحياة ، ولكن أين جانب المثال من هذا الوجود ؟ هنا يظهر بوضوح أثر أفلاطون على فكر شوبنهور . فقد استطاع شوبنهور  أن يأخذ المثل ( أو للصورة إذا شئنا ) مكانا متوسطا بين الإرادة الخفية وعالم الأشياء الظاهرة ، وقال إن الإرادة تحقق موضوعها فيها مباشرة ، وبذلك نعدها مراحل فى طريق التحقق السابق على الكثرة . أو هى عبارة عن الأنواع والصور الأصلية التى لا تتغير وكيفات الأجسام الطبيعة ؛ وتقف من الظواهر الفردية بمثابة النموذج من النسخ ، وتتصف فما عدا هذا بالخلود وعدم الخضوع للقوانين التى تتحكم فى عالم الظاهر ، وعقولنا - هذه العقول التى ترزح تحت أعباء الإرادة الفردية وتنقلها أشكال المعرفة العادية من زمان ومكان وعلية - لا يمكن أن تتطلع إلى عالم المثال ، ولا تملك القدرة على تقبل المعارف الخالصة البريئة ، وإنما يكون محصولها مجرد أمشاج من المعارف العملية . وذلك لأن العقول فى هذه الحالة إنما تسيرها الإرادة . . ويبدو جليا بعد هذا ، أنه ما دام العقل فى سبيله إلى أداء وظيفته الطبيعية ، وأنه طالما كان خاضعا لضرورات الحياة سيكون مستحيلا بالنسبة إليه أن يتوصل إلى معرفة المثل ، وانه إذا شاء إدراك هذه المثل فعليه ، أولا وقبل كل شئ ، أن يتخلى عن المبادئ التى تشقت

روحه وتوزع قواه ، وأن يخرج على مؤثرات الزمان والمكان والعلية ، وأن ينزع عن كتفيه مستلزمات الإرادة الفردية . وذلك كله لكى ينفض عن كاهله غبار العالم الواقع . عالم الإرادة الشريرة . ويستحيل إلى عقل خالص .

وهذا العقل الخالص بالإضافة إلى المثال يضعان الأسس التى يتركب منها العيان الجمالى ويلتحمان فى حالة شعورية واحدة . هذه الحالة هى الشرط الأول والأخير لعملية التأمل حيث لا يحب الإنسان ولا يكره ، وإنما يتأمل فحسب ، يتأمل المثال الخالد وقد تبدي فى الشئ القائم أمامه . فالعيان الجمالى أو المشاهدة الدوقية ليست سوى تمثيل أو استحضار الصورة ( او المثال ) بواسطة العقل الخالص ، لأنه في حالة العيان الجمالى يستحيل الشئ القائم أمام الشخص إلى مثال نوعى جملة واحدة ، كما يستحيل الشخص نفسه ( أو الفرد ) إلى ذات خالصة عارفة . وهكذا تتحقق للنفس الإنسانية طريقة للخلاص بالحيازة على اللذة الجمالية .

وفى الفنون يمكن - اكثر مما يكون هذا ممكنا فى سواها من العلوم والمعارف - أن تتم للنفس عملية التأمل على وجهها الأكل وأن يتحقق لها الخلاص المؤقت من الزمنية والرغبة ، وذلك لأنه من الممكن فى أبواب الفن أن بتجنب الإنسان ما لا أهمية له ، وأن الشئ المدرك - أى العمل الفنى سواء كان قصيدة أو لوحة أو نغما - مبتور الصلة بما يهيج الرغبة ، ولا شأن له بإثارة المطالب العادية ؛ فمن المحتمل مثلا بالنسبة إلى الإنسان الذى يواجه تفاحة ناضرة أن يشتهى أكلها ، ولكن باب الاحتمال يكون مقفلا إذا كان ما واجهه هو لوحة قد رسمت عليها التفاحة نفسها بدقة . فهاهنا فى الحالة الأخيرة نجد من الوضع نفسه معونة على التأمل بطريقة جمالية خالصة ، ومن الممكن بطبيعة الحال أن يتأمل الشخص تفاحة حقيقية من وجهة نظر جمالية خالصة ، ولكن كونه يعرف أن التفاحة المرسومة على اللوحة غير حقيقة ولا يمكن التهامها، من شأنه أن يسهل له عملية التأمل الجمالى الخالص وأن يعينه على التحرر من عبودية الإرادة .

