-٢-
١٣ - وفي صفحتي (٤١ و ٤٢) حدثنا أستاذنا الكبير عن ثورة الزنج ، كإحدى الثورات التي نجمت في الشرق عن فكرة المهدي .
والحق أن ثورات الزنج لم تكن قط قائمة علي هذه العقيدة؛ فمصادر التاريخ الإسلامي ومراجعه، تحدثنا أن صاحب هذا الأمر - الذي يسميه الطبري بالخبيث، والذي روع العراق وساكنيه، فأهلك الحرث والنسل في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري - لم يقل ابداً إنه المهدى. ولم يدع قط هذه الدعوى، ولقد اصطنع "الخبيث" لنفسه - وهو من ولد عبد القيس - نسباً يعلو به إلى الحسين بن علي، ليمخرق به على الجماهير الساذجة ، ولكن المؤرخين ينكرون عليه هذا النسب؛ فالطبري يقول: " زعم أنه على بن محمد ... إلخ " وابن واضح اليعقوبي يسميه "المدعي إلي آل أبي طالب" وابن طباطبا يقول: " فأما نسبه فليس عند النسابين بصحيح وهم يعدونه من الأدعياء".
ومهما يكن من شئ فقد زعم هذا الرجل الخبيث " أنه من آل على، وأخذ يدعو الناس إلى إمامته، لينقذهم مما يلقونه من بؤس وعنت، فاستجابت له جموع غفيرة من هذه الطبقات الكادحة العاملة الناصبة، ونجح الرجل إلى حين، وأكبر الظن أن علويته هذه التي اصطنعها ودعوته الناس إلى إمامته ، هما اللتان حملتا مؤلفنا الكبير على أن يسلكه - دون حق - في سلك التأثرين باسم المهدية.
وما كل تأثر صح نسبه إلى آل على - دع عنك المختلفين المزورين والمخرقين المشعوذين - قد ادعي في ثورته أنه
المهدى، فلم يزعم ذلك الحسن ولا الحسين ولا حفيده زيد بن علي.
١٤ - وفي صفحة (٤٣) وما بعدها ،حدثنا المؤلف عن القرامطة، ولقد كانت طبيعة البحث تفرض عليه، أن يتحدث عن هذه الطائفة الخطيرة من ناحية اعتقادهم بالمهدية موضوع الكتاب الذي يكتبه للناس؛ فالقرامطة يرون في محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق مهديهم المنتظر ويترقبون رجعته، ويزعمون أنه متخف ببلاد الروم ...! كما اختفى ابن الحنفية بجبال رضوى، وليس محمد هذا بمهدي فحسب، ولكنه رسول أيضا وسينسخ شرعه شريعة محمد ...! إلخ.
ولقد آسفنا أن يترك المؤلف تفصيل الحديث عن هذه المعتقدات التى تفرضها عليه طبيعة البحث، ثم يروح يحدثاً حديثاً طويلاً عن الحلاج والمنفي كأثرين من آثار القرامطة ..!؟ أو حديثا طويلاً آخر عن مبعث قيام القرامطة: هل هو اقتصادي أو غير اقتصادي ...؟ وهي دراسات تعرض لها على نطاق واسع وأثارها من قبل العلامة "بندلي جوزي" في كتابه المطبوع بالقدس بعنوان من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام".
ولست بالطبع أقلل من قيمة هذه الدراسات التي استطرد إليها مؤلفنا الكبير، ولكنى فقط أنكر هنا محلها، فمكانها الطبيعي كتاب عن القرامطة، أو دراسة مستفيضة عن المهدية، لا كتيب صغير عنها، ثم يستوف بعد مادته الأساسية الأصيلة.
١٥ - وفي صفحة (٤٩) أورد المؤلف للمتنبي قوله : على فتى معتقل صعدة يعلها من كل دافي السبال
والصواب: "من كل وافي السبال ولعله من خطأ الطبع .
