هذا كتاب طريف في موضوعه وفي طريقة عرضه ، دبجته ببراعة السيدة الفاضلة وداد سكاكيني دفاعا عن المرأة عامة ، والمرأة العربية في عصرنا الحديث خاصة .
وقد اصطنعت في تأليفها لهذا الكتاب أسلوب الباحثين المحققين ؛ فهي تستعرض المرأة في العصور المختلفة ، وعند الغربيين والشرقين ، ومدى ما اضطلعت في تاريخ الحضارة وتاريخ الآداب والفنون . كل ذلك لتدخل إلى دفاعها من أقرب الطرق وأوضحها ، ولتتخذ إليه أسلم السبل وأبينها .
وانت تواجه فكرة السيدة وداد وغايتها من تأليف كتابها في كل صفحة من صفحات الكتاب فالرجل يتهم المرأة اتهامات شتى ؛ تارة في مقوماتها العقلية ، وتارة في مقوماتها الخلقية ، يملى عليه ذلك غرضه ؛ فهو الخصم والحكم . وينسى ان الطبيعة الإنسانية واحدة ، وإن افترقت إلى رجل وامرأة ليتم تكوين الجنس البشري لا ليدعي الرجل لنفسه كل فضيلة عقلية وكل فضيلة خلقية .
وتحكم المؤلفة في هذه الدعوى إلى فضليات النساء اللاتي أثرن في تاريخ الإنسانية ، سواء كن من أديبات اليونان ، أو من أديبات فرنسا ، أو من أديبات العرب . والكتاب من هذه الناحية يمكن أن يعد تاريخا لما قامت
به المرأة في الأجيال المتعاقبة ، وخاصة المرأة العربية الحديثة منذ صرخ قاسم أمين صرخته ، فمزقت حجابها ، وخرجت من عقر دارها إلى ميدان الحياة العلمية والأدبية تحفر ببنيانها الرقيق سطورا في العلم والأدب ، ومن هنا كنت تطلع في هذا الكتاب على كل ما نهضت به المرأة العربية في عصرنا ، سواء في مصر أو في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق ، وكل ما شاركت فيه من ثورات سياسية أو نهضة اجتماعية . وان نجد جمعية نسائية في بلدة من بلداننا ، أو لونا من ألوان التقدم للمرأة في شرقنا قد أهمل ، بل كل عمل يتصل بها ، وكل لون معرفة ، قد سجل ورسم يريشة دقيقة بارعة في التصوير والإخراج .
والسيدة وداد تمتاز بين أدبياتنا الحديثات بأسلوب رصين فيه وقار ، وفيه دقة حس ؟ فهي كاتبة متأنية تملك ناصية الكلام ، وتسعى دائما إلى العبارة الجزلة ترصفها رصفا ، وتشعر أنه لا يستعصي عليها في هذا الرصف لفظة ؛ فاللغة العربية ذلول لها . وإنها لتعتمد في صياغتها دائما على لفظة شعرية قديمة ، أو لفظة قرآية كريمة ، فيتلألأ الأسلوب ويزداد بيانا ونصاعة .
والكتاب مع أنه إنصاف ودفاع عن المرأة ليس فيه عنف ولا حدة ، بل فيه وصف للحقيقة ومحاولة بسط
حجج الدفاع دون التجني على أحد . وإنه لكسب للأدب غير قليل أن يخرج هذا الدفع في تلك الصورة المعتدلة الهادئة ؛ فقد غمرت الأسواق الأدبية ألوان من العنف في عرض الآراء حتى ليخيل إلى الإنسان في كثير من الأحوال انه يري معارك شجار لا طرفي جدل وحوار .
وكتاب السيدة وداد من هذا الجانب ليس فيه ما يقبو على الأذن أو الذوق . بل على العكس هو كتاب الأذن والذوق ، كتاب الأذن لموسيقي أسلوبه الرصينة ، وكتاب الذوق له أسلوبه واعتداله . وقد تغلب ناحية الخطابة في بعض جوانبه ، ولكن السيدة الفاضلة مع ذلك تتحدث إليك في أدب ووضوح مبتعدة عن أساليب التفاخر الميت .