فالخلاص إذا بالفن ؛ ومهمة الفن على هذا الوجه هى التحرر من عبودية الرغبة وقيود الإرادة عن طريق التأمل الجمالى ؛ وسواء كان التأمل الجمالى متعلقا بعمل من أعمال الفن أو بمشهد من مشاهد الطبيعة ، فإنه يكفى أن يشير موضوع التأمل إلى دلالة ، أو معنى متميز من الأشكال الطبيعية ، حتى يشير الإحساس بالجمال وحتى يؤدى إلى تمام الشعور بما هو جميل . فالجمال عنده - على هذا الأساس - هو الشكل الدال أو هو المثال المقدم إلى الإدراك الحسي فى حدود الواقع ، ولذلك استطاع شوبنهور تعريف العمل الأدبى بأنه تعبير الفنان عن مدى فهمه وإدراكه للمثال ( بالمعنى الخاص بفلسفة شوبنهور كما تقدم ) . وإذا كان هذا هو اعتقاد شوبنهور فى الفنون فسيترتب على ذلك قوله بأن العبقرية ليست موحدة الاتجاه أعنى ليس عملها مقصورا على استيعاب المثل ، وإنما يتطلب بالإضافة إلى ذلك مقدرة على إعادة إنتاج هذه المثل أو إعادة التعبير عنها فى الرسم والنحت والشعر وهندسة البناء والموسيقى .

وهاهنا نجد أنفسنا بإزاء صعوبة أولى مصدرها ذلك التقارب الواضح بين سبيل المعرفة عموما وسبيل الفن على وجه الخصوص . فإذا كان التأمل المثل سبيل كل منهما - الفن والمعرفة - فكيف يتسنى لنا أن نخلط هذا السبيل أو ذاك وأن نميز الأول من الأخير ؟ لا نملك والأمر كذلك ، إلا أن نشير إلى تفرقة وضعها شوبنهور بين عمل الفنان وعمل الفيلسوف عند ما جعل خاصية الفنان - كالشاعر مثلا - إبراز الصور ( أو المثل) المدركة على نحو تجسيمى وبطريقة واقعية ، بينما خص الفيلسوف بطريقة مجردة فى تعبيره عن الصور أو المثل التى يلتقطها أثناء عملية التأمل ، والصلة هنا بين أرسطو شوبنهور ليست ضعيفة . كذلك يلاحظ أن الفنون تصل إلى الغاية وتحقق أهدافها ، بينما تعجز العلوم الطبيعية إذ تتوقف مسائلها على ما يجد من اكتشافات وما يرد من المعلومات ، والتاريخ هو الآخر لا يمكن أن يتوقف عند مرحلة بالذات طالما كان الزمن فى توالد مستمر وطالما كانت الليالى حبالى على ما نرى . ثم إن التاريخ يهتم بالجزئيات ويعنى بالمسائل الفردية ، فى حين يتعلق

الشعر بالمسائل الكلية وينزع إلى المثل فيحيلها إلى نماذج مجسمة ، وهكذا يفضل الشعر كل شق من شقوق المعرفة أو هو على الأقل ينفرد بسمات خاصة قلما يتقابل فيها مع ألوان المعارف الأخرى .

