الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 695الرجوع إلى "الثقافة"

نقد, إيساغوجى، لفرفريوس الصوري ، نقل ابي عثمان الدمشقي، مع حياة فرفريوس وفلسفته - للدكتور أحمد فؤاد الاهواني، ١١٥ صفحة - دار إحياء الكتب العربية - القاهرة

Share

من عجائب الأمور أن ينشد هذا الفيلسوف الأفلوطني راحة في الزواج بعد سن عالية فلا يجدها ، فيهجر زوجته . فتتوسل إليه أن يعود ، فيكتب إليها رسالة مطولة يقول فيها : " لا يعرف الرجل الحكيم إلا عدد قليل من الناس ، بل إن شئت فكل الناس تجهله . . والله وحده هو الذي يعرفه . .

ويظهر أن الحكم الصوري كان عارفا بأن الناس سينسونه بل سيجهلونه . فكتب هذا إلى زوجته ، وقد ظهر استاذه أفلوطين، وعرفه الناس ، وعرفت له مدرسة فلسفية تنسب إليه . أما أما فرفريوس فلم يعرف الناس من سيرته إلا قليلا . وظل الغموض يكتنف حياته ؛ ومع أنه هو الذي كتب سيرة استاذه أفلوطين وأبقاها في الزمن فإن واحدا من الناس لم يكتب سيرته ولم يترجم له . إلا ما جاء من كلامه هو نفسه في خلال ترجمته لأفلوطين .

ولقد عرف العرب فرفريوس ، وجاء اسمه في كتب تاريخ الفلسفة عندهم ، وترجموا له ايسر التراجم وأوجزها ؛ بدا بذلك  "ابن النديم " في كتابه " الفهرست ، ونقل " القفطى" ما ذكره ابن النديم .

وظلت هذه التف اليسيرة هي كل ما يعرف الناس عن فرفريوس وحياته وفلسفته إلى أن جاء " بيديز " فصنع تحقيقا وافيا لحياة هذا الحكم ، فكان كتابه أول ترجمة مستقلة وافية لفرفريوس .

كان ذلك في عام ١٩١٣ حين شرت أول دراسة عن حياة فرقريوس ؛ واليوم ينشر الدكتور الأهواني

أول دراسة باللغة العربية عن حياة فرفريوس، ثم يضيف إليها كتاب إساغوجي الذي نقله أبو عثمان الدمشقي وظهر الموضوعان في كتاب واحد هو الذي نعرضه اليوم .

ولقد شهد القرن الثالث الميلادي مولد فرفريوس السوري ، وهو أبى يونانيا ولا رومانيا ، ولكنه من أصل سورى ، فهو من أولئك الحكماء الشرقيين الذين تأثروا فلسفة اليونان أو الرومان ، وقد اتجه فعلا إلى "أثينا " فدرس فيها بقايا الفلسفة المتخلفة عن أفلاطون وأرسطو : ثم اتجه إلي روما حيث تنفذ في أفلوطين . وهناك جذب إليه أنظار معلمه بذكائه ومناقشاته وغوصه على طلب المعرفة ، حيث جملة أفلوطين من جملة خواصه وعهد إليه بتصحيح كتبه .

ولم تكن مناقشات فرفريوس وحده هي وحدها الظاهرة في مدرسة أفلوطين . فقد كانت روح البحث الحر سائدة في ذلك الوقت . فكان الطلبة يناقشون الأساتذة ويذهبون في الرأي غير مذاهبم ، فلا يضيق الأساتذة بهذا الجو العلمي النشيط ، وكثيرا ما كانت النصوص تقرأ على غير وجهها الصحيح ، فإنا يطالب يبين الخطأ في القراءة فيستقيم الأمر ، كما حدث مرة أن " أمينبوس ، كان يشرح ذات مرة " طياوس " فمرض مسألة بدت عيرة الحل . . ودخل فرفريوس الدرس في ذلك الوقت ، وبين أن قراءة النص خطأ . فانحلت المسألة .

وتري فرفريوس مرة أخري يخالف أستاذه أفلوطين في مسألة " المثل " ووجودها خارج العقل . فيؤلف في

ذلك رسالة يدفعها إلى " أميليوس " ويطلب منه أن يقرأها على الطلبة وأن يرد عليها . . ويرد عليه صاحبنا فلا يقتنع فرفريوس بالرد ، ويكتب رسالة أخرى في الرد على الرد .

ولم تؤثر هذه المناقشات وهذا الجدل العلمي الطريف في العلاقة بين الطلبة والمعلمين ، فقد كان فرفريوس يحب أستاذه أفلوطين حبا جما ، ويكن له الاحترام الشديد ، ولكن ذلك لم يمنعه من المناقشة والاعتراض ؛ ولم يضق أفلوطين بهذه الاعتراضات ، بل كان يرحب بها ويقول : " لو لم يسألني فرفريوس ما وجدت اعتراضات تحتاج إلي حل ، وما وجدت شيئا أدونه .

ولقد عرضت لهذا الحكيم مرة من الظروف ما جعلته يفكر في أن يتخلص من الحياة عن طريق الانتحار ، ويروي هو نفسه القصة كلها قائلا : " وذات يوم أحس أفلوطين بعزمي على مفارقة الحياة ، فأتجه إلى فجأة - وكنت أسكن في داره - وأخبرني أن رغبتي في الانتحار لا أساس لها من الصواب ، وإنما جاءت عن مرض الماليخوليا ، ثم دعاني إلى الرحلة ، فأجبته إلى ذلك وذهبت إلي صقلية . . وتخلصت بذلك من الرغبة في الموت . . ولو انني حرمت من البقاء إلى جوار أفلوطين ساعة وفاته .