هذا الكتاب إذا من خير الكتب التي ألفت في قضية المرأة ؛ فقد عرضت فيه هذه القضية مزودة بأدلتها في شكل هاديء . إذ حاولت صاحبته أن تجادل الرجل بالتي هي أحسن ، وان ترد عليه اتهاماته للمرأة ، وأن تضع مكانها تقديرا دقيقا للدور الذي لعبته وتلعبه في تاريخ الحضارة حتى اليوم .
وأنت لن تجد كتابا أودع فيه بأمانة تاريخ المرأة العربية الحديثة مثل هذا الكتاب ، فهو بيان لكل ما ظفرت به في مختلف أوجه النشاط وفي التعليم وغير التعليم . وهذا ما يحمله كتابا مهما ، لأنه يؤرخ لنا نهضة المرأة العربية وما كسبت منذ قاسم أمين ، وتتخلل ذلك آراء السيدة وداد فيها ينبغي ان تكون عليه ثقافة المرأة . وقد وقفت كثيرا عند الجانب الروحي ودعت مرارا إلى الاعتداد به . تقول ص ١٠٦ : " تريد للمرأة ثقافة مكينة تنفذ إلى روحها ، فتصقلها وتثير فيها الشوق للخبر والإحسان ، ثقافة ترفع مستواها ، وتحفظ تقواها ، وتشغل فراغها بما يعود على بيتها ومجتمعها بالخير والفائدة . على أن تشتمل هذه الثقافة المنشودة على ما يشق للفتاة المعاصرة آفاقا جديدة ، ويواتى الحاجة الراهنة ، كالفنون الجميلة التي تتفتح فيها مواهب الفتيات من موسيقى وتصوير وزخرفة وتطريز ، إلى علم النفس وتربية الطفل وأدب اللغة .
وإذا قدر لطالبة هذه الثقافة نصيب من ثقافة أجنبية ولم تدعمه بلغة أجدادها ، وتشعر شعور بلادها ، فإنها تعيش عدوة لقومها ، غريبة عن مجتمعها .
فهي تضم إلى الثقافة الفنية ثقافة روحية ، وهي تلح في أن تتلقن المرأة الحديثة بجانب الثقافة الأجنبية الثقافة العربية . والكتاب كله مطبوع بهذا الطابع . فليس فيه ثورة على تراث الآباء ، بل فيه دعوة إلى الانتفاع به ، وأن لا تتنكر المرأة في ثوب شيطان ، بل تظهر في زي ملاك بما طهر الدين من نفسها ، وقوم من خلقها ، حتى تتآلف مع رجلها وتنسجم في بيتها .
فالكتاب إنصاف المرأة العربية الحديثة ، ودعوة إلى تهذيبها ، ومد الآفاق أمامها في مختلف نواحي العلم والمعرفة دون أن تهمل هذا النور الروحي من التقوى الدافعة إلى الخير والسعادة . ولا تنسي المؤلفة أبدا هذا الجانب حتى في مواقف الخطابة . واستمع إليها تقول ص ١٤٧ : " لقد مضي العهد الذي كانت تفرض فيه علينا الإقامة الجبرية ، وأصبح من حقوقنا ان نتنفس كما يتنفس الرجال . فالهواء للجميع والشمس للجميع . . وطريقنا إلى المجد النسوي المنشود أن نكون خير الأمهات والزوجات وأخلص المديرات والمربيات للبيوت والأبناء ، وأوفي المجاهدات للعروبة والوطن ، على أن لا نهجم على هذه النهضة هجوم الجياع على القصاع ، فما كل امرأة ينبغي أن تكون زعيمة أو معلمة ، ولا كل سيدة يجب أن تصير طبيبة أو موظفة ، فكل من النساء ميسرة لما خلقت له من أمومة وزعامة ومن تدبير للمنزل أو تمرس بالفنون . هذا ما أدعو إليه سيداتنا وفتياتنا في نهضتهن الحاضرة . . وان يحدينا الزهو إذا لم نعتصم بحبل الله " .
والكتاب على هذا النحو فيه اتزان وهدوء ووقار ، وفيه دعوة إلى إصلاح وتهذيب وإرشاد . ونحن نهنئ السيدة وداد بهذا القسم الأول من إنصاف المرأة ، ونأمل أن لا تطول على قرائها فترة إصدارها للحلقات الأخرى من هذا الإنصاف .

