بعد ثلاثة وثلاثين قرناً من تاريخ مصر الخالدة نفخ جندي فى بوق(1) فرعونها الشاب
توت عنخ آمون، فدوَّى صوته الندىُّ فى أرجاء العالم وهو يمور موران البحر، ويفور فوران البركان، وتتدافع شعوبه المكلوبة المكروبة عمياناً وصُماَّ إلى مهاوى الموت! فليت شعرى ما الذى أخطر ببال المتحف والإذاعة هذا الخاطر الغريب فى هذا الحين وفى هذه الحالة؟ أهو القدَر الإلهى الراصد الذى يقول كلمته فى كل
حادث، ويعلن مشيئته فى كل مشكل؟ أم هو الروح المصرى الخالد الذى بدأ حضارة العالم، وأنشأ معرفة الناس، ولا يزال يوحى بكل فكر ويشارك فى كل أمر؟
من كان يقع فى حسبانه من فراعين النيل ودهاقين الوادى أن بوقهم الذى كان يدعو إلى الطعن والضرب، ويقضى فى السلام والحرب، يحتفظ به الدهر الطحون ثلاثة آلاف وثلاثمائة عام لُيبلغ به اليوم أذن الدنيا جمعاء صوتَ مصر الذى لا يخفت، ومجد مصر الذى لا يبيد؟
ما كان أروع هذا الصوت الفضى القوى وهو ينبعث من جوف الماضى العميق السحيق، وينتشر جهيراً جباراً على أمواج الأثير، فينصت الفلك، ويدهش العالم، ويتذكر التاريخ، ويغوص الخيال الشاعر فى خضم القرون ويطفو!
أيها النافخ فى صور إسرافيل! أهى الراجفة (1)وانصعاق الأحياء، وانشقاق السماء، وزلزلة الأرضيين، واندكاك الجبال، وفناء العالم؟ أم هى الرادفة وانبعاث الأموات، وميزان الحسنات والسيئات، ثم استئناف الحياة الباقية الصافية التى تموت فيها المطامع، وتفنى الأحقاد، ويعيش بنو آدم فى ظلال الله إخواناً على سرر الحب، وضيفاناً على موائد الجنة؟
لتكن نفختك يا إسرافيل ما شاء الله أن تكون، فإنها لمصر القاعدة المتخلفة صيحة نشور ونذير أهبة! فقد درجت على هامها القرون وهى مطمئنة إلى الخمول، راضية بالعجز، يستغل خيرها الواغل، ويستقل بحمايتها المغير، حتى خشن على أيدينا السيف، وثقل على ظهورنا العتاد، وجثم على رجولتنا الجبن، وأصبحنا إذا طلبتنا القرعة نهرب، وإذا انتخبتنا الجندية نبكى، وإذا سمعنا بالحرب من بعيد يضطرب البال من الهم، ويطير الفؤاد من الفزع.
ثم كان من أثر هذه الحياة السليمة الوادعة، وهذه التربية المدرسية البليدة، أن فشا بيننا داء العجائز وهو الكلام، وداء الضرائر وهو الحسد؛ فأفواهنا الثرثارة لا تفتر عن قرض الأعراض
والعلائق، وعيوننا الطامحة لا تغمض عن الحسد الأرزاق والمواهب، حتى اتسعت الأحداق وطالت الألسن، بمقدار ما ضاقت الأخلاق وقصرت الأذرع. فلو كنا نشأنا على الجندية، وتمرسنا بالحروب، وارتضنا فى الشدائد، لكثر فينا رجال القيادة والنظام، وقل بيننا أهل السياسة والكلام، وكان عندنا من الشركات والجمعيات والمصانع والمجامع أضعاف ما عندنا من المؤتمرات والأحزاب والمقاهى والصحف. . .
هذه هى القارعة التى تهتك حجب الأسماع وأغشية الأبصار وغُلف الأفئدة. فاليوم لا كسل ولا جدل ولا اتكال ولا استكانه. لقد سلكنا متن الحياة بعد أن كنا نسير على الهامش، وخضنا عباب الأمر بعد أن كنا نعيش على الشاطئ، وحملنا تكاليف مصر العزيزة بعد أن كنا نلقيها من الخور والهون على الأكتاف الغريبة كتفاً بعد كتف
لشدَّ ما يشرق فى تاريخ النيل ذلك اليوم الذى يزحم فيه البحر والبر والجو أسطولُه الماخر وأسطوله الطائر وجيشه الجرار، ثم يستقتل فى سبيله بنوه البواسل الميامين فى الحصون والخطوط والخنادق، ليكون لثراه الحبيب من دمائهم رِى، ومن أشلاء عدوهم سماد، فيغصب فيه جدب العقول، ويزكو به غِراس البطولة!
مرحباً بالنار إذا كانت تذيب غش الأخلاق وزيف العزائم! وأهلاً بالحديد إذا كان يجذب ميت الأصول وذاوى الأفرع! ونِعِماَّ يبتلينا به الله إذا كان من ورائه جمعة من هذه الفرقة، وحياة من هذا الموت!
لقد استنفرَنا الماضى ببوق فرعون، واستفزنا الحاضر بوعيد بيرون، فلم يبق إلا أن نميط اللثام عن الوجه الحر، وننفض الغبار عن المعدن الكريم، ثم نولى وجوهنا شطر الحدود المقدسة، ونقوم للوطن كما نقوم لله صفَّا صفَّا، طائعين خاشعين، متحدين مستعدين تنتظر نداء العلَم الموموق وأمر القائد الأعظم!
