الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 589الرجوع إلى "الثقافة"

نقد، الكتب, بين السطور

Share

تأليف الأستاذ محمد عبد الغني حسن - ٢٠٦ صفحة - دار الفكر العربي - ١٩٥٠

ليس مؤلف هذا الكتاب مجهولا ، فهو شاعر كاتب أديب ، له عدة مؤلفات وعدة دواوين من الشعر . وقد عرفه القراء إلى جانب شعره ومقالاته ناقدا للكتاب العربي الذي يظهر حديثا في مصر أو في الشرق ، حتى اشتهر بالنقد وعرف به . بدأ بهذه الصناعة الشاقة في مجلة المقتطف ، ثم في الرسالة ، ثم في مجلة الكتاب . وهو الذي يكتب في آخر كل عام في مجلة الكتاب الإحصاء عن الكتب العربية التي أخرجتها مجلة المطابع .

والكتاب الأخير الذي جعل عنوانه " بين السطور " ، هو كما يقول صاحبه " نظرات نقدية لطائفة من الكتب أخرجتها المطبعة العربية في بضع السنوات الماضية " . وتزيد هذه الطائفة على ثلاثين كتابا ، صنفها صاحب بين السطور إلي كتب في الأدب والنقد ، وفي التربية والفكر ، وفي الفلسفة ، وفي بعض المخطوطات المنشورة ، وفي دنيا التراجم وفي دواوين من الشعر . وفي مطالعات شتى .

وليس لنا اعتراض على التصنيف في ذاته ، غير أننا نعترض على وضع بعض هذه الكتب في أصنافها ، مثال ذلك محمد عبده ، فقد وضعه مع الفلاسفة ، وكان الآنيق أن يجعله في دنيا التراجم .

وقدم الأستاذ عبد الغني لهذه الطائفة من النقدات بمقدمة قصيرة كنا نود أن تطول ، وان يضرب فيها إلى صميم موضوع النقد ومبادئه ، حتى تتبين القواعد التي اهتدى عليها في النقد . فهو يقول في المقدمة : " وهو نقد كان

الحق والإنصاف دائما أكبر دوافعه ، وكانت الغيرة على التحقيق العلمي والنشر الدقيق أول بواعثه " . هذا كل ما تجده عن بواعث النقد ؛ أما عن قواعده فقد أطال بعض الشئ في الكلام على نشر المخطوطات . قال : " وقد أطلت النقد في تحقيق المخطوطات المنشورة ، وتتبعث من المآخذ ما قد يظنه القارئ العادي عملا لا غناء فيه . ولكني أرجو أن يجد الأديب المتمكن في هذا العمل حرصا على التراث العربي أن يخرج على ما أراده له أصحابه المؤلفون الذين قرحوا جفونهم وسهدوا عيونهم في ) خراجه . فلا محل بعد ذلك لأن يخررج الشعر مكسورا ، أو النص محرفا ، أو اللفظ مشوها ، ثم نزعم بعد ذلك أننا نحيي تراثا ، أو ننشر ميراثا . ويخطئ الذين يهونون من قدر التصحيح العلمي واللغوي والتارخي والشعري في المخطوطات المنشورة ، أو الكتب التي تزدحم بالنصوص ؛ فإن الاستهانة في هذا السبيل ليست من مصلحة الكتاب العربي ، الذي ترجو له أن يبلغ من الدقة والتحقيق ما بلغه الكتاب غير العربي . ولا أعاد الله أيام الناشرين الأولين اللذين كانوا يتجرون بالتراث العربي ، فأخرجوه على وجه سقيم لا ينفع علما ، ولا يفيد فهما " .

فأنت ترى أن الناقد الفاضل يعني عناية عظيمة بتصحيح الأخطاء اللغوية ، حتى يخرج الكتاب خاليا من الأخطاء وقد عاب على الأستاذ الشايب في كتابه تاريخ النقائض وجود أخطاء مطبعية فقال : " ولا أدري والله أألوم الأستاذ

الشايب أم ألوم الناشر ، حين ازدحم هذا الكتاب الجليل بأخطاء ما كان ينبغي لها أن تكون . وإذا جاز ذلك في قصة أو مقال عابر أو في لغو الكلام الذي نقرؤه هذه الأيام ، فهل يجوز في كتاب جامعي وبحث رفيع أدبى ؟ وقد أخذ على أحد المؤلفين رسمه ابن مسكوبه بالتاء وهي بالهاء . وغير ذلك كثير .