١٦ - وقد أورد المؤلف المتنبي بعد ذلك قوله:
يا أيها تلك المصفَّي جوهراً
من ذلك الملكوت أسمى من سما
نور تظاهر فيك لاهوته
فتكاد تعلم علم ما لم تعلما
وصواب البيتين:
يا أيها الملك المصفى جوهرا
من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
نور تظاهر فيك لاهوتيه
فتكاد تعلم علم ما لن يُعلما
وأما ما أورده لأبي الطيب (ص ٥٠) من قوله: " أنا مبصر وأظن أبي نائم " فهو خطأ مطبعي، صوابه "وأظن أني نائم".
١٧ - وفي صفحة (٥١) أورد لأبي الطيب أيضا قوله: ليس يحيق الملام في همم أقربها منك عنك أبعدها ولو ذهبت تستقري كل ما ليحيق هذه من معنى، لما استقام لك في هذا البيت معنى!
والصواب " ليس يحيك " أي يؤثر. ١٨ - وفي صفحة (٥٩) يحدثنا أستاذنا عن ثورة " البساسيري " كإحدي الثورات الصغيرة التي قامت على عقيدة المهدى وأخمدت في مهدها.
والحق أن ثورة البساسيري، كما يروبها لنا المؤرخ الكبير العلامة ابن الأثير، لم تكن قائمة هي الأخرى على عقيدة المهدى، فالرجل لم يزعم نفسه هذا الزعم، ولم يزعمه لأحد، وكل ما حدثنا به ابن الأثير أن هذا الثائر قد خرج على ولي نعمته، الخليفة العباسى القائم بأمر الله - بعد أن مكنه هذا من شئون الدولة وجعل له الصولة والسلطان - وأخذ يدعو الناس ويقاتلهم، ليخرجوا على خليفة بغداد، ويدينوا بالولاء والطاعة لخليفة القاهرة، المستنصر بالله أبي تميم معد، فليس ثمة مهد ولا مهدوية!
١٩ - وفي صفحة (٦٣) يقول المؤلف:
"في نهاية القرن التاسع عشر ظهرت فرقة جديدة متطرفة تدين بالتشيع والإسماعيلية وبفكرة المهدية وهي فرقة البابية".
والحق أن "البابية" لا تدين بشيء من ذلك أبدا، إذ هي دين جديد، لا يؤمن بالإسلام أصلا، بله التشيع والإسماعيلية والمهدية ...!، ولكن هذه الطائفة - ولعل هذا هو ما يقصده أستاذنا الكبير- قد اخذت في يده أمرها - وهي تدين بالإسلام الشيعي- الهدية وسيلة للظهور، وحينما تم للبابين الأمر، كفر الباب مبرزا على حسين بالإسلام عامة، وأعلن ميلاد ديانته الجديدة، التي لم تلبث هي الأخرى إلا قليلاً، حتى أعلن سقوطها تابع من أتباعها هو بهاء الله صاحب الديانة البهائية.
ولم تكن "البابية" حينما قامت بدعوى الهدية، واتخذت هذه الأسطورة وسيلتها للظهور، تدين بالإسماعيلية كما يحدثنا المؤلف، ولكنها كانت تدين بالإثني عشرية، إذ هي في بدء تكوينها من أبناء الطائفة "الشيخية" المنتسبة للشيخ محمد الإحسائي، والشيخية هذه إمامية إئنا عشرية، كدين الدولة الرسمي في إيران، وليست أبداً امامية إسماعيلية.
٢٠ - وفي صفحة (٦٧) يقول المؤلف: "وأما بهاء الله فقد نفي إلي أدرنة".
والفاريء لهذه العبارة، لا يشك أن مدينة " أدرنة كانت المنفى الأخير لصاحب الديانة البهائية، ولكنها في الحق لم تكن كذلك؛ إذ نفي إليها صاحبنا هذا عام في ١٨٦٤م، ومكث بها أربع سنوات فقط، نفي بعدها عام ١٨٦٨م إلى مدينة "عكا" التي تعتبر بالنسبة إليه معتقله الأخير.