أما الصعوبة الثانية فتأتى من كيفية التفرقة بين الرجل العادي والرجل العبقرى فى هذا المضمار . فالناس سواسية إذا طالما كان بمقدور كل أحد أن يتطلع إلى المثل وأن يتخلى عن الرغبات فى سبيل إتمام عملية التأمل ، ولكن شوبنهور يتخطى هذه الصعوبة بأن يقول عن ملكة استيعاب المثل بوضوح وإبرازها بوضوح أيضا فى تعبير أدبى ، إنها خاصة بأفراد قلائل . من الضرورى ولا شك أن تكون موجودة ، ولو بدرجة بسيطة ، فى كل الأفراد ، وإلا استحال على الناس تذوق الأعمال الأدبية ، كما هو مستحيل بالنسبة إليهم أن يعبروا عما يتوصلون إليه في عملية التأمل . اللهم إلا أولئك الذين يصعب عليهم تقدير الجمال وتذوقه بأى معنى ، فمن المستحيل بالنسبة إليهم أن يتجردوا عن الرغبات الحسية ويصعب عليهم بالتالى تقدير أى دلالة من دلالات الجمال . فباستثناء أولئك ، يكون كل الناس مهيئين للنفاذ من دائرة النفس المحدودة وقادرين على الخروج من أبواب ذواتهم الضيقة والتطلع إلى المثل ( أو الصور ) ومعاينتها وجها لوجه أثناء زمن وجيز . ومن المشاهد أن بعض الناس لا يكون مؤلفا أو شاعرا أو موسيقيا ، ومع ذلك فهو يملك القدرة على تذوق الأعمال الفنية تذوقا عميقا ، ويمكنه الاستمتاع إلى حد كبير بالألحان والقصائد واللوحات . ذلك أن الفنان يدعونا إلى استجلاء العالم فى بريق عينيه ، ونستطيع - عن طريقه - أن نتوصل إلى ما لا يمكن أن نتوصل إليه بملكاتنا الطبيعية ، وهذه هى حدود الفنان وحدود الشخص العادى .

وأهم من هذا كله تفرقة أخرى يضعها شوبنهور بين الإنسان المادى والرجل الفنان ، وهى أن هذا الأخير يتمتع بمقدرة عملية تعينه ، على الأداء الفنى ، وحرمان الرجل العادى من هذه المقدرة فاصل قوى بين العبقرية وملكة التذوق . لقد زعم كروتشة أن عملية الحكم والتذوق تتضمن التعبير

الفنى ولو داخليا ، وعلى هذا المقياس يكون التمييز صعبا بين رجل الفن الحالق وبين الذين يستمتعون بفنه وينتقدونه ولكن شوبنهور لا يؤمن بمسألة التعبير الداخلى ولا يعترف بحالة الإحساس البحث على اعتبار أنها حالة عبقرية من حالات الفن ، إنه أصوب من كرونشه كثيرا عندما يضع حقيقة التعبير الأدبى المصنوع كشرط أساسى فى العمل الفنى وفى العبقرية الأدبية الخالقة . إنه يتفق مع كروتشه - كما يظهر مما سبق - فى استلزامه وجود نوع من الإحساس الجمالى لدى الرجل العادى وفى قوله بأن الاختلاف بينهما ليس اختلافا فى الكيف ، وإنما فى الكم ، أعنى فى مقدار إحساسه ووعيه . وليس فى نوع ذلك الإحساس والوعى ؛ ولكنه يختلف عنه فى حالة قوله بأن العبقرية . الفنية تحتوى على ملكة المعاينة للصور (أو المثل) وملكة

التعبير الخالق معا ، وعلى ذلك فالملكة الأخيرة هى فاصل قوى واضح بين الرجل العبقرى والرجل العادى ، وهى ملكة لا معنى لما خير المعرفة المكسبة والمران العملى والدرية على الأداء .

فرق شاسع إذا هو ذلك الذى يقع بين تعبيرين أحدهما الإنسان عادى والآخر لإنسان عبقرى عندما يواجهان عاملا من عوامل الإحساس الجمالى . وهذا الفارق هو الذى أسمى بكل قواى من أجل إبرازه للقارئ شتان بين تعبير عادى وتعبير مصنوع ، وأصل العبقرية الفنية وشرطها اللازم هو هذه المهارة الصناعية فى أداء الإحساس الجمالى وإبراز المضمون العاطفى وإخراجه من دائرة الشعور إلى عالم الواقع الحي مجسما على أى نحو من الأنحاء قصيدة أو مقالة أو قصة .

اشترك في نشرتنا البريدية