وسوف نؤاخذ الأستاذ عبد الغني على أخطائه التى وردت في كتابه بنفس الميزان الذي أخذ به في نقد غيره . لأننا نفهم أن هذه الأخطاء لو وقعت من أديب ناشئ ، أو كاتب لم تكن اللغة صناعته لاغتفرناها له ، ولكنها صدرت عن عبد الغني حسن ، وهو من هو ، تفقها في اللغة ، ومعرفة بأسرارها ، وحرصا على سلامتها .

يقول في صفحة ١٨٨ عند الكلام على كتاب مرايا الناس للسيدة وداد سكاكيني : " فذلك مالا يعينهم " وعن لا نعرف أن لا النافية تدخل على الأسماء والعين المسبوقة بحرف الجر ، وأظن أن الصواب هو " ما لا بعنيهم " من عني يعني .

وفي صفحة ١٥٠ عند الكلام على كتاب البحتري للدكتور محمد صبري " والشرفة من من القصر ما أشرف من بنائه " وقد أدمنت النظر في هذا النص ، وقلبته على وجوهة ، أتكون من الأولى اسما والثانية حرف جر ، فيكون المقصود الذين في الشرفة من القصر . ولعلها خطأ مطبعي جاء من تكرار اللفظ ، وسهو المصحح . وهو الأغلب .

وفي صفحة ١٥١ " فيقو : رياح جيشنا " وليست " يقو " لغة في يقول ، ولكن اللام قد سقطت من الطبعة .

إني لأعرف في عبد الغني يقظته الشديدة ، وحرصه العظيم على الكمال ، والعناية الفائقة بالتصحيح ، ومع ذلك لم يخل كتابه من أخطاء مطبعية لا تغيب عن فطنة القارئ . وهذا عيب المطبعة المصرية ، فقل أن يخلو كتاب من خطأ من هذا القبيل . وهذه مشكلة الطباعة العربية ، يرجع أعظم العيب فيها إلى جهل الذين يصفون الحروف أو يجمعونها وإلى امتلاء البروفات بالأخطاء مما يضيق به صدر مؤلف الكتاب . هذا إلى صعوبة الرسم في الحروف العربية مما دعا معالي عبد العزيز فهمي باشا إلى اقتراح كتابة العربية بحروف لاتينية . وأحسب أن دور النشر في مصر مسئولة عن الأخطاء أكثر من مسئولية المؤلف . وقد اشتغل بصناعة

الوراقة قوم من الجهلاء لا يعرفون للعلم منزلته ، ولا يطلبون إلا الربح من أي سبيل ، مع أن طبع الكتب ينبغي أن ينزه عن التجارة والكسب .

وترجع إلى صناعة النقد ، فهي لاتزال ناشئة في مصر مع عظيم منزلتها في الغرب . وقد اشتغل بهذه الصناعة أو بهذا الفن كثير من أدبائنا على سبيل الهواية ، مثل طه حسين والعقاد والمازني في الجيل الماضي ، وكانت كتاباتهم عن شوقي وحافظ بوجه خاص من الأسباب القوية التي لفتت الأنظار إلي شعرهما من جهة ، وإلى حفزهما إلى الكمال من جهة أخرى . وقد اهتم المحدثون بالنقد الأدبي والنظر في مبادئه وقواعده أو أسسه التي يقوم عليها ، وترجم الدكتور مندور طائفة من الكتب في هذا الباب . وكتب الشايب في الأسلوب والنقد الأدبي ، والزيات دفاعا عن البلاغة ، وهي جميعا ينصرف الكلام فيها إلى الأدب ، لا إلى الكتاب وتأليفه .