٢١ - وفي صفحة (١٠١) يقول المؤلف؛ "في القرن الثاني الهجري حينما ترجمت كتب الفلسفة إلي اللغة العربية، اندس من بعض الجهات أو تسربت فكرة من الأفلاطونية الحديثة من مثل نظرية الفيض الإلهى والفناء في الله".
فأستاذنا المؤلف يرجع نظرية "الفناء" إلى الأفلاطونية المحدثة ، وأكبر الظن أنها تنتسب إلى الهند أكثر من انتسابها إلى الإسكندرية، ولقد فرغ الباحثون من بيان تسرب هذه النظرية من "النرفانا " Nirvanaa الهندية ، وحسبك
أن الصوفي الكبير أبا يزيد البسطامي، هو الذي تلقاها عن شيخه أبي علي السندي، وكان أول من بثها في البيئة الإسلامية؛ يقول العلامة "نيكلسون" Nicholson :
"كان الصوفي الفارسي أبو يزيد البسطامي، أول من استعمل كلة الفناء بمعناها الصوفي الدقيق، أي بمعنى محمو النفس الإنسانية وآثارها وصفاتها، حتى ليمكن أن يعد هذا الرجل بحق أول واضع لهذا المذهب".
ويؤيدنا فيما ذهبنا إليه "ماسقيون " Massignon و "جولد زيهر"Goldsther و "باربولد" Barlbold وكثير من الباحثين .
٢٢ - وفي صفحة (١١٦) أورد مؤلفنا لأبي العلاء قوله:
خذوا في سبيل العقل تهدوا بهديه
ولا يرجون . غير المهيمين راج
ولا تطفئوا نور المليك فإنه
ممتع كل من حجي بسداد
ولا شك أنك قد أدركت معي هذا الاضطراب الذي لحق ببني الشيخ، وقد كان يلتزم ما لا يلزم ...!
وصواب البيتين كما في " اللزوميات " (طبع عزيز زند ١٨٩١):
خذوا في سبيل العقل تهدوا بهديه
ولا يرجون . غير المهيمن راجي
ولا تطفئوا نور الليلك فإنه
ممتع كل من حِجَى بسراج
أما ما أورده المؤلف لشيخ المعرة من قوله :
"بصاحب حيلة يغط النساء" فهو خطأ مطبعي، صوابه " يعظ النساء" .
٢٣ - أوجز أستاذنا الكبير كثيرا في ثنايا البحث، وأكبر الظن أنك عذيره في ذلك فهو ينشر كتيباً، بيد أنه في الحق قد أسهب وأطال في أشياء، هي في ذاتها قيمة، ولكن لا تفرضها عليه طبيعة البحث، أو على الأقل لا يتحملها هذا الكتيب، فغيرها مما لم يحدثنا عنه المؤلف من لب الموضوع، أحق بمكانها وآصل وأجدر.
أما هذه الاستطرادات كتحليله لرسائل إخوان الصفاء، وتحدثه عن الأمير الحمداني سيف الدولة كمتشيع، وعن
الصوفي الكبير أبي الحسين الخلاج، والشاعر الفحل أبي الطيب المتنبي كأثرين من آثار القرامطة، ودوافع قيام هذه الطائفة هل هو اقتصادي أو غير اقتصادي؟ وتحليله لقضية ابن الطفيل "حي بن يقظان" فمكان ذلك كله - فيما أري - البحوث الكبيرة والدراسات المستفيضة.
وبعد فهذه مأخذ وملاحظات ، أيدينها على كتاب أحمد أمين، ونشرتها في مجلة أحمد أمين، لأعطيك بذلك صورة واضحة للعالم لخلق الرجل وشخصيته، في عصر يعج بالفوضى والتهريج والرياء والنفاق، حتى في ميدان العلم الذي اكتسحته الديماجوجية، وانحط مستواه حتى في الأوساط الجامعية، وأكبر الظن أبي لست أبالغ كثيرا إذا ما حدثتك أن أحمد أمين ، ونفرا قليلاً من رفاقه ، يعيشون اليوم أمة وحدهم.
(تم النقد)