وما أشبه حكيم صور بشاعرنا حافظ إبراهيم حسين فكر في الخلاص من الحياة ، لولا أنه خشي سوء الصبر في الآخرة ، فيكون قد خسر دنياه وآخرته فقال :

أضرت به الأولى فهام بأختها

فإن ساءت الأخرى قويلاه منهما

فهي رياح الموت نكبا وأطفئي

                سراج حياتي قبل أن يتحطما . .

ولكن الشاعري اجتاز بعد ذلك تلك المحنة النفسية والتجربة القاسية ، وعاش بعد ذلك أكثر من ثلاثين عاما يؤدي رسالته في الحياة ، ويمشى الخطي التي كتب الله عليه أن يمشها ؛ كما اجتاز فرفريوس من قبله تلك المحنة النفسية التى نزلت به . وعاش بعد الأزمة الحادة التي مرت به ، طوراً فى " صقلية " التى اختارها لينعم فيها بهدوء أعصابه . وطورا في مدينة قرطاجنة ، وطورا في مدينة روما التي عاد إليها ليشغل الفراغ الذي تركه أستاذه أفلوطين بعد وفاته . . ثم يشاء الله أن ينقلب فرفريوس الكاره للحياة ، الساعي إلي التخلص منها - إنسانا تملأ الدنيا قلبه وكل جارحة فيه . .

فهو يألف الطبيعة وعيها ويبتهج لها ، ويلاعب الطير ، ويتأمل في طبائع الحيوان ، ويطوي بينه وبين الأزمة النفسية أمد بعيد . .

وهذه النظرة العملية إلي الحياة هي التي كونت أكبر الفروق بين فرفريوس وأستاذه أفلوطين . فأفلوطين ميتافيزيقي نظري ، وفرفريوس أخلافي عملي . إلا أن فرفريوس على الرغم من ذلك لم يسلم من نقد الشيخ الرئيس ابن سينا وتعرض له بقوله : " وأكثر ما هوس الناس في هذا هو الذي صنف لهم إيساغوحى - يعني فرفريوس - وكان حريصا على أن يتكلم بأقوال مخيلة شعرية صوفية ، يقتصر منها لنفسه ولغيره على التخيل ".

وإنا كان فرفريوس قد تعرض لنقد مفكر إسلامي كالرئيس ابن سينا منذ ألف عام ، فإنه قد تعرض لاختلاف وجهات النظر الحديثة في تقدير قيمة عمله في المنطق - أى البحث في المقولات والتقديم لها - فيذهب " يرائتل " وهو مؤرخ المنطق إلى الإقلال من منزلته ، على حين أن " بيديز " يقول : (إن مقولات أرسطو ، مع الشرح الذي عمله فرفريوس ، وتكون فصلا مشهورا في تاريخ الفلسفة ، ذلك أن هذه النظرية الغريبة الخاصة بصور التفكير لا تزال حتى اليوم تنقل على نتاج عقولنا وتطبعها بطابعها ).

ولقد كان فرفريوس من الممتنعين عن أكل اللحم ، وله في ذلك رسالة عنوانها " الامتناع عن أكل اللحم " فهو بذلك يسبق شاعرنا الفيلسوف المعري في الاحتجاج لمذهبه . ولم تكن سبيل الرجلين في الامتناع واحدة أو مطابقة كل المطابقة ؛ فالفيلسوف الصوري يري أن في الحيوانات جزءا عاقلا . . وأنها تشبهنا ، وأن علينا واجبات نحوها . وحكيم المعرة وشاعرها يرى في الامتناع ضربا من العطف ، ويرى في أكل اللحم الحيواني "ظلما " فحرم على نفسه عسل النحل لأنها لم تجمعه كي يكون لغيرها ، ولا صنعته للندى  والنتائج. .

هذا هو حكيم صور كما رسمه لنا الدكتور الأهواني في كتابه . أما كتابه " إيساغوجي " الذي نقله عن السريانية أبو عثمان الدمشق فقد نشره المحقق مع مقدمة في قيمة الكلبات الخمس ، ومع تعليقات للحسن بن سوار ، وكلها مساهمة طيبة من المحقق في إحياء أثر قديم .

بقيت لي كلمة في كتابة الأعلام اليونانية . فالدكتور الأهواني قد جرى فيها على طريقة واحدة . إلا أنه في بعض

المواضع قد يخرج عن هذه الطريقة فيوقع القارئ في ليس ما كان أحراء ألا يضاف فقد ذكر اسم الأمبراطور " جاليانوس " هكذا صحيحا في صفحة١٠ ، ثم عاد في صفحة ١٤ ورسمه هكذا " جالينوس " وهو رسم يشتبه مع اسم الطبيب جالينوس الذي لا يقصده المحقق طبعا

وفيما عدا ذلك فالكتاب يحيي لنا نصا قديما من أقدم ما ترجمه العرب في المنطق . ويصور لما حياة فيلسوف أنتجه الشرق ، واجتذبته أثينا وروما في العصر الثالث المسيحي.

اشترك في نشرتنا البريدية