وقد اشتغلت بعض الوقت بنقد الكتب ، لأن جماعة من الأصدقاء طلبوا منى أن أكتب في ذلك ، وأعلن رأي في تصانيفهم ، وقد كونت بعض الآراء عن طريقة النقد هي خلاصة التجربة ، وثمرة المعاناة . أولها أن القارئ يريد معرفة خلاصة يسيرة صحيحة عن الكتاب الذي تنقده ولذلك لابد أن يبدأ الناقد بتلخيص الكتاب وإبراز فكرته الجوهرية . وليس هذا عملا يسيرا ، لأن تركيز مئات من الصفحات في صفحة أو أقل من ذلك قد يفسد الفكرة ، وقد يذهب برونقها ، وقد ترجع روعة الكتاب إلى أسلوبه وإلى طريقة معالجته للبحث . ولذلك أنصح دائما بالرجوع إلى الكتاب الأصلي دون الاكتفاء بقراءة نقد عنه يوجز الفكرة وكثيرا ما يحل بها .

ولذلك أنصحك بقراءة كتاب الأستاذ عبد الغني ، لأنك سوف تستتمتع بأسلوبه الرقيق ، ونظراته الفاحصة ، ولفتاته اللطيفة .

وترجع إلي طريقة النقد فنقول : إن الناس يفهمون من النقد أنه تجرع وكشف عن عورة الكتاب وبيان مسائه وأخطائه ، ويفهم البعض الآخر أنه تقريظ يساق فيه المدح إلى صاحبه . والنقد الصحيح ليس بالتقريظ ولا بالتجرع ، بل هو ميزان دقيق يتبين منه الناقد أحقق الكاتب الغرض المنشود أم لم يحقق ، اصاب الحق ام لم يصب ،

أسار على منهج سديد أم معوج . ولا بأس بعد ذلك أن يشير الناقد إلى الأخطاء العابرة التي وردت ، وكان في الإمكان تجنبها .

وبعد ، فليس من الممكن رسم خطة واحدة تتبع في نقد سائر الكتب ، لأن التآليف مختلفة من جهة موضوعاتها اختلافا عظيما ، وهذا يستتبع اختلاف طريقة النقد . وأحسب أنك لا تجري في نقدك على طريقة واحدة حين تنقد ديوانا لشاعر ، وحين تنقد مخطوطا نشره ناشر وحققه .

انظر إلى ما كتبه عبد الغني في نقد ديوان أنات حائرة للشاعر عزيز اباظة ، حيث يقول : " وقصة هذا الديوان هي قصة الدموع ، والنار المتلظية بين الضلوع " . ثم يمضي في تحليل الشعر ورده إلى نزعات صاحبه وأحواله النفسية . فهو لا يجرح ، ولا يتلمس خطأ ورد في لفظة ، كما يفعل ذلك عندما ينقد كتابا مخطوطا قديما نشره ناشر .

وقد رأيت كثيرا من المؤلفين يغضبون أشد الغضب لنقد كتبهم ، ويودون لو كان النقد كله تقريظا ومديحا . وكان شوقي يفزع من نقد شعره أشد الفزع ، ويرسل الرسل إلى النقاد يطلب منهم أن يخففوا من غلواتهم . وإذا كان هذا الخوف مقبولا من شاعر يعتز بما ينتجه ويفخر به . فلن يقبل من أهل العلم الذين يطلبون الحق لذاته . وأحسب أنهم ينبغي أن يتقدموا بالشكر إلى النقاد لتعاونهم وإياهم على إصابة الحق ، وعلى التنويه بالكتاب وما فيه من مجهود . ولذلك لا يغضب طالب الحق من النقد بل ينوه بصاحبه ، وفي مصر بعض هؤلاء لم يزدهم قبولهم النقد إلا تقديرا ، والاعتراف بالخطأ فضيلة .

بقي شيء آخر هو أن النقد تنويه بالكتاب المنقود ولو كان هذا النقد تجرعا خالصا ، وهو دليل على العناية بصاحب الكتاب . عندما كتب هيوم سيرة حياته ذكر أنه ألف " رسالة في الطبيعة الإنسانية " وطيعها ، ووصف استقبال الناس لها فقال : " ولم تلق قط أى محاولة أدبية من سوء الحظ مثلما لقيت رسالتي في الطبيعة الإنسانية ، فقد سقطت من الطبعة مولودا ميتا ، ولم تحظ بذلك القدر من الشرف الذي يثير همسات المتحمسين " .

قد تجد في نقد الناقد شيئا من القسوة ، ولكنه على أي حال ضرب من التقدير .

اشترك في نشرتنا البريدية